صفحات مميزةميشيل كيلو

هل نقول شكراً للنصرة: ميشيل كيلو

ميشيل كيلو

 بدأت اميركا تغير موقفها من الصراع في سوريا مع بدء تولي جون كيري منصب وزير خارجيتها. وكان هناك من يقول: إن السيدة هيلاري كلينتون لم تكن تعبّر عن سياسات باراك أوباما، بل عن مواقف تتكفل بجعلها مرشح الحزب الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية القادمة، وإن أحد المعنيين بالشأن السوري كان يساعدها على تحقيق طموحها مقابل ترشيحه نائباً لها. وإن السوريين كانوا ضحايا تلك الطموحات التي كلفتهم الكثير من الدماء والدموع لكونها عملت على تحييد الموقف الأميركي، كسباً لتأييد اللوبي الصهيوني الراغب حتماً في إخراج سوريا من معادلات القوة في المنطقة العربية. يريد تحقيق ذلك من خلال حماية النظام، الذي بدوره يحقق له هدفه.

ومع أن هذه التقديرات لا تعدو كونها مجرد تخمينات عامة، فإن التغير في الموقف الأميركي صار ملحوظاً بعد تولي جون كيري وزارة الخارجية في واشنطن، وقيام أميركا بوضع جبهة النصرة على قائمة المنظمات الإرهابية. وترتبت على ذلك نتيجتان هما: تخلي أميركا عما أسمته تسليح المعارضة السورية، وموافقتها على تغيير لون خطها الأحمر الخاص بعدم إمداد المقاومة بالسلاح إلى الوردي، مع ربط ذلك بالرغبة في تسليح القوى غير الأصولية من الجيش الحرّ من جهة. والعمل على إحداث تبدّل في موازين القوى العسكرية عبر تقديم، أو السماح بتقديم سلاح للمعارضة، يُرغم النظام أو أطرافاً منه على قبول التفاوض والسماح بنقل البلاد الى نظام ديمقراطي طبقاً لمقررات مؤتمر جنيف، من جهة أخرى.

لا شك في أن لجبهة النصرة دوراً ما في هذه النقلة الأميركية، وفي أن الموقف الأميركي منها هو الذي بعث الحرارة في أوصال ديبلوماسية في واشنطن الباردة، التي كانت تتفرّج بدم بارد على المجزرة السورية، بما أن النصرة ليست فقط تنظيماً مسلحاً شرع ظهوره يبدّل طبيعة الصراع القائم في سوريا، بل هي أيضاً الجهة التي يجبر ظهورها أميركا على تذكر مأساة جيشها في العراق، وما يمكن أن يترتب على ظهور النصرة من تداعيات سورية وإقليمية وتلمس سياسة جديدة تقوم على العمل لقطع تطور كان من الجلي انه سيترتب على استمرار الصراع السوري وتصاعده. مثله في ذلك مثل  ظهور الجبهة والانعطاف المفصلي الذي يبدو أن نشاطها تسبب به، علماً أنه يضمر إمكانيتين خطيرتين: انقلاب الصراع مع النظام إلى صراع مذهبي، وانتقاله إلى بلدان أخرى في المنطقة وخروجه بالتالي عن السيطرة في المجالين السوري والعربي/الإقليمي وما سيعنيه ذلك عندئذ من تهديد للأمن والسلم في كل مكان، ومن توتر واضطراب في علاقات الدولتين الكبريين المتصارعتين على سوريا وفيها.

وكان الأميركيون قبل النصرة يعتمدون سياسة تقوم على إطالة أمد الصراع، شأنهم في ذلك شأن خصمهم الروسي، لاعتقادهم أن ذلك سيرجح كفتهم على كفته. هو الذي لطالما تذرّع بالخطر الإسلامي كي يحول دون وقف العنف وإيجاد حلّ سياسي للمسألة السورية، في حين كانت سياسات واشنطن تلتقي مع هذا الخط، انطلاقاً من حسابات تدور حول إخراج سوريا من موازين القوى الشرق أوسطية، وخصوصاً من ميزان القوى مع إسرائيل. لكن بروز الجبهة خربط حسابات الجانبين، وجعل أميركا تفهم أن سياستها السورية ليست على ما يرام، وأن حصاد البيدر لن يتفق مع حصاد الحقل مع ذهاب الصراع إلى غير المكان الذي أرادته له والخوف من أن ينتهي بجر إسرائيل إليه حيث ستقاتل قوة إسلامية نشطة لن تحدّ الفوضى في سوريا والمنطقة من فاعليتها ورغبتها في الحرب. بل إنها ستقويها وفي حسابات تل أبيب، لن تحتاج بعد اليوم الى مقاتلة بلاد مدمرة يقودها نظام ديموقراطي ضعيف يعيد بناءها وسط فوضى عارمة، سيصعب عليه السيطرة على مقاتلي الجبهة أو كبح جماحهم، مع ما يعنيه ذلك من نتائج قد تكون في مصلحتها كطرف يهدد مصالح أميركا وأمن إسرائيل. مما قد ينقل المعركة ضد الأخيرة إلى طور نوعي يأخذها من الزمن القومي، الذي فشل بعثياً في مواجهتها وهزمته بسهولة ويسر إلى زمن مذهبي لم تنجح في القضاء عليه خلال مواجهاتها السابقة المحدودة معه في كل من لبنان وفلسطين. علماً أنه سيكون أكبر وأشد خطورة وأكثر قدرة على الصراع في صورته السورية منه في النسختين اللبنانية والفلسطينية.

وجدت أميركا نفسها مكرهة على تعديل سياساتها التي كانت تلحق ضرراً فادحاً في مجتمع ودولة سوريا. فهل يمكن من الآن فصاعداً القول بثقة واطمئنان إن هذا التعديل حدث بسبب ظهور جبهة النصرة وما قد يترتب عليه من تطورات؟ أعتقد أنني لن أجافي الصواب إن أنا نسبت شيئاً من تغير الموقف الأميركي إلى النصرة ونشاطها السوري وما قد يترتب عليه من عقابيل معقدة. وهل يمكننا أن نرى في هذا التعديل بداية انخراط اميركي مباشر في المأزق السوري يكبل أيدي خصمها الروسي قبل تحقيق الانتصار عليه، ويبدّل أدوار أطراف الصراع الأخرى العربية منها والإقليمية والدولية التي يخبرنا موقف فرنسا الحالي أنها ستكون محكومة من الآن فصاعداً  بالموقف الأميركي بما يفتح باب الاحتمالات المغلق اليوم على صراعات قد تنتشر في طول المنطقة وعرضها، خاصة مع إيران التي ستهزم بالضربة القاضية مع سقوط النظام الأسدي، وستجد نفسها محاصرة وضعيفة استراتيجياً ما دام سقوطه لن يخرجها من سوريا وحدها بل ومن معظم المناطق التي أعانها على اختراقها والتوضّع فيها.

ليس ظهور النصرة بالأمر القليل الأهمية أو النتائج، سواء بالنسبة إلينا نحن السوريين أم بالنسبة إلى مجمل منطقتنا. يكفي أن نشاطها وتطورها العاصف عندنا أرغم أميركا على مبارحة سياسة تركتنا عرضة لشتى صنوف القتل والدمار. هل نقول شكراً لجبهة النصرة، لأنها لعبت دوراً في فرض تغيير الموقف الأميركي، ولم تتسوّل مناطق عازلة وممرات آمنة كما فعل المجلس الوطني، وزرعت نفسها في الأرض وأثارت في الذاكرة الأميركية صورة البعبع الأصولي الذي أذاق جيش واشنطن الأمرّين في العراق؟ ويبدو أنه شرع يطور وجوده فيه أيضاً فإن التحم مع مثيله في سوريا وقعت الواقعة وخرج الأمر من يد أصحاب الأمر وراء المحيط خاصة إن هو تغلغل إلى الخليج وتموضع في الجولان  وانتشر الى كل مكان في العراق.

ظهرت النصرة، فسارع الأميركيون إلى ملاقاة ظهورها على طريقتهم حين يباغتون بما يفاجئهم: بتبديل سياساتهم وتكييف أوضاعهم معه على أن يعملوا لاحتوائه في مرحلة لاحقة. نحن كسوريين، أفدنا من هذا كله، إن كان صحيحاً أن تغيير سياسة أميركا السورية هو شرط اي تغيير في سوريا!

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى