صفحات مميزةعمر قدور

علمانيون وإسلاميون… سلْميون وعسكر/ عمر قدور

 

 

لم يكن الحراك السوري، في مختلف أشكاله، في خطر كما هو اليوم. على الصعيد العسكري، أدى التدخل الروسي وظيفته في تغيير موازين القوى لمصلحة قوات النظام وحلفائه، ولئن كان تقدّم تلك القوات بطيئاً ومكلفاً إلا أنه لم يعد يفتقد الإصرار كما قبلاً. على الصعيد السياسي، تشير الدلائل كلها إلى اتفاق روسي – أميركي مبدئي على تصفية القضية السورية خلال السنة الحالية. الاختلاف الطــــفيف في وجــهات نظر الجانبين لا يصنع فرقاً لمصلحة عملية تغيير حقيـــقية، وهو على أية حال اختلاف مؤجل لتعلّقه بمــرحلة الـــبت بمصـــير بشار التــي لن تشــهدها الإدارة الأميركية الــحالية.

في الطريق إلى تظهير التسوية، لا تخفي إدارة أوباما ضغوطها على المعارضة لـ «تليين» مواقفها، ضغوطاً هي أقرب إلى التهديد بصلاحيات المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، التي تمنحه حق تشكيل وفد المعارضة، وتتكامل مع الضغط العسكري الروسي في الميدان، الذي يتّضح تماماً عدم وجود نية أو قدرة على مواجهته من حلفاء المعارضة. الإدارة الأميركية اختارت حليفها العسكري في مواجهة «داعش»، وهو قوات الحماية الكردية فقط، أي أنها تراجعت عملياً عن تصنيفها السابق في ما يخص الفصائل المتطرفة والمعتدلة، وباتت أقرب إلى اعتماد قوات الحماية الكردية وقوات النظام، مع السكوت التام على مشروع تصفية بقية الفصائل.

شئنا أم أبينا، النية الدولية متّجهة إلى إقامة فرز حاد في صفوف خصوم النظام، الفرز سيكون بين معارضة علمانية وأخرى إسلامية، ما كان يسمى اعتدالاً لن يبقى له وجود في الأدبيات الديبلوماسية الخاصة بسورية، وقد لا يتبقى له وجود فعلي على الأرض. باستثناء قوات الحماية الكردية، سيستقر هذا الفرز على معارضة سياسية علمانية وفصائل عســكرية إسلامية، ما يعني الانفصال التام بين المستويين. وسـتكون المعارضة الســـياسية أمام خيارين، فإما الوقوف ضد الإرادة الدولية، وحرمانها تالياً الاعتراف الدولي المحدود، أو الانصياع للإرادة الدولية وفقدان صفتها التمثيلية نهائياً.

في غياب أدنى تأكيد لحلّ عادل للقضية السورية، لن يكون هناك خيار ثالث أمام المعارضة، وهي في النهاية ستضطر إلى إنجاح الفرز الذي سيصل إلى الخاتمة التي تواطأ عليها الجميع، وهي إما بشار وإما التطرف.

النجاح المبدئي لمؤتمر الرياض لا يعكس واقع المعارضة الحقيقي، ما يعكسه أكثر ربما هو بدء الانسحاب من تفاهمات الرياض، ومحاولات الانقضاض عليها من خارجها. لا تخرج عن تلك المحاولات إعادة الجدل الذي تجاوزه الواقع حول السلمية والعسكرة، والذي تبدو فيه السلمية قدراً علمانياً والعسكرة خياراً إسلامياً أبدياً.

الآن، ثمة من يستدل بالنتائج ليقول إن عسكرة الثورة أوصلت إليها، وفشلت فشلاً ذريعاً، وكأن فشل العسكرة وحده دليل على نجاح الحراك السلمي في ما لو بقي كذلك. بالأحرى، هو رد على الذين قالوا بفشل الخيار السلمي أمام نظام متوحش راح يقتل يومياً مئات المدنيين، حينما لم تكن رصاصة واحدة أطلقت ضده. سطحية هذا الجدل تبرز في كونه لا يقرّ بفشل الخيار السلمي في بلد انقسم مجتمعياً مع أول تظاهرة، أي في ظرف لا أمل فيه بإضراب سلمي شامل، ولا بأن تنفض الحلقات العليا من النظام عن دعمه مع الوقت للأسباب نفسها التي صنعت الانقسام المجتمعي.

هذا لا يمنح امتيازاً مطلقاً للعسكرة التي أتت بمسحة إسلامية عامة، وإن تنوعت بين الاعتدال والتطرف، والأهم أنه لا يمنح أدنى مشروعية للتنظيمات الإسلامية العابرة للحدود، مثلما لا يمنح مشروعية لتهميش أو تدني الملمح الوطني لدى فصائل تُحسب على معسكر الاعتدال.

واحد من الأسئلة التي يجوز طرحها، أو تأخر طرحها طويلاً، هو عن الانقسام بين علمانيين يؤيدون العسكرة وآخرين يرفضونها، مع اتفاق الطرفين عملياً على التعفف عنها. ساحة العسكرة تُركت فعلاً للإسلاميين منذ البداية، وهم كانوا جاهزين لها على عكس العلمانيين الذين تأخروا حتى اعترف بعض منهم بأنها واقع يصعب إنكاره. ولا بأس بالاعتراف بأن نسبة مؤثرة من العلمانيين كانت في طليعة من غادروا البلاد، وإذ لا يجوز أن يُنكر عليهم هاجس الأمان الشخصي إلا أن المحصلة كانت على حساب فعاليتهم التي راحت تتضاءل أصلاً مع العسكرة.

من دون التذرع ببطولات فردية أو مظلوميات شبه فردية، ينبغي إجراء مراجعة فكرية حقيقية حول الأسباب التي أدت إلى فشل الخيار السلمي، ومن بعده الخيار العسكري، مع ملاحظة أن الظروف الدولية لم تكن لمصلحة التغيير في سورية. فالسؤال يخص أولاً التيار الديموقراطي المدني، وهو على ضعفه قبل اندلاع الثورات أعفى نفسه من المراجعة، بل استسلم إلى حد كبير أمام توزع ميزان القوى بين طغيان حاكم وإسلاميين يجيدون استثمار الرأسمال الديني الرمزي، ولا يتعففون عن مقارعة العنف بالعنف.

لنعترف هنا بأن الرأسمال الرمزي للعلمانيين خارجي، فهو مؤسس بجملته على الحداثة الغربية، وكان رهانه العملي غربياً مع انـــطلاق الـــثورة، بمــعنى ألا يسمح الغرب للنــظام بإبادة حركة ديـــموقراطية ناشئة، وهذا ما التقى بدايةً مع تطلّع شعبي غير بعيد من الميديا الغربية. لكن الغرب أثبت إخلاصه لمصالحه، ولرؤيته الخاصة للقوى على الأرض، أكثر من إخلاصه لقيمه ذاتها، فلم يسارع إلى نجدة العلمانية «المهزومة»، بل لا يخفي جزء منه الآن نيّته استثمارها لإعادة إنتاج النظام. بمعنى أن العلمـــانية الســـورية لم تكن مقنعة للغرب في طور السلمية، ولم تكن مقنعة له في طور العسكرة، لأنها في الحالتين لم تملك القوة التي تستطيع فرضها داخلياً وخارجياً.

ما سبق يطرح أسئلة حول المستقبل القريب والبعيد، فالإقرار بتقاسم مصادر القوة بين الاستبداد والإسلاميين يعني فشل مشروع التحول الديــموقراطي الآن ومستقبلاً. الإسلاميون لا يستطيعون أن يكونوا جزءاً من التحول ما لم ينضووا نهائياً في الإطار الوطني، وهم ليسوا مستعدين لتقاسم الساحة مع الذين تخلوا عنها باطراد، مثلما تصعب مطالبتهم بإلقاء السلاح ضد الاستبداد. يبقى أن يتساءل العلمانيون عن أفق الانقسام الذي يبدو من طبيعة كل طرف بين علماني سلمي وإسلامي قابل للعسكرة. ثمة سؤال آخر للتفكر أيضاً، لماذا يبدو العلماني مستعداً للإقرار بالهزيمة والقبول بها أكثر من استعداده للبحث في أسبابها؟

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى