صفحات الرأي

هويات دينية وطوائف أيديولوجية/ ماجد كيالي

 

 

لم يفضح “الربيع العربي” نمط العلاقة التسلّطية السائدة ومجتمعاتها فحسب، وإنما فضح، أيضا، بؤس التيارات الفكرية والسيـاسية العـربية وكشف قصورها وضحالتها وعصبياتها وانغلاقها، وهذا ينطبـق على العلمانيين بكـل تنويعاتهم، أي على القوميين واليساريين والعلمانيين والليبراليين، كما ينطبق على الإسلاميين بتنـويعاتهم، المعتـدلين والمتطـرفين، الـدعويين والجهاديين، المتنورين والتكفيريين.

فوق كل ذلك، فإن كل واحد من هذه التيارات يقف قبالة الآخر، أكثر من وقوفه بوجه السلطة، بل إن كل تيار ينطوي في داخله على خصومات تنهكه وتؤخر نضجه وتعيق تطوره. ومثلا فقد استمرأ “علمانيون” تنميط “الإسلاميين” بوصمهم بالتأخّر والميل إلى العنف والاستبداد والاستئصال، في المقـابل استمرأ “إسلاميون” تنميط العلمانيين، ليبراليين وقوميين ويساريين ووطنيين، بوصفهم حلفاء لنظم الاستبداد وكاستئصاليين وكمتغرّبين.

المشكلة أن بعضا وربما فائضا من كل ذلك يتوافر عند مختلف اتجاهات وتيارات العلمانيين والإسلاميين، وأن محاججة على هذا النحو تنطوي أيضا على نوع من التعسّف والاختزال والمصادرة، إذ أنها تضعنا إزاء صور أو ظواهر ناجزة وثابتة ومطلقة ونهائية، متمثلة في كل تيار. وفي هذه الحال نبدو كأننا إزاء كتل صماء لها صفات جوهرانية، لا تخضع لسنن التاريخ والتغيـر والتطور ولا لسنن التنـوع والتعددية والتقاطع، في حين أن الواقع المليء بالتناقضات والاختلافات والانقطاعات، يشي بالتجاور والتداخل والتكامل أيضا.

هكذا، فكما ثمة علمانيون بتنويعاتهم، كقوميين ووطنيين وليبراليين ويساريين يقفون مع نظم الاستبداد بدعوى المقاومة والممانعة، أو باسم الحداثة والتقدم، ثمة إسلاميون مثلهم أيضا، في الموقف ذاته، بدليل ظاهرة الدعاة ورجال الإفتاء والمشايخ من الذين يقفون مع نظم الاستبداد، جمهورية أو ملكية، وبدليل مواقف البعض من الجماعات السلفية والجهادية التي تصادر حتى الله لفرض الاستبداد باسمه، أو بدعوى الوكالة عنه، بحيث بات لدينا حزب الله وأنصارالله، كما ثمة أحزاب تحتكر اسم الإسلام، أو النطق باسمه. وبديهي أنه كما من الجهة العلمانية ثمة استئصاليون وتخوينيون واستبداديون، ثمة من الجهة الإسلامية مثلهم، أيضا.

الفارق بين العلمانيين بتنويعاتهم وأيديولوجياتهم أو منطلقاتهم الهوياتية أو الفكرية، أنهم يحيلون مواقفهم السياسية، وضمنها مواقفهم التنميطية الجاهزة إزاء الإسلاميين، إلى آرائهم أو معتقداتهم كبشر، من دون أن يفطنوا إلى أن تلك الآراء والعقائد أضحت بمثابة نظريات جامدة ومطلقة ونهائية في تعاطيها مع الواقع والمجتمع والعالم.

والحقيقة إن تحول الأيديولوجيات إلى أديان أرضية شغلت كثيرين، فهذا كرين برنتين في كتابه “تشريح الثورات”، الـذي أرّخ فيه بصورة نقدية للثورات الأربع البـريطانية والأميركية والفـرنسية والـروسية، يقـول “يرى الماركسي أن القول بوجود جوانب تشبه سلوك الخاضعين للتـأثير المعترف به للـدين يثير سخطه كثيرا.. والـواقع أنه يمكن إرغام الكثير من الناس على أداء أعمـال معينة من النـوع الذي يريد الشيوعيون تنفيذه فقط تحت تأثير ما نسميه الدين، أي نمط من المشاعر المتشابهة تقريبا والقوية حتما، الطموحات الأخلاقية، العقائد الكونية. لقد حقّقت الماركسية بوصفها عقيدة القدر الكثير، أما الماركسية بوصفها “نظرية علمية” فلم تذهب أبعد من كتاب “رأس المال” والمجلات العلمية”.

في المقابل فإن الإسلاميين يحيلون مواقفهم السياسية إلى الشرع أو الدين، وهو خارج النقاش، معتبرين أنفسهم “وكلاء” الله على الأرض، فيسيئون بذلك إلى مقاصد الدين دون أن يفطنوا إلى أنهم يخلقون دينا أرضيا آخر، بتشريعاتهم وفتاواهم الخاصة، التي تحاول أن تفسر الدين بحسب مفاهيمهم، التي تختلف من جماعة إلى أخرى، وتبعا لأهوائهم ومصالحهم.

القصد أنه في الحالتين سنلاحظ أن المقدس بات ينطبق على الأيديولوجيات البشرية والسماوية، بعد أن أضحت الأديان، بواسطة الجماعات السياسية، بمثابة أيديولوجيا علمانية، كما قدمنا. وكان مارسيل غوشيه نوّه إلى ذلك في كتابه “الدين في الديمقراطية”، في حديثه عن إخضاع الدولة للدين، وخضوع الكنيسة للملكية، ما لا يختلف عن مجريات التاريخ الإسلامي، وإخضاع السلطة الزمنية للدين، من خلال رجال الدين، لخدمة سياساتها.

وقد اشتغل أريك هوبزباوم على توسيع هذه الفكرة وتعميقها في كتابه “عصر التطرّفات”، ففي مقارنته الكنيسة المسيحية بالفكرة الحزبية اللينينية، يقول هوبزباوم “من دون ما أسماه لينين حزبا من نوع جديد.. لا يمكن أن نتصور كيف وجد ثلث الجنس البشري نفسه يعيش في ظل أنظمة شيوعية في غضون ما لا يزيد عن ثلاثين عاما بعد ثورة أكتوبر.. ما أعطاه ذاك الحزب للشيوعيين من إيمان وولاء مطلق لقيادة الثورة العالمية في موسكو هو القدرة على رؤية أنفسهم (من الوجهة السوسيولوجية) لا بوصفهم طائفة، بل باعتبارهم أجزاء من كنيسة عالمية”. بل إن هوبزباوم، المفكر والمؤرخ الماركسي، يرى الحزب باعتباره “اختراعا هائلا للهندسة الاجتماعية في القرن العشرين تمكن مقارنته بالرهبانية المسيحية.. إذ أعطى حتى التنظيمات الصغيرة فعالية تتجاوز حجمها الحقيقي، لأن الحزب يستطيع أن يسخّر التفاني غير العادي والتضحية بالذات من جانب أفراده أكثر مما يفعله النظام العسكري والتلاحم للتركيز الكلي على تنفيذ قرارات الحزب مهما كان الثمن”.

يتصور الكثيرون عندنا أن المسألة تتعلق بالتسامح والقبول بالتعددية والتنوع، لكن مارسيل غوشيه يعتقد أن القصة ليست في التسامح، وإنما باعتبار التعددية مبدأ فكريا، وثمرة تغلغل الروح الديمقراطية في فكرة الإيمان نفسها “الدين في الديمقراطية”. لكننا نختم هنا بكلام أريك هوبزباوم، الذي يعيد التأكيد على مسؤولية العلمانيين عما حصل في العالم في الحقبة الأخيرة، بقوله “كان القرن العشرون الوجيز حقبة من الحروب الدينية، مع أن الأكثر فعالية وتعطشا للدم بين هذا النوع من الحروب كانت العلمانية المعهودة المتحدّرة من القرن التاسع عشر مثل الاشتراكية والقومية، التي ألّهت إما أفكارا مجردة أو شخصيات سياسية مجدتها ورفعتها إلى مرتبة الألوهية”.

المغزى، أن الصخب العلماني بتنويعاته، لم يعد مجديا، وهو لا يحجب مسؤولية أصحابه عن كل ما يحصل في بلداننا، لذا فالنقد الذاتي العلماني ضرورة للنقد الذاتي عند التيارات الإسلامية، والعكس صحيح أيضا.

كاتب سياسي فلسطيني

العرب

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى