صفحات العالم

هل يجوز الاحتفاء بالديموقراطية في تركيا؟/ مصطفى أكيول

 

 

 

وجّهتُ في الآونة الأخيرة انتقادات متكررة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحكومته التي تزداد سلطوية. لكن لو أقيم نظام عسكري، على غرار ذاك الذي حاولت فرضه مجموعة من الانقلابيين ليل الجمعة الماضي، لكان فاقداً للشرعية، لا بل أيضاً أشد قمعية ودموية إلى حد كبير. لقد رفضه الشعب التركي، بما في ذلك عدد كبير من خصوم أردوغان السياسيين، وهم محقّون في ذلك.

إذاً هل نجحت الديموقراطية في تركيا؟ من السابق لأوانه الإجابة عن هذا السؤال.

ثمة دروس كثيرة يجب استخلاصها من هذه الواقعة المثيرة للذهول. أولاً، لم يعد هناك من وجود لتركيا القديمة حيث كان بإمكان الدبابات اجتياح الشوارع وكان الجيش قادراً على زرع الرعب في نفوس الناس وإرغامهم على الرضوخ، كما حصل في الأعوام 1960 و1971 و1980، ومجدداً عام 1997، عندما قرّر القادة العسكريون أن الحكومات المنتخبة لا تنسجم مع الرؤية التأسيسية للبلاد. لا، هذه المرة نزل الشعب إلى الشارع وواجه الجنود المتمردين. ولعل العامل الأكثر حسماً هو أن أكثرية الجيش والشرطة ومؤسسات الدولة الأخرى لم تنضم إلى المحاولة الانقلابية.

ثمة جانب لافت آخر في الليل الطويل: ما جرى دحضَ بعضاً من ادّعاءات أردوغان التي تنم عن بارانويا لديه. فطوال سنوات، اتّهم الرئيس الإسلامي القوى العلمانية بالتآمر لإضعافه أو إطاحته. لكن عندما تقدّمت الدبابات، اتّخذت الأحزاب المعارضة ورابطات الأعمال ووسائل الإعلام الإخبارية الرئيسية موقفاً واضحاً مناهضاً لمحاولة الاستيلاء على السلطة.

في الواقع، قناة “سي إن إن تورك” التلفزيونية التي تنتمي إلى المجموعة الإعلامية التي هاجمها أنصار أردوغان قبل عامَين بتهمة “الإساءة إلى الرئيس”، هي التي أدّت دوراً أساسياً في مساعدته. ففي ذروة الأحداث، أطلّ أردوغان من مكان لم يُكشَف عنه، عبر شاشات “سي إن إن تورك” من خلال تطبيق “فايس تايم” عبر هاتفه الخليوي “آيفون”. وقد ناشد الشعب مقاومة الانقلاب في لحظةٍ يعتقد كثرٌ أنها أدّت دوراً حاسماً في إحباط المحاولة الانقلابية.

يُظهر هذا كله أن المجتمع التركي استبطن الديموقراطية الانتخابية، وأن العلمانيين الأتراك، على الرغم من اعتراضاتهم على إسلاموية حكومة أردوغان، يبحثون عن الحلول في إطار السياسة الديموقراطية. (لسوء الحظ، لم يتعلم العلمانيون المصريون هذا الدرس. فقد هلّلوا للانقلاب العسكري قبل ثلاثة أعوام، ليتبيّن أن الحكومة التي انبثقت عنه أشدّ قمعية وعنفاً إلى حد كبير).

في الوقت نفسه، تُظهر المحاولة الانقلابية ليل الجمعة بوضوح أن المخاوف التي لطالما راودت أردوغان من وجود “دولة موازية” ليست مخاوف وهمية لا أساس لها من الصحة. صحيح أن معظم نظريات المؤامرة التي روّج لها أردوغان وأنصاره في الآونة الأخيرة – عن مخططات غربية أو صهيونية – هي أوهام أكثر منها وقائع، لكن بحسب المقولة الشهيرة: “أن تكون مصاباً بالبارانويا لا يعني أنهم لا يطاردونك”.

سوف تُرغم محاولة الانقلاب أيضاً تركيا على الاعتراف بحركة غولن، وهي مجموعة إسلامية سرّية وجّهت إليها الحكومة على الفور أصابع الاتهام محمّلةً إياهاً المسؤولية عن التمرد ليل الجمعة. لطالما كان لأنصار حركة غولن وجود سرّي داخل القضاء والشرطة. لقد أنكرت الحركة وزعيمها، فتح الله غولن المقيم في بنسلفانيا، الوقوف وراء محاولة الانقلاب، لكن غولن أقرّ أيضاً بأنه ليس أكيداً من عدم ضلوع أتباعه في المخطط.

ليست الحكومة الطرف الوحيد الذي لم يقتنع بهذا النفي، بل ينضم إليها أيضاً عدد كبير من المراقبين العلمانيين المستقلين. تحوم الشبهات على نطاق واسع حول تسلّل حركة غولن إلى مؤسسات الدولة وسعيها إلى استغلالها تحقيقاً لمآربها المذهبية. يبدو تورّطها في المحاولة الانقلابية مرجّحاً جداً، وعلى الحكومة الأميركية أن تأخذ علماً بالأمر.

ماذا تخبّئ الأيام المقبلة في تركيا؟ أولاً، سوف تُشَنّ حملة واسعة للقبض على مخطّطي الانقلاب وأنصار حركة غولن. لقد جرى اعتقال نحو ستة آلاف شخص، بينهم قضاة رفيعو المستوى مشتبه بهم بالانتماء إلى حركة غولن. تلمّح بعض الشخصيات في الحكومة إلى أنها تريد إعادة العمل بعقوبة الإعدام.

بالطبع، للحكومة الحق في ملاحقة الأشخاص المتورّطين في هذا الهجوم واقتيادهم أمام العدالة. لكن يجب اتباع الأصول القانونية بدلاً من اللجوء إلى مطاردة شرسة مثل مطاردة الساحرات. فضلاً عن ذلك، وفي حين أنه يجب تطهير الدولة من العناصر المؤيّدين للانقلاب، لا يجب استخدام هذه المسألة ذريعة لملء مؤسسات الدولة، لا سيما القضاء، بأنصار أردوغان. (لقد جرى حتى الآن إقالة أكثر من ألفَي قاضٍ).

ثمة أمر مؤكّد: ستجعل هذه التجربة أردوغان أكثر نفوذاً وشعبية. لقد ظهر في موقع المدافع المظفَّر عن الأمة في وجه المؤامرة – مؤامرة حقيقية هذه المرة – وتعمَّق ارتباطه مع الناخبين. لكن ما ليس مؤكّداً الطريقة التي سيستخدم بها الرئيس نفوذه.

إذا تحلّى أردوغان بالحذر، فسوف يقدّر الدعم الذي حصل عليه من المعارضة العلمانية – بما في ذلك من الحزب الأساسي الموالي للأكراد – ويتوقّف عن النظر إليهم بأنهم أعداؤه. يمكن أن يُتيح ذلك فرصة لتحقيق الوحدة الوطنية والمصالحة بعد سنوات من الحكم المثير للانقسام. لقد أطلقت حكومته تحولاً براغماتياً في السياسة الخارجية في الأسابيع الأخيرة، عبر تحسين العلاقات المتضررة مع إسرائيل وروسيا. إذا اتّبعت الحكومة المسار البراغماتي نفسه داخل تركيا، يمكن أن تتقدّم البلاد نحو مستقبل أفضل.

لكن إذا استخدم أردوغان نفوذه المستجِدّ لفرض نظام سياسي أكثر سلطوية، وزيادة نفوذ الرئاسة، وتقويض منظومة الضوابط والتوازنات، سوف تكون الديموقراطية التركية في خطر. وإذا أبقى على المسار الانقسامي السائد في البلاد منذ بضعة أعوام، يبدو المستقبل القريب قاتماً. عندئذٍ يكون أردوغان قد أحبط كل الانقلابات وانتصر في كل الحروب، لكن السلام الذي تحتاج إليه تركيا سيبقى بعيداً جداً.

المصدر: “النيويورك تايمس” ترجمة نسرين ناضر

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى