صفحات الرأي

هل يصنع الديكتاتور نفسه… أم هناك من يصنعه؟


صباح علي الشاهر

هل يصنع الديكتاتور نفسه… أم هناك من يصنعه؟ بمعنى، هل يكفي توفر شروط الديكتاتور في الشخص لإعلان نفسه ديكتاتوراً، أم أن الأمر يستوجب توفر مستلزمات أخرى، خارج ذات مشروع الديكتاتور، تكون في الأغلب الأعم حاسمة لتأشير ولادة ديكتاتور حقيقي، بغض النظر عن الزمان والمكان؟

ردد البعض في الماضي ويردد الآن كلاماً يفتقد المصداقية من كون الزمان ، أو العصر، ليس زمان وعصر الديكتاتورية والديكتاتوريات، لأن هكذا أزمان وعصور ولّت ومن دونما رجعة ..

قالوا هذا بعد الحرب العالمية الأولى التي تهاوى فيها إستبداد القياصرة والعثمانيين، لتنبثق ديكتاتورية البروليتارية في روسيا المترامية الأطراف، ثم فاشية موسليني، ونازية هتلر، وهما أكبر تجسيد للديكتاتورية على مدى التأريخ، وفي قلب أوروبا الديمقراطية.

وعادوا ليقولوا نفس الكلام بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تمت هزيمة الفاشية والنازية، والأمبراطورية اليابانية، و من دون فاصل زمني تقريباً إنبثق نظام فرانكو الديكتاتوري العسكري في إسبانيا، والأنظمة العسكرية في اليونان، وتركيا.

على صعيد أوروبا كانت اللوحة هكذا، أما على صعيد آسيا وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية فكانت الديكتاتورية هي القاعدة، وغيرها إستثناء، بدءا من سنغمان ري، وشاه إيران، وصولاً إلى باتيستا كوبا، وديكتاتوريات جمهوريات الموز، علماً بأن كل هذه الديكتاتوريات وغيرها كانت مدعومة من العالم الغربي الديمقراطي، وقائدته أمريكا.

وحتى اليوم، وهم يتعقبون الديكتاتوريين الصغار، الذين تقتضي مصالحهم القضاء عليهم، فإنهم ينتقلون بنا من ديكتاتورية الأفراد، إلى ديكتاتوريات الدول والأحلاف، حيث أعلنت أمريكا نفسها ديكتاتور العالم، الذي لا يتقيد بالقوانين الدولية، ولا يحترم قوانين الدول الأخرى، ولا يعترف ولا يخضع إلا لقانونه هو.

السؤال الذي لا مندوحة من طرحة هو: هل ديكتاتورية الفرد أخطر وأشد وبالا من ديكتاتورية الدولة الواحدة، أو تحالف الدول؟

قالوا لنا العالم أضحى قرية واحدة، وعلينا بعد أن نعترف ونقر بهذا، أن نعترف ونقر بأن هذه القرية الواحدة يكفي أن يحكمها شرطي واحد، وعمدة واحد.

أما لماذا العالم قرية واحدة، فالجواب لأن تكنولوجيا الإتصالات، والثورة المعلوماتية قرّبت المسافات، وإختصرت الزمن، لا بل ألغته، بحيث أصبح بإمكانك أينما كنت في بقاع المعمورة أن تتصل بمن تريد بالصوت والصورة الثلاثية الأبعاد حتى، وتستلم المعلومة التي تريد، ووقتما تريد.

ليس مهماً التساؤل هل حقاً ستحصل على المعلومة التي تريد ووقتما تريد، أم أنك ستحصل على المعلومة التي يراد إيصالها إليك، وفي الوقت الذي يشاؤون ويقدرون، وبالكيفية التي يريدون.

هنيئاً للعاري الجائع في مجاهل أفريقياً، وهنيئاً للمنبوذ في الهند الذي لا يتجاوز دخل أسرته الإسبوعي دولاراً واحداً، فقد أصبحا سكان قرية واحدة جنباً إلى جنب مع ذاك الذي يربح في الساعة عشرات الملايين، وذاك الذي دخله في اليوم يعادل دخل عشرات القرى الحقيقية لألفية كاملة، بحسابات الواقع الراهن.

وحيث أن العالم أصبح قرية واحدة عمدتها السيد الامريكي فإن من حقه معاقبتكم جميعاً من أصغر فرد متهم بالإرهاب، أو مهدداً لأمن إسرائيل، إلى أكبر شارب في دولكم على إمتداد عالمكم المُذل المُهان، الموسوم بالعالم العربي الإسلامي، وما هو بعربي ولا إسلامي. وليس من حقكم ليس مقاضاة من يعتدي عليكم، ويدمر مدنكم على رؤوسكم، وإنما حتى رفع صوت الإحتجاج أو التذمر، خل عنكم الإدانة فالعمدة الأمريكي، هو وحده الذي يقرر من يدين وكيف يدين، علماً أن الإدانة قد تطال الجميع، من دون أن يسثنى أي من نزلاء (القرية الصغيرة) ولكن ليس أمريكا ولا إسرائيل، فهاتان الدولتان تتمتعان بالحصانة المطلقة، ومهما فعلا فإنهما لن يخضعا للمساءلة، أليست (القرية الصغيرة) قريتهم، وهم يلعبون بها كيفما شاؤوا وأرادوا.

أمريكا والغرب، وعلى الأقل خلال القرن المنصرم، كانا المسؤولين مسؤولية مباشرة عن وجود الديكتاتوريين في عالمنا العربي الإسلامي، وإن لم يكونوا مسؤولين عن وجودهم فعلى الأقل مسؤولين عن دعمهم، ومدهم بوسائل البقاء، وإحكام هيمنتهم على مقدرات الشعوب التي ابتليت بحكمهم، لذا فإن صحوة الضمير الآن تبدو غريبة على نحو مريب. ثم لماذا شملت يقظة الضمير هذه ديكتاتوريات بعينها، كانت معادية لأمريكا وإسرائيل ظاهرياً أو واقعياً، ولم تشمل أعتى الديكتاتوريات التي لا مثيل لها في العالم الحديث، وأغرب وأعجب الأنظمة التي يُعد وجودها وبالكيفية التي هي عليها إهانة للعقل العربي والإنسان العربي.

هل تجري عملية تسليم وإستلام؟ وهل نحن مقبلون على خارطة جديدة، غير خارطة سايكس بيكو، خارطة ينعدم فيها وجود الديكتاتوريين من النمط إياه (نمط بالروح بالدم نفديك يا ..) إلى نمط من الديكتاتوريات التي تضع الكتاب المقدس في جيب، والمسدس في جيب آخر. لنتذكر أن الغرب الرأسمالي دعم وساند الأنظمة الديكتاتورية ما بعد الحرب العالمية الأولى، ليس ساندها ورعاها فقط، وإنما حررها من العبودية العثمانية، وها هوذا يأتي اليوم محرراً أيضاً، ولكن من الديكتاتوريات المحلية العربية هذه المرّة.

في المرحلتين كان الغرب محرراً، وإذ تبين لنا أنه لم يُنشىء أنظمة ديمقراطية في المرحلة الأولى، حيث أن جل الأنظمة التي أقامها الغرب إما ملكية وراثية، أو أنظمة ما قبل نشوء الدولة، فإن من المؤكد أنه سوف لن يبني أنظمة الديمقراطية في المرحلة الثانية، فكما كان الأمر سابقاً سيكون حالياً ولا حقاً، إذ سيسعى الغرب لإيجاد حكام تابعين، يؤكدون تبعيتهم بزعم الوفاء والإمتنان لمن أسهم في تحررهم، وهذا الدعم للحكام الجدد سيكون مدماك الديكتاتوريات القادمة، فعين الذي سيأتي عبر الدعم الأمريكي والغربي، سيكون على أمريكا والغرب، وليس على الشعب، ولذا فإن الديمقراطية ستكون يافطة لتمشية الحال المؤقت.

من يراهن على غير هذا هو ذاك الذي يجزىء الحرية، ويفصل بين حرية الأفراد وحرية الأوطان، وعنده أن المواطن يمكن أن يكون حراً في بلد تابع وغير حر، وتلكم معادلة بالغة السذاجة، ومتهافتة لأقصى حد. ونعود بإثارة السؤال الذي أثرناه في البداية: هل يصنع الديكتاتور نفسه، أم هناك من يصنعه؟

يحسب البعض أن الأجهزة القمعية، والبطش، وعشرات التنظيمات السرية والعلنية، المكلفة بإخضاع الناس، وإجبارهم على الدخول في بيت الطاعة، هي من تخلق الديكتاتور، لكن القتل والبطش، والتفنن في هدر الأرواح قد يخلق عراب مافيا دمويا، لكنه لا يخلق ديكتاتوراً، ولعل مثال قراقوش الذي حاز على ما يكفي من السخرية والتندر يصلح مثالاً في هذا المجال.

ثمة شيء آخر يحتاجه الديكتاتور بالإضافة للقمع.

ما كان لهتلر البروز كديكتاتور من نمط خاص، لولا جهود وزيره غوبلز.

الغوبلزية هي الطريق المُجرب لإنتاج الديكتاتورية. لا قيمة للقتل إذا لم يحدث الرعب، ولا قيمة للرعب إذا لم يُعمم، ويُشهر، ويبالغ به، بحيث تشل حركة المجتمع، وتمزق أواصره.

عندما تنتشر صور ونصب القائد في كل مكان، وعندما تدخل أقواله البيوت كلها، وحتى غرف النوم. عندما ينام الناس ويصحون على أقوال الرئيس، وعندما يقرون وبالملموس أن رضا القائد سلامة ونعيم، وغضبه موت زؤام، وليس كأي موت، وإنما موت بحجم عصيان القائد، وهو جريمة تتصاغر كل الجرائم إزاءها، لا تحتاج إلى قضاة وحكام ومحامين، عندها ينتهي دور كل القيم، وربما العقائد، بما فيها العقائد السماوية لتصبح تالية لأقوال القائد.

عندما يصبح القائد الجندي الأول، والمعلم الأول، والمهندس الأول، والمفكر الأول، والمؤرخ الأول. عندما يصبح الأول في كل شيء، ولا ثاني له إلا أبناءه، ومن هم من صلبه، عندما يصبح حادي المسيرة الذي لا يُخطىء، ولا ينسى، ولا يتعب، وربما لا ينام كباقي البشر.

عندما يشحذ النحات إزميله لينحت نصب القائد بألف شكل وشكل، ويتبارى الرسامون في رسم صوره وهو يحنو على العامة من الناس، وينشغل الشعراء بتدبيج الخرائد في مدح الذي ما أنجبت مثله ولادة، ولا ذات حيض.

عندما ينغمس المفكرون في تحليل فكر القائد، وينشغل المنشغلون في إستلهام القيم من خطبه، وتقويم النفس عبر أقواله.

عندما يُدجن المثقف، ويعطي لفكره إجازة، وتستقيل الإنتجلنتسيا من دورها، لتصبح شاهدة زور، عندها ينهض الديكتاتور ويموت الوطن. يسود الجهل وتنتهي الثقافة. يزول الجمال ويعم القبح، وتنقلب كل الأشياء رأساً على عقب.

نعم أخطر من الديكتاتور من يصنع الديكتاتور، فذاك راحل مهما إمتد به الزمن، وهؤلاء باقون، سيخلقون في كل مرحلة ديكتاتورها، بالنجوم والسعفات الذهبية المنتشرة على كتفيه، أم بالظفائر الذهبية المنسدلة على متنيه، حاسراً أم معتماً، حليق اللحية أم طليقها، بجبين أملس ناعم، أم بجبين محروق علامة التقوى. لا تسمحوا لهؤلاء بخلق ديكتاتور اليوم أو المستقبل. لا تتذرعوا بالقول ان الناس على دين ملوكهم، فالدين لله، أما الملك والوطن فللناس.

‘ كاتب عراقي يقيم في لندن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى