صفحات الرأي

وباء العنف (السوري) ركنه إيمان يفل الاجتماع ويصدعه

 

وضاح شرارة

كان رد الجواب على تسجيل الحكومة الاميركية “جبهة النصرة الاسلامية في بلاد الشام”، العاملة في الشمال السوري والشمال الغربي، في سجل المنظمات الارهابية، هتافَ متظاهرين سوريين، يوم الجمعة في 14 كانون الاول الجاري، “كلنا جبهة النصرة”، ورفع لافتات في بعض التظاهرات كتب عليها: “لا إرهاب في سوريا غير إرهاب بشار الاسد”. وأحرج حمل المنظمة المقاتلة في صفوف المقاتلين السوريين المعارضين والمعروفة في حلب وضواحيها بصرامة مقاتليها وبأسهم وحمايتهم الأهالي من عدوان شراذم فوضوية تنتسب الى “الجيش السوري الحر” على الارهاب الائتلافَ الوطني السوري الطري العود. وأحرج على نحو خاص رئيسه، “الشيخ” معاذ الخطيب، وجمعية الاخوان المسلمين، الفصيل النافذ في الائتلاف. فنسباه الى “الكيل بمكيالين” في مصطلح فاروق الشرع، والى تغليب الوصمة “الايديولوجية” أو الاسلامية على سجل الافعال والاعمال، وهو سجل خالٍ على قول الخطيب والجمعية الاخوانية من قتل المدنيين “الاعمى”، والثأر من أهل المذاهب والتمثيل في القتلى والذبح على مرأى من أجهزة التسجيل التلفزيونية ومسمع منها.

والى أيام قليلة قريبة خرج متظاهرون سوريون في المدن والارياف الشمالية نفسها وجهروا رغبتهم في “ألا ينصرهم” أحد غير “الجيش الحر”. وبعض الأهالي أسروا الى وكالات أنباء متفرقة تحفظهم عن مقاتلين غرباء أو متخفين على هوياتهم، لا يعرفهم أحد ولا يختلطون بالناس، وينم ظاهرهم وبعض أعمالهم بيسر غير معهود في جماعات المقاتلين البلديين. وهم، الى هذا، يدعون الى “إسلام” لا يعرفه معظم الاهالي، والى شرع غير القانون الذي ألفوا الكلام عليه، والاحتكام إليه. ويقرن الاهالي، أي بعضهم هذا، التحفظ المتردد والمتلعثم بإعجاب صريح بشجاعة القوم، وترفعهم عن السلب والغنم، وسعيهم في سد حاجات الاهالي الكثيرة والمرهقة. ولم يتردد الاهالي وحدهم، ولا بعض القيادات السياسية والعسكرية السورية. فبعض أعمال التفجير، في حلب ودمشق على الخصوص، تطاولت الى مرافق الاجهزة الامنية، وقتلت فيمن قتلت مدنيين وعابرين أو سكاناً محليين، الى موظفين عاملين. ولم تتسر “جبهة النصرة” فأعلنت مسؤوليتها عن هذه الاعمال.

وتذرعت وزارة الخارجية البوتينية و”السوفياتية” بعمليات “النصرة”، ودعت مجلس الامن ومجلس حقوق الانسان الى ادانتها والتنديد بها. وعزتها الى “الجماعات المسلحة الارهابية” التي تسلحها “الولايات المتحدة واوروبا وبعض الدول العربية النفطية”، بحسب الاحصاء المعهود منذ بعض الوقت. ويهلص منه أصحابه الى اختصار الحركة الشعبية والديموقراطية السورية فيه. والحق أن الولايات المتحدة الاميركية سكتت عن هذه العمليات قبل أن تعرب عن إدانتها المنظمة الاسلامية الاصولية برمتها، وعن شكوكها “الرجعية” والمتأخرة في اصحابها. وعندما نددت بعض منظمات حقوق الانسان الدولية بمسؤولية بعض فصائل الجيش السوري الحر عن إعدامات ميدانية، وقتل انتقامي وثأري بوسائل “وحشية”، وعن خطف رهائن واحتجازها والتلويح بقتلها، لم ترفع الولايات المتحدة ولا غيرها، ولم يشذ الداخل العربي والسوري صوتاً، جهيراً (أو جهورياً) يدين الانتهاكات الكثيرة في معرض حرب شرسة وقاسية يخوضها حكم او سلطان عشائري وبيروقراطي على اهالي سوريا وجماعاتهم وبلادهم، وعلى حركتهم وإنتفاضتهم. وأحجمت الصحافة الدولية، وهي وكالات الاخبار الكبيرة الانكليزية اللغة والفرنسية وبعض الصحف الذائعة الصيت في اللغتين، أحجمت الى وقت قريب عن تناول شبهات لابست بعض الحوادث البارزة التي نجم عنها عدد كبير من الضحايا (في داريا وفي عقرب… وغيرهما).

وقلما تتطرق اقلام سورية كثيرة شاغلها تعقب الحوادث والوقائع الوطنية والتعليق عليها، وعلى مفترقاتها ومنعطفاتها، الى وجوه العنف الفظيع التي تلابس الحوادث والوقائع هذه منذ الايام الاولى لقمع “الدولة” العشائرية والبيروقراطية رعاياها المتظاهرين والمتمردين عليها، والخارجين على قهرها واستئثارها ومهانتها وكذبها. وبدا تقليل العنف المتفاقم والمتعاظم، والسافر من غير تكتم ولا تستر، بـ”طبيعة النظام” المتسلطة والبوليسية، واعتياده خضوع الرعية، وماضيه الدامي (حوادث 1979 1982 التي كانت ملحمة حماة ومجزرتها ذروتها الهاذية)، الى اتساع الهوة الاحتماعية بين أهل القوة وبين عامة الشعب، سائغاً ومعقولاً. وبدا تعليل جنوح حركة الاحتجاج العامية والشعبية الى الرد على القتل والسجن والخطف والتعذيب بالحماية المسلحة معقولاً وسائغاً بالمقدار نفسه على اضعف تقدير. وحين عزت الحجة العقلانية والسياسية لجأ التعليل الى “عامل الهدم” الذي لا يسع “الثورة”، وهي أصل ينطوي على علله وعلى تظاهراتها، التخفف منه.

رأيان

ولا شك أو مشاحة في أن فرقاً عميقاً يميز رأي الانتفاضة السورية في صنع العنف التي تتوسل بها الى كبح ضراوة النظام وصده وكسر شوكته، من رأي أهل النظام الضاري في عنفهم وعنف نظامهم. فالمعارضون المسلحون، وأنصارهم معهم، لا ينفكون شديدي التحفظ عن نتائج الاعمال العسكرية التي حُملوا عليها واضطروا الى ركوبها مرغمين. وهم ينسبونها على الدوام الى مقاصد القوات النظامية، وهي قوات مزدوجة وبطانتها الداخلية أهلية مذهبية، وينسبونها الى إرادتها وتخطيطها. ويقصرون دورهم، وما نجم عن عنفهم تالياً، على الرد والدفاع عن النفس. ويغضون عن بعض الاعمال الهجومية الانتحارية التي تولتها جماعات “مزدوجة” بدورها، أو ابتدأت مزدوجة مثل “النصرة”، ويخاطبها مساجلوها الحرسيون الخمينيون اليوم، وينفون عداوتهم لها، ويحذرونها المصيدة الاميركية التي نصبت لهم وقد توقع بهم لا قدر الله! ويسكت المعارضون، حرجاً وحياءً، عن المبادرة الى العنف، وإعماله في مواقع لا يبدو إعماله فيها ضرورياً مثل مهاجمة بلدات أخلتها القوات الحكومية واتخاذها خندقاً أو قاعدة حين لا يرى الاهالي مبرراً لذلك. وغالباً ما يتعللون بضرورات عامة أكرهتهم عليها مصلحة الحرب الوطنية الدائرة في مسارح وميادين أخرى بعيدة. ويعولون على هذا التعليل، وعلى عمومية المصلحة المفترضة، في سبيل التحلل من التبعة أو المسؤولية عن القصد الى القتل والدمار ومباشرتهما بأيديهم وعقولهم وقلوبهم.

وعلى خلاف مقاتلي المعارضة المتطوعين، يتستر النظاميون (الوجه البيروقراطي من الاستيلاء الانقلابي) وفرق الموت والسلب شبه النظامية الموازية والمندمجة معاً، لا يتسترون قيادةً عصبية وجنوداً غفلاً عن قصدهم ضروب القتل والانتهاك والإيلام والدمار التي تسلم المصابين بها الى الخروج والهجر واليأس و”الحيوانية” (وإنكارها: “والله أنا مو حيوان!”). ورد بشار الاسد من قناة تلفزيونية روسية، قبل نحو الشهرين، على بعض أقطاب نظامه المنكرين عليه مطاولته الحركة الوطنية والديموقراطية المنتفضة، وصبره على سحقها بكل القوة والعنف اللذين في متناوله وعلى شاكلة أبيه (وهؤلاء ينسون أن رأس السلالة لم يرتكب حماة إلا مطلع السنة الثالثة من اضطرابات متنقلة وضيقة).

فقال “السيد الرئيس” الذي لا سيد غيره ما معناه (عطفاً على مقال الكاتب في “نوافذ المستقبل”، 9 أيلول 2012): يفترض الرد الساحق والسائغ محلياً وإقليمياً ودولياً استدارج المعارضات وجمهورها الى السلاح والفوضى الاهلية والخلاف والاستغاثة بالخارج وإلقاء السوريين في مهاوي الروع والجوع والنزوح والعالة، وعندها “يفهم” السوريون ومعهم العرب ما فهمه بوتين ولافروف وهو جينتاو، وقبلهم جميعاً قاسم سليماني وعلي خامنئي ووحيدي وحسن نصرالله وصفوي ويدالله دواني، منذ 13 آذار 2011 من أن سحق الحركة الشعبية شرطه “السياسي” المعقول والمقبول هو تبلور الحركة في صورة عصيان أهلي مسلح وباهظ التكلفة؛ وحينها لا يشك سوري ولا عربي ولا “دولي” غربي في ان الخروج من الحرب وفظاعاتها وترويعها، وعلى صدر سوريا ألف أسديّ وأمرها في يدهم “الى ألف عام” على قول السفاح العباسي الاول، هو (الخروج) الظفر العظيم. فـ”المزيج المرهق من العنف والصبر” (المطاولة) الذي شخّص فيه فرانسوا ميتران نهج حافظ الاسد في 1986 هو سلاح سلطان دمشق الاحمر القاني والأمضى. ويفترض هذا فشو العنف وتغلغله في شغاف الحياة اليومية وثناياها الاجتماعية العميقة والسطحية، أي هو يفترض انفجار “الازمة المأساوية” أو الفتنة، وتداعي القتل على شاكلة وباء الطاعون، على ما استعارت فاجعة سوفوكليس “أوديبوس ملكاً”.

القدس(ي) والعقل

ومثل هذا العنف الوبائي لا يقدر عليه علمانيون مدنيون وعقلانيون، مهما تواضعت علمانيتهم ومدنيتهم وعقلانيتهم، ولا طاقة لهم به. فكيف بالمبادرة الى إشعال فتيله، والتحكم في نشره. وذلك من الشتيمة النابية والمهينة (“انسوا أولادكم واستولدوا نساءكم غيرهم وإذا عجزتم فهاتوهن” على قول ضابط أمن درعا، وقريب “سيادة الرئيس” الى مشايخ عائلات المدينة الحورانية وعشائرها)، فحصار المتظاهرين وتفريقهم واعتقال بعضهم، فإغلاق الحي وتفتيشه وتجويعه ومداهمة بيوته وتحطيمها، فمطاردة الناشطين وخطفهم وقتلهم، فنصب قناص على الاسطح… وعلى خلاف العلمانيين والمدنيين والعقلانيين (ومعظمهم في أول الامر نساء علمانيات…) بادر الى ذر الطاعون من يملك الآلة البوليسية والعسكرية والإدارية والاتصالية المناسبة، من وجه، ومن تطاوعه وتنقاد له لغة ملائمة، من وجه آخر ليس أقل خطراً ومكانة من الوجه الأول. ولم يملك دعاة الاصلاح والتحرر المدنيين والديموقراطيين، في أول أمرهم، شيئاً ضئيلاً من الآلة البوليسية والعسكرية التي قام الحكم العشائري والبيروقراطي السلالي على احتكارها. وهم حصلوا بعضه القليل حين تفسخت الآلة العتيدة، وتصدعت تحت وطأة العمل الذي أوكل إليها وتولته، ولا يزال معظمها يتولاه.

ولعل العامل الأقوى وربما المزمن في “قصور” المنتفضين السوريين عن التوسل بطاعون العنف، إذا شاؤوا، هو خلو وفاضهم من اللغة “المقدسة” الملائمة. فالعنف الاهلي، أي إباحة القتل المرسل من غير تمييز “درجات” التبعة والاستحقاق وإجازته على الظن العام والمجمل (“على الهوية”) وإتباعه بالدمار والحصار والتهجير والتجويع والاغتصاب، ليس في مستطاع أفراد مدنيين وعقلانيين، “عاديين”، على قول دافيد روسيه الفرنسي، تصوره واحتسابه جائزاً (على معنى الإمكان).

وهذه “الفضيلة” تصيب رغماً عنه ربما من طلق الإحساس بالمطلق أو طلقه هذا الإحساس. فينبغي لمن يحسب في نفسه القوة، والعبارة لا تصح إلا في صيغة الجمع: لمن يحسبون في أنفسهم القوة على احتمال أفعال “فرقة الموت” “الجمهورية” والحرسية والايرانية المختلطة في حي الجورة وجمعية حوض الفرات ومساكن المعلمين وجمعية الدير العتيق وحارة “البيجامات” أو بكتن في دير الزور، واختيار “مقاتلي” الفرقة العتيدة الشبان الأشداء وتقييد أيديهم وصفهم أمام الجدار وضربهم على مرأى من آبائهم وأمهاتهم واخوتهم واخواتهم وأولادهم وإعدامهم برصاص “كثيف”، ودعوة هؤلاء تورية الى ندب الموثوقين من شرفات البيوت، وبكائهم وهم يعذبون ويمثل بهم ويهانون ووداعهم الوادع الاخير، وسوق من لم يقتل على هذا النحو بالحافلات الى الذبح ترافقه أهازيج الحرسيين، ورمي جثثهم في مبانٍ قيد الانشاء أو أقبية متروكة أو حدائق صارت مزابل أو مقابر لفظت العظام المتبقية من الجثث المتحللة القديمة فاختلطت بجثث تتحلل لتوها ودفنت على عجل فيستدل عليها بسرب النسور المحلقة فوق بقايا 86 جثة ذبحت وحرقت في يوم من ايام تشرين الاول 2012 (مراسلة من دير الزور خاص بـ”نوافذ- المستقبل” اللبنانية، 16/12/2012) ينبغي لمن يحسبون في أنفسهم القوة على احتمال هذه الاعمال الصدور عن نشوة يعطاها أو يبلغها “مؤمنون” من ضرب كانت الثورة الخمينية بإيران، وحرسها الثوري ومتطوعوها وفرق إعدامها الأهلية سباقة الى صنعه. وتولى بعض تقنييها البارزين نشره في العراق ولبنان، وأقبل عليه بن لادن وجماعاته إقبال الخوارج على “اللقاء”، لقاء العدو القريب أو قتاله ولقاء وجه ربهم على ما يحسبون. ولا تعصى هذه النشوة قتلة المافيا وعائلاتها المتحاربة حتى الافناء والإبادة.

ولا تغرب عن وصف وقائع العنف الوبائي السوري، – وتنذر بهذا الصنف من العنف مهاجمة الإخوانيين والسلفيين المصريين “أعداءهم” المدنيين والليبراليين والاقباط والشباب العصريين والنساء والصحافيين والقضاة … – وجوه الفاجعة المأسوية وأزمتها الوبيلة. فالناس، وهم يعدون عشرات الآلاف من النازحين، على ما تروي ناجية الحصري (“الحياة” اللندنية، 16/12/2012)، قلقون أو نابون غرباء خارج أرضهم وبيوتهم. فهم ليسوا حيث هم (“خارج الاراضي اللبنانية تقنياً وخارج الاراضي السوري عملياً”)، ونزحوا الى وادي خالد بلبنان من بلاد نائية: درعا وحلب ودير الزور وحولة، أو قريبة: حمص وريفها وتلكلخ ودمشق، بعدما هدم قصف عسكر النظام ومسلحوه منازلهم وجرفوها. والمدخرات استنزفت ولا يشتري ما بقي منها جزمة تقي الابنة المطر والبرد والوحل، ومن يحترف حرفة ضاقت عليه فرصها في الشتاء. فالغريب عارٍ، وضيافة الجار اللبناني القريبة قد تؤنس ولكنها لا تشفي حزنه. وهربه الى اراضي الجيران اضطره “الحرسيون” السوريون وحواجزهم أو مسالحهم (الجمرك المسلح) الى شرائه بمعظم ما يملك. فبلاد الطاغية “الشاب” أرض سباء و”عشائر” جائعة ومحمومة، لا قانون فيها ولا وازع. والسباء ليس استعارة: فالنساء يغتصبن ولو بلغن الـ75 سنة شأن حاجة روت في جمع باكيات على ميت وقالت:” ابكينني أنا، اغتصبوني امام زوجي وأولادي، كانوا خمسة جنود من جيش النظام… قلت لهم انني مثل أمهم وأختهم…”. والتذكير بهول سفاح المحارم وفظاعته لا يردع قوات السباء. ولكن امتهان الضباط الفتاة قد يحملها على الانتحار، ويحمل تعرف الصبية على مغتصبها في قرية الهيشة على “الهستيريا”. وقد يحمل أبا الجندي على قتله، وأبا فتاة أخرى خطفت قبل 3 اشهر على الموت حزناً.

وعلى هذا، فالعنف الوبائي لا يقاس بعدد القتلى وحده، وهم بلغوا في سوريا 50 ألفاً أحصوا واحداً واحداً وواحدة واحدة وغيب في المعتقلات المسالخ مثلهم، بل يقاس كذلك بتطرقه الى أركان الاجتماع والتأنس مثل حصانة الحياة وحرمتها، والتزام الاحتكام الى سنن معروفة ونافذة، والحؤول دون جموح العنف الى اقاصيه، وتمييز الأهل المخالفين من الاعداء… والمأساة تعصف بهذه الاركان وتمتحنها. وحين ولغ بعض “تقدميينا” و”يساريينا” المدنيين في الطاعون هذا، على ما صنعوا في فصول الحروب الملبننة وأيدوا الفلسطينيين، ومن ورائهم السوريون، على ذلك، وناصرهم هؤلاء عليه قالوا، وربما حسبوا فعلاً أن العنف إنما يتأتى من “مقاومة الطبقات الرجعية التغيير المحتم”. وكان ينبغي وضع كل “القدس” الفلسطيني وأنوثته ومقومات الهوية التاريخية العربية والاسلامية، وموارد الاشتراكية ووعودها غير الخابية، في كفة الميزان نظير الاغتصاب الصهيوني، والنهب الاستعماري والامبريالي والعمالة الحقيرة له، والخيانات العربية التي لا تحصى، والتخلف الحضاري المهين، لتسويغ القصف الأعمى على المسيحيين اللبنانيين “الطائفيين”، ونصب الحواجز الطيارة على المفترقات، وتقطيع الجثث ودسها في أكياس البلاستيك و”إهدائها” الى هذا أو ذاك.

ولكن الذريعة التاريخية و”التقدمية”، وهي في معظم أحوالها تزعم العقلانية وتفتقر الى وطأة “القدس” وأركانه، لم تبلغ مبلغ تبرير الوباء والدعوة الى الولوغ فيه. وأسهم في لجم فشو الوباء وطاعونه، على رغم الـ160 ألف قتيل الذين أردتهم حروبنا اللبنانية المتعاقبة، اقتسام الجماعات المتقاتلة الدولة وآلات عنفها “المشروع”، وضعف هذه الآلات، وتشكك المتحاربين في مشروعيتهم وفي غاياتهم، وشقوق الجماعات الاهلية الداخلية المعنوية والمادية، وتولي المقاتلين أولياء من خارج الاهل ورعايتهم بقاء المقاتلين داخل “ولايات” جماعاتهم (وهذا ما خالفته الجماعة الخمينية والحرسية المسلحة في 7 أيار 2008 ببيروت و11 منه في جبل الباروك). ويكبح اقتصار إقامة القوم العلوي في سوريا على جبل السماق وسفحه الشرقي نحو حمص وعلى وجهه الغربي الشمالي الساحلي، بعض الشيء تفشي العنف الاهلي والعشائري. وأما الوجه البيروقراطي والنظامي العسكري والامني فمختلط، ويتأتى عنه معظم القتل والدمار “الوطنيين”. وبلغ عدد قتلى القوات النظامية نحو العشرة آلاف قتيل، وهم الكتلة الكبرى بين كتل القتلى بعد كتلة المدنيين عموماً. ويقوم الدين “القومي”، والعروبي والسوري، مقام الدين الاصولي الجهادي والسياسي الايديولوجي، في ميزان الإقبال على وباء العنف وإضعاف كوابحه وشل إعمالها من داخل. فكلاهما يفترض الجماعة، الامة أو القوم، كلاً ناجزاً وجميعاً مستوفياً شروط تمامه وماثلاً في القائد وعصبيته. وكلاهما ينفي من صفوف الدولة الوطنية، المختلطة حكماً، من ليسوا من الجماعة، ويهدر دماءهم و”أموالهم” وأعراضهم وحرياتهم على وجه الاحتمال. فإذا انفجرت “الازمة” واستعرت احتاج المتقاتلون، عبيد الله القتلى وعبيد الله القتلة، الى آلهة الطواعين وألقوا على كواهلها التبعة الثقيلة والمرهقة والمستغلقة على العقل، عن قتل الانفس والإفساد الذريع في الارض.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى