خليل النعيميصفحات الثقافة

هولاكو دمشق : عاشق لعار التاريخ


خليل النعيمي

‘آفة كل دكتاتور، مهما كان صغيراً (مثل مُدَمِّر سورية الحالي) أنه يريد أن يكون الطبيب العالمي للتاريخ’. ‘لأن مجده يعني احتقار مَنْ عداه’. ‘إنه الكائن الكريه الذي لا يكون جميلاً إلا إذا سَوّى كل مَنْ حوله دميمين’. ‘وهو لا يشعر بالسعادة إلا إذا كان كل الآخرين مهزومين وتعساء’. ‘الدكتاتور هو أتعس الناس…إنه وحش غذاؤه الأعراض والكرامات’، وسحق الأبرياء من البشر الذي تجرّأوا على مقاومته.

‘الاستبداد والطغيان هما بعض مركبات الدكتاتور…لكنهما بعض صفاته المتواضعة’. لأن الدكتاتور يمثِّل فُجور الطبيعة الإنسانية في أقذر أشكاله. ‘إن خصائصه الكثيرة المتعبة تجعل وجوده ظاهرة مرعبة’. ‘إنه بذرة تجمَّعَتْ فيها خصائص خطيرة، ونَمَتْ في تربة صالحة لازدهار الشَرّ’. ولكن، ‘في أي الظروف يوجد الدكتاتور’؟

‘إنه لا يوجد في أحسن الظروف، ولا في أسوئها. الظروف الجيدة لا تأذن بوجوده، والسيئة لا تتحَمَّل وجوده. إنه يوجد في ظروف متطورة، ولكنها غير متكاملة، ولا مستقرة… ظروف فيها مرارة وألَم وحيرة وفراغ واتكالية’. ‘الدكتاتور لا يجيء في كل الظروف، ولا في كل المجتمعات. إنه يجيء في ظروف خاصة قابلة لأن يمارس فيها كل جنونه. إنها ظروف تهيىء للوقوع في شباك الدعاية والاستهواء’. و’هو لا يؤمن بالأخلاق، ولا بالمنطق… إنه يكذب ويضلِّل ما استطاع. لا يخجل من النور لأنه لا يراه… وكل ما في الشمس من قوة وكشف لا يردعه’.

ومن جهة أخرى ‘ليس للجماهير مناعة ضد الانخداع والخوف وتصديق الأكاذيب. إن استعداد الجماهير للانخداع والاتباع مشكلة قديمة… وهو ما يسمح لدعاية الدكتاتور المرعبة أن تبلغ منتهاها’. ‘فإذا ما وُجِدَتْ غواية الدكتاتور بكل مغرياتها وأساليبها وأبواقها، وسَلَّطَتْ على الناس كذبها وفُجورها وانطلاقاتها المتوحشة، يصبح محتوماً أن تبدو رسالةً وإنقاذاً في تصوُّر أتباعها. فيَتَرامون تحت أقدامها بلا وقار أوذكاء’. ‘إنهم بذلك يهربون من خواء أنفسهم الأليم. إنهم لا يجدون ما يملأ الفراغ (الذي أحدثه في نفوسهم) غير الإيمان بالتعصب والحقد والكذب والوعود التي تطلقها دعاية الدكتاتور الباهظة’، تلك التي تجيء تعبيراً عن حالة الخضوع المزمن البغيض الذي فرَّغ الكائنات من إنسانيتها، طلية عقود.

‘يُحدِثُ الدكتاتور في العلاقات الإنسانية نوعاً جديداً من الأخلاق الكريهة… إنه يشيع أساليب الوقاحة والسباب والبذاءة والاتهامات… إنه يحدث أخلاقاً لا عهد للبشر بها. ويضع لهذه الأخلاق الجديدة لغة جديدة. إنه يتحوّل إلى عار في تاريخ البشرية’. ‘إن وجود الدكتاتور علامة هائلة على استعداد العقل البشري للإصابة بالجنون’. و’ظهوره، بحد ذاته، علامة على الكارثة’. فهو ‘لا يتألّق إلاّ في ظروف دولية خطيرة’. و’لا يقتات إلا بالآلام والمخاوف والأحقاد والتوتر…ولا يعيش إلا بالتحريش بين الدول والكتل المتخاصمة…’. و’الدكتاتور مهما كان تافهاً خليق بأن يصيب الإنسانية بأكبر الآلام’.

‘الدكتاتور لا يطيق المعارضة. مَنْ يعارضونه خونة وأعداء ولصوص وفاسدون ومتآمرون وأشرار. وليس لهم إلا أن يموتوا كما تموت الكلاب. وكل مَنْ لا يؤمن بعصمته زنديق وشرير’. ‘إنه لا يطيق النقد والتفكير. إن التفكير والنقد كفر بالقومية. ومَنْ يمارسهما عميل للإعداء. ويجب أن يُقْضى عليه بلا شفقة’. ‘لماذا التفكير والنقد’ والدكتاتور موجود؟

‘الدكتاتورية شجرة لا تنمو إلا في الجحيم… في الحرب، والخوف من الحرب، والتهديد بالحرب… إنها شجرة ثمارها البغضاء والخوف والخصومات والأزمات… شجرة ثمارها الأحزان والدموع والمهانات والبذاءات…شجرة لم تزرع الطبيعة أخبث منها’.

عجباً! كل هذا، وأكثر منه بكثير، كان مكتوباً، منذ عقود، ولم نقرأه! وإذا قرأناه لمَاذا لمْ نتوقف عنده، ونتعلّم منه؟ لماذا لا يقرأ العرب بعضهم؟ (أم تراني أعمِّم جهلي على الآخرين ؟) وبدلاً من أن نتشدّق بــ’خورخي لويس بورخيس’، مثلاً، الذي لا يقول شيئاً آخر غير ما معناه: ‘إقرأوا المكتوب.. ولا تعيدوا أنتاج ما أُنتِج من قبل.. بل حَدِّثوه’، لماذا لم نتعلّم منه طاقة القراءة على تغيير المصير؟

ــ (*) بتصرف عن ‘عبد الله القُصيمي’ في كتابه :’عاشق لعار التاريخ’ الصادر عام 1963.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى