صفحات العالم

سوريا العارية

 

سعد محيو

ضحيتان كبريان لا يلحظهما التعداد اليومي للقتلى والجرحى في المذبحة السورية المفتوحة: إيديولوجيا القومية العربية، والهوية الوطنية السورية.

الأولى كانت أصلاً في حالة نزاع في كل المنطقة منذ هزيمة 1967، التي قوضت مشروعها لبناء الأمة- الدولة العربية وأحالته إلى أثر بعد عين؛ ومنذ غزو صدام حسين للكويت الذي دمّر مفهوم الأمن القومي العربي.

بيد أن القومية العربية بقيت، على الأقل بالنسبة إلى الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، غطاء إيديولوجياً ممتازاً لحكمه الطائفي المستتر، ومبرراً فعّالاً لفتكه بتمرّد جماعة الإخوان المسلمين عليه في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات.

لكن هذه الاستخدامات للإديولوجيا العربية اختفت بالكامل تقريباً من خطاب النظام السوري منذ اندلاع الانتفاضة قبل سنتين، واعتقد الكثيرون أن النظام سيستبدلها بالتركيز على الهوية الوطنية السورية التي كان يعمل على تعزيزها منذ عقدين من الزمن(شعارات “سورية يا حبيبتي”؛ “سورية أولاً”، وطن سوريا الكبرى.. ألخ). بيد أن هذا أيضاً لم يحدث.

ماحدث هو أن النظام لجأ إلى نقيضين لمشروعيه القومي العربي والوطني السوري: الأول، الشحن المذهبي وتشجيع الهويات الطائفية القاتلة لدى العلويين والمسيحيين (تضخيم الخطر الوجودي عليهم) والسنّة ( تسهيل بروز جبهة النصرة الأصولية التكفيرية)، والثاني استخدام القوة العارية لقمع الانتفاضة من دون أي غطاء وطني أو قومي جامع.

وهكذا، كان الدمار المادي الهائل الذي شهدته، ولاتزال، سورية، يترافق مع دمار فكري- ثقافي قد يكون حتى أكثر هولا. وهذا ما يفرض تغيير طبيعة السؤال الرئيس المتعلق بالأزمة السورية: بدلاً من الحديث عن سقوط أو لاسقوط نظام الأسد وما قبله أو بعده، بات يتعيّن التساؤل عن فرص أو لا فرص بقاء سورية كوطن واحد وككيان سياسي موحّد.

ومثل هذا التعديل في طبيعة المقاربة للأزمة سيصبح أكثر إلحاحاً يوماً بعد يوم، إذا ما واصلت إدارة أوباما (وهو مايبدو مرجحاً حتى الآن) سياسة إدارة الظهر لسورية، بسبب نفورها من أي تدخل عسكري جديد في خضم انسحابها من أفغانستان والعراق و”استدارتها” (Pivot ) نحو منطقة آسيا- المحيط الهاديء، وأيضاً لأنها سعيدة لأن ترى إيران تتخبط بدمائها على نحو كارثي (اقتصادياً ونفوذاً) في الأزمة السورية.

صحيح أن وزير الخارجية الاميركي الجديد كيري وضع سورية على رأس جدول أعمال أول جولة خارجية له، إلا أنه لايحمل في جعبته سوى نبيذ قديم في قوارير جديدة: إذ هو، كما أوباما، لايزال يراهن على “تغيير حسابات” الرئيس بشار الأسد عبر تغيير موقف موسكو منه باتجاه العمل على ترحيله.

بيد أن لن يحدث. فلا موسكو راغبة، أو ربما حتى غير قادرة، على إطاحة الأسد، ولا هذا الأخير في وارد الرحيل بعد أن قطع شوطاً كبيراً في تدمير سورية، وفي سد أفق أي تسوية سياسية تتضمن تخليه عن السلطة.

هذا المأزق الدولي الذي يكرّس الجمود الراهن في الحرب الأهلية السورية حيث يسيطر النظام على معظم المدن والمعارضة على معظم الريف، يتقاطع مع سقوط اللحمة القومية العربية أو الوطنية السورية وصعود الهويات الطائفية القاتلة، ليفرض السؤال الذي أشرنا إليه حول مسألة بقاء أو لابقاء الوطن السوري الموحّد.

وفي حال عجزت المعارضة والنظام الراهن عن التعاطي بواقعية مع هذا التطور، سواء من خلال حكم عسكري مشترك للجيش الحر والجيش النظامي يشرف على مرحلة انتقالية، أو عبر اتفاق طائف إقليمي – دولي على النمط اللبناني، لن يكون ثمة مناص من تفكك سورية إلى دويلات.

وحينها، لن يطول الوقت قبل أن يتفكك أيضاً لبنان والعراق، وربما الأردن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى