رستم محمودصفحات سورية

وجوه لبنانية جافة في زمن الربيع السوري


رستم محمود

[ 1

يحمل معوله بيده ذلك العامل السوري، واقفا في آخر شارع الحمرا. ومع المعول يحمل في تقاسيم وجهه تراكم سنوات عجاف مرت عليه، جوعا وتشردا وخوفا وفقدا للأمل. يقف بحياء الغريب ووجومه ووجله، وكأنه يقف للمرة الأولى في هذا المكان الذي يعمل فيه منذ أعوام، وربما أكثر. يقف سائق الفان بالقرب منه، يمازحه بشكل قاس: “روح شيل المعول ببلدك وساوي حالك قبضاي”. تحمر وجنتا العامل السوري بين طبقات الكلس والإسمنت التي تغطيهما، ويلتفت حول نفسه، ثم يرد بالعاً ريقه: “الله يخليلنا الأمان، ويكسر أيد الإرهابيين”. من بين ركاب الفان، يرمقه سوري آخر، مما يزيد من ارتباكه. يكتشف السائق نظرات السوري الآخر الذي رمق مواطنه، ثم يبدأ بسيل من الشتائم بحق المتظاهرين السوريين… الخ.

أحيانا تنتهي الحكاية بغصات (سورية دون شك)، وأحيانا يتحول شارع الحمرا إلى صورة عن حي بابا عمرو الحمصي.

[ 2

باحثون لبنانيون شباب، يجلسون بانتظام حول المحاضر السوري. ينتهي حديثه، وتبدأ أسئلتهم . تبدو الأسئلة غريبة ومغتربة، أكثر من كونها حيوية وذاتية . تبدو الأسئلة عن هذا البلد الجار والكبير والمهم بالنسبة لبلدهم لبنان، سطحية وبدائية، وكأن هذا الذي يسأل عنه لم يكن محورا لمدة نصف قرن عن معنى وهوية ومستقبل بلدهم لبنان. تبدو الأسئلة استكشافية وبدائية، وكأن هذا البلد الذي يسألون عنه لا يعنيهم، وليسوا جزءا منه ومن حكايته الراهنة. يسأل أحدهم (بالغ الاعتناء بتسريحة شعره): ” لكن لماذا يتظاهر السوريون؟”! . تسأل “باحثة” أخرى زميلة له: “لماذا لا تستجيب السلطات في البلاد لمطالب المتظاهرين؟ “!!. يضيف زميل آخر لهما: “أعتقد أنه على الجميع احترام القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان” (ما شاء الله) . لكن الأفظع، أن أي واحد منهم لم يزر هذا البلد من قبل، وليس لديه خطة لأن يفعل ذلك في المستقبل ولا حتى أصدقاء في ذلك البلد “الجار”.

في هذا الوجه، أحيانا تغالب الابتسامات غيرها من الخدع، وأحيانا ينادي المحاضر في قلبه بعيد زفير طويل : حسبنا الله ونعم الوكيل.

[ 3

في زواريب منطقة صبرا والغبيري، مساء كل يوم جمعة، يقف عدد كبير منهم في انتظار دوره لإجراء مكالمة هاتفية مع الأهل في سوريا، حيث يكون الكثير منهم قد غامر بحياته قبيل هذا المساء بساعات قليلة، وخرج للمظاهرات. يفضل السوريون إجراء المكالمات من هذه المكاتب لرخصها البالغ، فسعر أربع دقائق من الاتصال لا يتجاوز ألف ليرة لبنانية.

يتبادل المنتظرون نظرات مليئة بمشاعر متباينة، فهي قلقة وودودة من طرف فيما بينهم البين، ومن طرف آخر، نظراتهم حذرة وقاسية تجاه بعض الذين لا يعرفونهم، وطبعا هم يعرفون بعضهم البعض من خلال الزي ونبرات الصوت. حينما يبدأون المكالمة، يخفضون نبرة أصواتهم ويسترقون الخطوات للاختلاء، وهو شيء يزيد من شكوك أصحاب هذه المكاتب بنوعية المتصل، هذا الأخير الذي يبقى متلفتا يمينا وشمالا قبل أن يبدأ بسرد حزمة شيفرات الحديث من ذويه في سوريا: ” شلون كان العرس اليوم؟ …. كان في كتير ناس بالعرس؟ … رجعوا كلهم من العرس فرحانين؟ … ” ينهون المكالمة عادة ويدفعون المبلغ دون ان ينظروا بوجه صاحب المحل ذي النظرات القاسية والمشككة دوما .

في هذا الوجه، أحيانا يبتسم المتصل في وجه باقي أقرانه من المنتظرين، وأحيانا تغادر الدمعة عينه، قبل أن يغادر المكتب .

[ 4

يجتمعون ملتفين حول مائدة الطعام المسائية، يتبادلون أحاديث عن عذابات العمل اليومي وأرغفة الخبز، تقطع حديثهم أصوات عالية لمفرقعات نارية احتفالية، يستشعرون حدثا يجري في هذه اللحظات، يقوم أحدهم مسرعا بفتح التلفاز والتقليب بين المحطات.

ففي إحداها، يقول زعيم لبناني:” موقفنا من الدول وما يجري فيها، هو القياس على مكانة هذه الدولة في خط المواجهة مع القوى المستكبرة … والمؤامرة على سوريا باتت مكشوفة ونحن لن نقف على الحياد ” وفي محطة اخرى يسرد “محلل” لبناني:” لدي معلومات أكيدة بأن المتظاهرين يحصلون على أموال طائلة من أمير قطر والأمير بندر بن سلطان، ولهم صلات عالية المستوى مع اللوبي الصهيوني في إسرائيل والولايات المتحدة” … وفي محطة اخرى شرح لمقابلة مع مقام عتيد يقول فيها:” إنه مستعد للذهاب إلى سوريا وقطع يدي المعارضين “.. تتوالى المحطات وبينها دوما، ودون شك، واحدة تقول :” قصف مدفعي لأحياء مدينة حمص”…

في هذا الوجه، يضع العمال السوريون الأرغفة من أيديهم، ويرجعون صامتين عن مائدة الطعام.

[ 5

يلتف الأصدقاء الأربعة حول طاولة صغيرة، في حانة جانبية في أحد فروع شارع الحمرا. يتشتت حديثهم بين السياسة والأدب والتنكيت والرياضة، وبين الفينة والأخرى، يرفعون الكؤوس، مرحبين ببعضهم البعض. أصوات قوية تقطع سيل أحاديثهم، أصوات لا يعرف إن كانت مفرقعات أو تفجيرات هائلة، لدرجة أن الخوف والقلق يصيب كل الحاضرين في الحانة والحانات المجاورة. ويخرج الكثير منهم لتفقد الشارع وما يجري فيه، حيث تقع بالقرب من الحانة سفارة الدولة الشقيقة.

حين يعود الخارجون من الحانة، يلملم بعضهم حقائبه بسرعة ويخرج، أما البعض الآخر، فأنه يزيد جو تلك الأصوات بمزيد من الضجيج، رافعا الأيدي في علامة على الانتصار على من لا يملك ثمن خبزه. يغادر الأصدقاء الحانة، ليروا أربع سيارات شبه فارغة بالقرب من سفارة الدولة الشقيقة، تحدث كل ذلك الضجيج للمتسامرين في الحانات المحيطة كلها .

في ذلك الوجه، احيانا يشد الأصدقاء على أيدي بعضهم البعض، وأحيانا يكتشفون في اليوم التالي، بأن كل ذلك الصراخ والضجيج، كان ردا على أصوات خفيضة لبعض اليافعين الذين كانوا تجمهروا بالقرب من ذلك المكان وهم ينادون ” الله سوريا وحرية .. وبس” .

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى