صفحات الثقافة

الكومبيوترات الشاعرة/ عباس بيضون

لا يخدعنا أن يكون للشعر العالمي يوم. انه يوم من أيام وعلى الأرجح لن يكون يوماً مجيداً ولن تشعر به الميديا بما في ذلك الميديا الأدبية إلا بمقدار. سوف تقف عنده سريعاً وتعبر عنه سريعاً، فالأرجح أن الشعر لم يعد أب الفنون ولم يعد شيخها ولم يعد ملكاً على الأدب ولم يعد الشعراء نجوم الثقافة. منحت نوبل منذ عامين لشاعر هوتوماس سترومر، لكن سترومر السويدي المشلول منذ ربع قرن قد يكون آخر الشعراء الذين يفوزون بها،فعدا عدد قليل من الشعراء لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، لا نعرف شعراء طبقت شهرتهم الآفاق، لا نعرف كثيراً من الشعراء تعدى صيتهم حدود بلدانهم. حتى فيها هم ضئيلو الأثر قليلو الصدى. احتفل منذ وقت قصير بفيليب جاكوتيه في فرنسا، كان هذا الاحتفال من نوادر الاهتمام بشاعر، لا حاجة لإعادة القول بأن الشعراء يتحولون إلى زمرة، بل شيعة ضيقة تتبادل فيما بينها. الشعراء يقرأون بعضهم بعضاً ويتعارفون فيما بينهم ويتداولون أشعارهم ضمن دائرة محصورة. لا يخدعك اليوم العالمي للشعر، إنه منحة وإنعام دعا إليه حال الشعر اليوم لكنه يبقى مع ذلك مجرد إنعام، إلا أن ذلك من دون دلالة. الأرجح أن غياب أو تغييب الشعر مقلق لا يستريح له ضمير الثقافة. أن يتردى فن في عراقته وتاريخه ومكانته المأثورة إلى هذه الحال، فهذا ما لا يستريح له وجدان الثقافة أو وجدان الفن أو وجدان الأدب. يشعر الجميع أن في ذلك خسارة كبيرة، لذا تدور الاحتفالات بالشعر في البلدان، باريس تستحق قداساً كما قال أحد ملوكها، والشعر يستحق احتفالاً، لكن المسألة لا تتعدى الاحتفال برمزيته وشعائريته. باريس تستحق قداساً والشعر يستحق أيضاً قداساً، لكنه لن يكون سوى شعائر، سوى طقوس. يحتاج الشعر بطبيعة الحال إلى غير ذلك، يحتاج إلى أن يعود حياً في يوميات الأدب ويوميات الثقافة. يحتاج إلى أن يعود متداولاً ومتواتراً ومطلوباً وعلماً في الميديا الثقافية والأدبية وفي المناسبات الوطنية والعالمية، لا أن يفرد له يوم في العام ويفرد هو في مناسبات تحمل اسمه، كل هذا الاحتفال ليس سوى علامة على الإفراد والعزلة.

بقينا ردحاً نظن أن شيئاً كهذا لن يحدث عندنا نحن العرب، الشعر ديوان العرب. كما قلنا دائماً، والماضي الأدبي العربي أقطابه الشعراء، وهم مصابيحه ونجومه. فمن هو نظير المتنبي وأبي نواس والمعري وابن الرومي، لا نجد إلا قلائل وتبقى أسماء الشعراء وأشعارهم أكثر صدى وأقوى ذكراً. لقد قام في أذهاننا أن الشعر أب الثقافة العربية ولن ينتزعه من مكانه ظرف وزمان مهما كان جريانهما في العالم. نحن أمة الشعر طالما، قلنا ذلك، ولن يزيحنا شيء عن ذلك، الشعر هو جوهر أدبنا وما كان جوهراً لا يزول، انه يبقى في أسّ الثقافة وفي روحها ولن يحوله عن ذلك أي سبب، ما زعمناه لأنفسنا وعن أنفسنا لم يدم طويلاً. بدأ الشعر مع قصيدة التفعيلة ثم قصيدة النثر (وبالأخص هذه الأخيرة) يتراجع وينحسر، لم يخرج من الميديا فقد بقي فيها ولو بقله بحكم تقليد لم ينبتّ بعد، لكن سوقه آيلة إلى كساد، تعرف ذلك دور النشر التي لا تنشر شعراً إلا لقلة، أما الباقون فعلى حسابهم، مع ذلك يتكاثر الشعراء، ليس في العالم العربي فقط بل في العالم كله، يتكاثرون ويبقى مستواهم هو نفسه، فثمة تجريب وثمة توليد وثمة ابتكار. أنظر أحياناً في مجموعات مجهولين (لي على الأقل) فأجد تجارب ناضجة وشاعريات غير منقوصة وتدهشني أحياناً إضافات حقيقية، لقد ارتضى هؤلاء الشعراء، هنا وهناك بالعزلة والانزواء. ما عادوا يطلبون من الشعر إلا الشعر، لا يهمهم اسم ولا مكانة ولا دوي ولا صيت.

يمكننا أن نتكلم هنا عن المجانية وعن الزهد وعن التشيع. هذه قيم ليست مرذولة، هي بالعكس قيم رفيعة، لكن نرجسية الكاتب بل أصل الكتابة هو الحوار، القارئ حاجة حقة ولا تقوم كتابة بدونه. ثم إن الاسم ولو بين قلة مطلوب. يكاد الشعر هكذا أن يكون مذهباً أو ديناً. يكاد أن يكون تعبداً للحقيقة أو احتمالاً لها، يكاد أن يغدو ميتافيزيقيا شخصية. هنا لا يبقى الفارق واضحاً بين الشاعر والمتأمل، الشعر والفيلسوف. بل بين الشاعر والراهب والشاعر والصوفي، يتحول الشاعر هكذا إلى عرق لا اجتماعي، إلى عرق قائم بذاته، إلى متكلم مع الفقدان والغياب والماضي المتخيل أو المهجور. يقول هيديفر عن قصيدة لريلكه إنها سعي للكلام مع الآلهة المهاجرة. هل يكون الشعر هكذا، مجرد خطاب للغياب، للكينونة المحجوبة إذا كنا ما زلنا نستعير هيديفر.

يتكلمون الآن عن شعر رقمي، الشاعر الألماني انسنبرغر اخترع آلة للشعر، في فرنسا شعراء رقميون. تغذي برنامجاً رقمياً بكلمات مختارة فينشئ منها أشعاراً. لن تكون المؤلف إلا بتحفظ. لا نعرف ما هي النتيجة، فقبالة التحرر الحالي يجوز لكل شيء أن يكون شعراً، هل يمكن ان نستعير من رولان بارت «موت المؤلف» لنتكلم هنا عن «موت الشاعر» هل بدأنا عصر «الكومبيوترات الشاعرة».

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى