صفحات مميزة

وداعا جورج طرابيشي

 

الجغرافية الخيالية لمجرى النهر/ جورج طرابيشي
يرتدي تاريخ الفلسفة، من حيث هو تاريخ نظر العقل في العقل، أهمية استثنائية. فقد غدا، دون سائر الفروع التاريخية، موضوعاً لنفسه: فقد وُضعت مؤلّفات وعقدت ندوات عالمية حول تاريخ تاريخ الفلسفة.
وابتداءً من القرن التاسع عشر، قرن تمخُّض المركزية الإثنية الأوروبية، بات تاريخ الفلسفة مركزاً لصراع أنثروبولوجي. فالحضارة الأوروبية الغربية، التي قرأت نفسها حضارة عقلٍ مُطلق، أعادت على ضوء هذه القراءة النرجسية قراءة تاريخ الفلسفة. وقد كانت النقطة المركزية في إعادة القراءة هذه ما لا نتردّد في أن نسمّيه تغريب Occidentalisation العقل اليوناني، بوصفه العقل المؤسّس للحظة ميلاد الفلسفة.
فهذا العقل، الذي لا يقبل فصلاً في نشأته وتطوّره عن إطاره التاريخي والجغرافي في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط، جرى فصله عن منبعه وروافده وحُوّل مجراه، في نوع من مصادرة يعزّ مثيلها في تاريخ الأنثروبولوجيا الحضارية، نحو الغرب الأوروبي الذي لم يُسهم في تغذيته – في حينه – بقطرة واحدة.
ولسنا ههنا بصدد تفكيك لعملية تغريب العقل اليوناني التي كنا أفردنا لها فصلاً بتمامه في “نظرية العقل”. ولكن ما يهمّنا أن نلاحظه الآن هو أن هذه الجغرافية الفلسفية الخيالية، التي أملتها الاستيهامات الغربية للمركزية الإثنية الأوروبية، قد اصطدمت، عند التصدّي لرسم خريطتها الفعلية، بعقبة كأداء: فنهر الفلسفة اليونانية، الذي انتهى فعليّاً إلى أن يصبّ في المجرى الأوروبي الغربي، ابتداءً من القرن الثاني عشر، كان قبل ذلك قد مرّ بـ “تحويلة” شرق أوسطية لا سبيل إلى المماراة فيها: الحضارة العربية الإسلامية التي كانت هي الأخرى – مع استطالتها الفارسية – حضارة فلسفة، في مظهر من مظاهرها على الأقل.
وبما أن هذه التحويلة العربية الإسلامية لنهر الفلسفة بدت وكأنها تشكّل خرقاً للاحتكار الأوروبي الغربي لامتياز “التفكير بالعقل في العقل”، فقد جرى إما إغفالها في العديد من تواريخ الفلسفة المتداولة، وإمّا – وهذا أدهى – إنكارها والطعن في “واقعيتها”.
أبرز من تصدّى لمهمّة الإنكار هذه، هو بلا أدنى شك إرنست رينان (1823 – 1892)، أحد كبار معماريي المركزية الإثنية الأوروبية وصائغ أسطورة تفوّق الجنس الآري ودونية الجنس السامي في القرن التاسع عشر. فعملاً بدعواه من أنّ “البحث الشجاع والفلسفي عن الحقيقة” هو “قسمة العرق الهندي – الأوروبي”، ومن أن الجنس السامي لم يؤت “ملكة النظر العقلي”، فقد أنكر وجود فلسفة عربية، قائلاً قولته المشهورة: “من العسف أن نطلق اسم فلسفة عربية على فلسفة لا تعدو أن تكون استدانة من اليونان وما كان لها أي جذر في شبه الجزيرة العربية. فهذه الفلسفة مكتوبة بالعربية ليس إلا، ثم إنّها لم تزدهر إلا في الأجزاء النائية من الإمبراطورية الإسلامية، في إسبانيا والمغرب وسمرقند؛ وبدلاً من أن تكون نتاجاً طبيعياً للروح السامي، فقد مثّلت بالأحرى رد فعل عبقرية فارس الهندية – الأوروبية على الإسلام؛ أي على ذلك النتاج الأكثر خلوصاً للروح السامي”.
وبدون أن نكون معنيين هنا بتفنيد الدعوى الرينانية القائمة على ركيزة من عرقية لغوية، فإننا لا نملك إلا أن نلاحظ أنها تبطن تناقضاً داخلياً عميقاً. فهي إذ ترمي الفلسفة العربية بأنها مكتوبة بالعربية ليس إلا، تتجاهل أن الفلسفة اليونانية نفسها ما كانت يونانية، بالمعنى الإثني للكلمة، بقدر ما كانت مكتوبة باليونانية.
وإذا كان رينان يلاحظ أنه “بين الفلاسفة والعلماء الموصوفين بأنهم عرب ما كان ثمة وجود تقريباً إلا لواحد فقط من أصل عربي هو الكندي، بينما كان سائر الآخرين فرساً، ومما وراء النهر، وإسباناً، ومن أهالي بخارى وسمرقند وقرطبة وإشبيلية”، فإننا نستطيع أن نلاحظ بدورنا أن أكثر الفلاسفة والعلماء الموصوفين بأنهم يونانيون، ما كانوا يونانيين ولا من أهالي أثينا وشبه جزيرة الأتيكي، وأن أثينا نفسها لم تنجب سوى فيلسوفين اثنين (سقراط وأفلاطون)، وأن معظم الفلاسفة “الإثنيين” كانوا، على حد تعبير نيتشه، من “الأغراب”.
وإذا كان العرق، كما يفترض رينان، مقولةً لغوية، فكيف يمكن أن يصنّف عشرات الفلاسفة من ذوي الأصول السورية أو المصرية الذين كتبوا باليونانية في عداد الجنس الآري، ثم يمتنع عن تصنيف عشرات الفلاسفة من ذوي الأصل الفارسي أو الصغدي في عداد الجنس السامي مع أنهم كتبوا بالعربية؟ فلماذا تُحضر اللغة في الحالة اليونانية ويُغيَّب العرق؟ ولماذا تُستذكر لفلاسفة الإسلام أصولهم الإثنية وتُنسى لفلاسفة اليونان الأصول عينها؟
بيد أن هذا التناقض المباطن للأطروحة الرينانية لم يمنع دعوى العدمية الفلسفية السامية أو العربية أن تجد أنصاراً لها في صفوف من أرّخوا من المفكّرين العرب للحضارة العربية الإسلامية وللعقل العربي الإسلامي. فأحمد أمين نفسه، على ريادته للتأريخ للحياة العقلية في الإسلام، لا يتردّد في الجزم بأن فلاسفة الحضارة العربية الإسلامية “من أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد” كانوا “كالمفوضية اليونانية في البلاد الإسلامية”.
أما عبد الرحمن بدوي، الذي أدّى خدمات جلى للفلسفة العربية الإسلامية تأريخاً ودرساً ووصلاً بالكشوف الاستشراقية، فقد غلا في دعوى العدمية الفلسفية الإسلامية إلى حد تحويره حديثاً موضوعاً على لسان الرسول ليقول إن الفلسفة ولدت في ديار الإسلام غريبةً وماتت غريبة. بل إنه، في تقديمه لترجمة بعض مقالات كبار المستشرقين عن مصائر التراث اليوناني في الحضارة العربية الإسلامية، يصدر حكم النفي القاطع التالي: “الفلسفة منافية لطبيعة الروح الإسلامية. لذا لم يُقدّر لهذه الروح أن تنتج فلسفة، بل ولم تستطع أن تفهم روح الفلسفة اليونانية وأن تنفذ إلى لبابها”.
ورغم الاحتجاج الصارخ من قبل أحدث مؤرّخي العقل العربي، عنينا محمد عابد الجابري، على اللاسامية الرينانية المعمّمة، فإنه يعود إلى تبنّيها “إبستمولوجياً” ويعيد إخراجها في صورة عنصرية جغرافية مخصّصة. فهو لا ينكر أن نهر الفلسفة اليونانية قد قام بتحويلة شرق – أوسطية، ولكنه لا يقرّ بهذه الحقيقة الواقعة التاريخية إلا ليضيف أن العقل اليوناني “البرهاني” قد تَعَرْفَن وتَهَرْمَس وتَغَونَص، بقدر ما تَمَشْرَق، ولم يقيض له أن يستعيد عقلانيته إلا بقدر ما عاد يتمغرب – بعد طول تخبّط في مستنقع اللاعقلانية المشرقية – ويعيد تكوين نفسه في “لحظة تأسيس ثانية” في “المشروع الثقافي المغربي – الأندلسي” كما تجسّد في “نقدية ابن حزم وعقلانية ابن رشد وأصولية الشاطبي وتاريخية ابن خلدون”. وليس يخفى الدرس: فالإقليم، مثل العرق عند رينان، يتجوهر ويغدو بذاته عامل عقلانية أو لاعقلانية.
وهذا لا يعني أن الإقليم قدر نهائي. فلئن يكن المشرق قد استعصى على العقلانية، فإن المغرب لم يستعص بالمقابل على اللاعقلنة. فقد انتهى به الأمر، تحت ضغط العرفان المشرقي الذي أخذ شكل جائحة، إلى أن يتمشرق. ومن ثم ماتت فيه الفلسفة مثلما كانت ماتت في المشرق بعد الضربة القاصمة التي كان سدّدها إليها الغزالي.
العربي الجديد

 

 

ست محطات في حياتي/ جورج طرابيشي
وأنا في رحلة نهاية عمر، وبعد عقود ستة من صحبة القلم الذي آثرته – عدا زوجتي وبناتي – على كل صحبة أخرى، أجدني أتوقف أو أعود إلى التوقف عند ست محطات في حياتي كان لها دور حاسم في أن أكتب كل ما كتبته وفي تحديد الاتجاه الذي كتبت فيه ما كتبته وحتى ما ترجمته.
المحطة الأولى: ولدتُ من أسرة مسيحيّة وتديّنت تديّناً مفرطاً فــي الطور الأوّل من مراهقتي. وكنت أؤدي كلّ واجباتي الدينية بحساسية تثير حتّى سخرية أخي الأصغر منّي.
ذات يوم في المدرسة ، وفي السنة الثانية من المرحلة الإعدادية – وكنت صرت في نحو الرابعة عشرة من العمر- كان من جملة دروسنا درس التعليم الديني الذي كان يتولاه كاهن معروفة عنه صرامة الطبع. وكنا في تلك المرحلة قد تكونت لدينا فكرة واضحة بما فيه الكفاية عن خريطة الكون وكروية الأرض ودورانها وحجمها. وفي أحد دروس التعليم الديني قال لنا المدرس الكاهن:” تعرفــون أنتم يا أولادي الآن ما هــــــي الكرة الأرضية، وتعرفون حجمها. أريدكم الآن أن تتصوّروا كرة أرض أكبر من أرضكم بمليون مرّة، وأنّ هذه الكرة الأكبر بمليون مرة من كرة الأرض ليست من تراب وماء بل هــي من حديد فولاذي صلب.هذه الكرة الأكبر من الأرض بمليـــون مرّة والأصلب من الحديد الصلب، يمرّ عليها كل مليون سنة طائر، فيمسحها بجناحه. فكم وكم – وهذه الكلمة لا زالت ترنّ في أذني إلى اليوم- كم مليون.. مليون.. مليون سنة يحتاج هذا الطائر إلـى أن يمسح بجناحه مرة واحدة كلّ مليون سنة ليذيب هذه الكرة الحديدية الأكبر من الأرض بمليون مرة؟ تذوب هذه الكرة ولا يذوب عذابكم في جهنّم إذا متّم في حال الخطيئة”.
سمعت هذا التحذير الحسابي فأصابتني رعدة. – فقد فهمته بكل أبعاده إذ كنت في حينه تلميذاً متفوّقاً – وخرجت مـن المدرسة وسرت في الطريق وأنا أطأطئ رأسي. ذلك أن المدرسة كانت تقع في حيّ عتيق جدّا وكئيب، تفوح منه روائح الأماكن المغلقة. وعلى بعد حوالي 200 متر كنا نخرج من الدرب الضيق والمقفل عليه ليلاً بباب حديدي الى شارع عريض ومفتوح تطالعنا منه ، أول ما تطالعنا، بناية حديثة نسبياً تقطن في الطابق الثاني منها أسرة إيطالية، لها ثلاث بنات جميلات جدّاً، وغالباً ما نجدهن جالسات في “الفيرندا” ومرئيات للناظر من الشارع في إطلالة آسرة . وما إن نظرت إليهن عصرئذ حتى أسرعت أخفض نظري وأغمض عينيّ. لماذا؟ هنا لا بدّ أن أعود الى المسيحية التي ولدت فيها وعمّدني أهلي عليها. ففي المسيحيّة يقال إن الخطيئة مثلّثة: خطيئة بالعمل وخطيئة بالقول وخطيئة بالفكر. وحتى هذه الخطيئة الأخيرة قد تكون خطيئة مميتة، وعقابها جهنم إلى أبد الآبدين حسب اللاهوت المسيحي إذا كان مدارها على الجنس نظراً الى الوصية التي تقول : لا تشتهِ امرأة غيرك. والحال أن كل امرأة هي امرأة للغير ما لم تكن زوجة شرعية. ومن ثم، إن الشهوة الجنسية تغدو بحد ذاتها مسبِّبة لخطيئة مميتة ولا يغفرها الله للإنسان ولا ينجيه من عذابات جهنم ما لم يعترف بها للكاهن. وكان الكاهن يركِّز على خطيئة الفكر هذه في درس التعليم الديني لعلمه أن مدار تفكير الصبيان في طور المراهقة هو على الجنس. وعلى هذ النحو توزعت نفسي وأنا أخرج من درب المدرسة الضيق الى الشارع المفتوح على فيراندا الصبايا الإيطاليات الثلاث بين الرغبة في النظر وبين الخوف من العذاب الأبدي في نار جهنم على ذلك النحو المرعب كما صوّره لنا الكاهن من خلال مثال الطائر والكرة الحديدية الأكبر من الأرض بمليون مرة. وهكذا لم أكتفِ بإغماض عينيّ، بل رحت أمشي في الطريق إلى البيت وأنا أحاول أن أطرد من فكري صورة الإيطاليات الثلاث وكلّي خوف من أن تشاء المصادفة أن يسقط فوق رأسي من إحدى الشرفات أصيص زهر من الأصص التي كان من عادة سكان بلدتي حلب أن يزيّنوا بها شرفاتهم فأموت وأنا في حالة خطيئة مميتة. ووصلت إلـــى البيت وأنا في شبه هذيان وأصابتني حمّى حقيقيـــة وبقيت يومـــين طريح الفراش، ثم لما أفقت كان ردّ فعلي الوحيد أنني قلت بيني وبين نفسي: لا، إن الله ذاك الّذي حدثنـي عنه الكاهن لا يمكن أن يوجد ولا يمكن أن يكون ظالماً إلى هذا الحدّ. ومن ذلك اليوم كففت عن أن أكون مسيحيا.
المحطة الثانية الّتي حددّت اتجاهي النهائي في الحياة، عدا قصّة خروجي من المسيحيّة، كانت عند انتقالي في المرحلة الثانويّة إلى مدرسة رسميّة تابعة للدولة. كان ذلك علـى ما أذكر عام 1955 . وقد كان ذلك بعد سقوط حاكم سورية الديكتاتور والجنرال العسكري أديب الشيشكلي. وكان تحالف حزب البعث والحزب الشيوعي والإخوان المسلمين هو من أسقطه. فلمّا تفاوضوا فيما بينهم، سئل الإخوان المسلمون: ماذا تريدون؟ أي وزارة؟ فقالوا: نحن لا نريد وزارة، نحن لنا مطلب واحد وهو إدخال التعليم الديني إلى المدارس الثانوية. التعليم الديني كان مباحاً بل واجباً في المدارس الابتدائية والإعداديّة ولكن ليس في الثانوية. في الثانوية كنّا ندرس علوم الأخلاق والتربية الوطنيّة وليس هناك تعليم ديني. وعلى هذا النحو تقرّر إدخال التعليم الديني إلى المدارس الثّانوية، وأنا ذهبت في تلك السنة إلى المدرسة الثّانوية.
ويومئذ، لمّا قيل لي هناك حصّة تدريس تعليم دينــــي، قلت لرفاقي، وكنت قد بدأت أميل إلــــى أن أصير حزبياً اشتراكياً من “حزب البعث”: أريد أن أحضر درس التعليم الديني لأني أريد أن أطّلع أكثر، فأنا كنت في مدرسة لم أتلقَّ فيها سوى التعليم المسيحي، ولكني أريد الآن أن أعلم المزيد عن الاسلام الّذي هو دين الغالبية السورية. حضرتُ الدرس. شيخ طويـــل القامة بعِمّة. أذكر إلى الآن لون جلبابه الرمادي الأنيق. وكان قد كتب علـى اللّوح بالطبشور سلفاً: “كلّ من هو ليس بمسلم فهو عدوّ للإسلام”. كان هذا موضوع الدّرس. وبدأ يشرح ويشرح ورفـــاقي ينظرون إليّ، كلّ واحد منهم رمقاً، ليدركوا ردّ فعلي. ومضى نصف وقت الحصة وأنا أسمع الدرس. ثم قـــال الشيخ المدرٍّس: الآن أفتح باب النقاش. فسارعت أرفع يدي، فقال :تفضّل، ما اسمك؟ فقلت وأنا أشدّدعلى اسمي: “جورج طرابيشي”، وجورج اسم لا يطلق في سوريا إلاّ على المسيحيين. فوجئ هذا الشيخ وانبثقت حبات عرق على جبينه . وتابعت قائلاً: يــــا أستاذ، أنا لست مسلماً، أنا مسيحي بالمولد، فهل أنا عدوّ لك؟
قال: أعوذ بالله ، من قال هذا الكلام؟ كيف تقول ذلك؟
قلت له: يــا أستاذ منذ أكثر من ثلاثين دقيقة وأنت تقول: كل من ليس بمسلم فهو عدوّ للإسلام، فهل أنـا عدوّ لك؟؟ فطفق الرّجل يتدارك خطأه، ويقول: لا، لا، فالمسيحيون أهل كتاب. وطبعاً كان السؤال الذي دار في نفسي: لماذا لم يتدارك ويستثنِ من البداية؟ وحتى لو لم أسأله فهل يكون كل من هو ليس بمسلم عدواً للإسلام؟ وقد كان ينبغي عليّ أن أضيف السؤال:حتّى وإن لم أكن من أهل الكتاب فهل أنا عدوّ لك؟ ولكني أمسكت.
ابتداء من تلك اللّحظة وعيتُ أن مهمّة كبيرة جدّاً لا تزال تنتظرنا في مجتمعاتنا وأن القضية ليست قضية تغيير سياسة ولا وزارة، بل هي أولاً وربما أخيراً قضية تغيير على صعيد العقليات. وشاءت الصدفة فيما بعد، لمّا صرت أُدرِّس في الثانوية بدوري، ويوم افتتاح الموسم الدراسي، أن أفاجأ بوجود نفس الشيخ في قاعة الأساتذة ليكون مدرس التعليم الديني أيضاً في نفس الثانوية الّتي عُيّنت فيها مدرِّساً للغة العربية. قام عن كرسيه للحال وهجم نحوي وعانقني قائلاً: عذراً يـا أستاذ ، خطيئة ارتكبتها في حياتي لن أكررها أبداً.
المحطّة الثــالثة في حياتي تمثلت بحادثة مماثلة ، ولكن هذه المرة مع رفاق حزبيين مسيحيين. كانت حادثة لها عمق تغييري كبير في نفسي وفي وعيي إذ كانت سبباً أساسياً في تحوّلي إلى كاتب لأني شعرت أنّ الكتابة هي الطريق الوحيدة الّتي بمستطاعي أن أسلكها لكي أغيّر العقليّة في المجتمع. والتفاصيل كما يلي: دخلت السّجن كمعارض سياسي في نظام حزب البعث. كنت انتميت الى حزب البعث قبل استلامه السلطة. ثم استقلت من الحزب بعد سنة من استلامه الحكم لخلافات سياسية وإيديولوجية ليس المجال هنا للدخول في تفاصيلها . وبعد أن استقلت وصرت معارضاً دخلت السّجن. في السّجن كان هناك عدد من البعثيين المعتقلين وإن كانوا ينتمون الى تياريميني غير التيار الحاكم وغير التيار اليساري الذي أنتمي إليه أنا بعد أن تشتت الحزب إلى تكتلات، وكان معظم هؤلاء من جبل حوران في سوريا الذي كان قسم كبير من سكّانه من المسيحيين من أيّام الغساسنة ومن وَرَثتهم . وفي السّجن كان معي خمسة أو ستّة من هؤلاء المسيحيين البعثيين في غرفة جماعية واحدة تضم عشرات المعتقلين. كنت قد تزوّجت من زوجتي الكاتبة”هنرييت عــبودي”، وأنجبت منها أوّل طفلة عمرها سنة أو سنتان، لم أعد أذكر. وكنت وأنا بالسّجن لا أفكر إلاّ بهذه الزوجة وبهذه البنت الّتي تركتها معها. ولست أدري كيف جاء حديث الشرف الجنسي الذي يقضي بوجوب قتل المرأة إذا أقامت علاقة جنسية غير مشروعة سواء كانت مسيحية أو مسلمة، وفي هذه الحال تقتل ، والأفضل أن تذبح ذبحاً من قبل أخيها استرداداً للشرف المهان. ومن كلمة إلى كلمة قادنا النّقاش الى ما يلي. قلت لهم: أنــــــــا أرفض مبدأ جريمة الشرف من أساسه، وهذا موقف لا أستطيع احتماله إطلاقاً من قبل إنسان يزعم نفسه تقدمياً أو اشتراكياً أو بعثياً. عندئذ هبّ واحد منهم غاضباً وقال: أنت متزوج؟ قلت: نعم. قال: شوعندك؟ قلت له: عندي بنت. قال: صغيرة طبعاً؟ قلت: نعم. قال: الآن إذا كبرت – بنتي اسمها مَيّ- إذا كبرت هذه البنيّة وغلطت مع شابّ أفلا تذبحها؟؟ قلت له: أنا أذبح مايا بنتي إذا رأيتها تقبِّل شابّاً ! فقـــــــــــــال: كيف؟ أما تذبحها ؟ قلت له: يا رفيق أجننتَ !! أذبح مايا؟ قال: أنت ما عندك شرف! أنت لست عربياً ولا تستأهل أن تكون عربياً ولا بعثياً! وأخذ هؤلاء الرّفاق المعتقلون معي قراراً بمقاطعتي وبعدم الكلام معي لأنّــي لا أستحق شرف أن أكون عربيـاً أو بعثياً ولو كنت معارضاً مثلهم للتيار الحاكم. ونتيجة لهذه المقاطعة ولما تلاها من عدائية نحوي قدَّمت طلباً إلى ادارة السجن بنقلي إلـى غرفة منفردة، أي شبه زنزانة، بدلاً من أن أبقى مع رفاق يقاطعونني ويحتقرونني.
من يومها أيضاً تعلّمت درساً جديداً وهو أنّ القضيّة ليست فقط قضية مسلمين وغير مسلمين، ومسيحيين وغير مسيحيين، من حيث الوعي الاجتماعي حتى ولو كانوا ينتمون إلى أيديولوجيا واحدة. فالقضية أعمق من ذلك بكثير. قضية بنى عقليّة في المقام الأول. ففي داخل المخّ البشري تتواجد طبقتان: طبقة فوقية سطحية يمكن أن تكون سياسية، تقدمية، اشتراكية، وحدويّة، وطبقة بنيوية تحتيّة داخل هذا المخّ رجعيّة حتّى الموت، سواء كان حاملها مسيحيـاً أو مسلمــاً. ومنذ ذلك اليوم توطد لديّ الاقتناع بأن الموقف من المرأة في مجتمعاتنا يحدد الموقف من العالم بأسره. ومنذ ذلك اليوم أيضا ترسخ لديّ الاقتناع أكثر من أيّ يوم سبق بوجوب النضال بواسطة الكلمة من أجل تغيير العقليــات، تغيير البنية الداخلية للعقل، وليس فقط البنية السطحية السياسية أو الايديولوجية.
في المحطّة الـــــــرابعة من حياتــــــــــــي، وبعد مرحلة القوميـة العربية والبعثية واليسـارية والماركسية، جاء دور فرويد.
وقصتي مع فرويد بدأت بواقعة لا تخلو من طرافة. فبعد أن تزوجت وصار عندي بنتان كنت، كلّما جلست إلى المائدة لآكل الطعام، أمسك برغيف الخبز- عندنا فـــي سوريا الخبز العربـي، وهو غير دارج في معظم البلدان العربية الأخرى- فلا أجد نفسي إلا وأنا أقطّعه من أطرافه لاشعورياً وزوجتي وابنتي قاعدتان أمامـــي على المائدة تأكلان، وكنت لا أستطيع منع نفسي من تفتيت الخبز حتى عندما يكون معنا على المائدة ضيف.
كانت زوجتي تقول لي بلهجتها الحلبية: عيب يــا جورج، النّاس بشوفوك، وبناتك يتعلموا هالعادة ، وحتى عندما يكون عندنا ضيوف علــى المائدة يرونك تفتِّت الخبز قدّامهم هكذا! وكنت أقول لها: معك حقّ.ولكن كلّ مرّة أنسى نفسي وأعود إلى تمزيق الرغيف بدون قصد ولا انتباه مني. وهكذا إلـى أن صادف ذات مرة أن قرأت مقالاً- لا أعتقد أنه كان لفرويد وإنما لأحد تلاميذه – يحكي عن هذه الظاهرة النّفسية ويعتبرها عرضاً عصابياً بصفتها فعل تمزيق لاإرادي ولاشعوري للأب. وأنا عندما قرأت هذا المقال أصبت برجفة: فأنا إذن أمزّق أبي! وبالفعل كنت على صدام في مراهقتي مع أبي. ومنذ أن قرأت ذلك المقال انفتحت على التحليل النفسي، وعكفت على قراءة فرويد ثم شرعت أترجم له. ووجدتني أتصالح مع أبي – وكانت قد مضت سنوات على وفاته – وأصفّي حسابي مع نفسي تجاه أبي وأستعيد نسبة كبيرة من الهدوء النفسي وأنظر إلى الحياة نظرة جديدة إلى حدّ ما. ولقد ترجمت لفرويد نحواً من ثلاثين كتاباً، ولكني بطبيعة الحال لم أترجمها عن لغتها الأصلية الألمانية، بل عن اللغة الفرنسية. وأنتم تعلمون المثل الايطـــــــــــــــالي الّذي يقــول: المترجم خائن Traduttore, traditore . وأنا إذ كنت أترجم عن لغة عن لغة فهي خيانة مزدوجة، ولكن كان هذا خيارأً لا بدّ منه لأنّه لا يوجد في الثقافة العربية، التي تهيمن عليها نتيجة الاستعمار السابق اللغتان الفرنسية والإنجليزية، من يتقن الترجمة عن الألمانية سوى قلة قليلة للغاية. ولو لم أترجم فرويد أو لم يترجمه غيري سواء عن الفرنسية أو الإنكليزية لبقيت الثقافة العربيّة بدون فرويد وبدون تحليل نفسي، وهذا شيء غير مقبول. وطبعاً أنا خنت خيـــانة مزدوجة بالترجمة عن لغة عن لغة، ولكن أعتقد أني أديت للثقافة العربية خدمة ضرورية. وأنا منصرف اليوم ، ومنذ عام تقريباً، إلى إعادة النظر في ترجماتي الفرويــدية مستفيداً من صدور ترجمات جديدة لفرويد باللغة الفرنسية – ترجمتـــين أو ثلاث للكتاب الواحد – استعداداً لإعادة طبعها منقحة وأكثر مطابَقة للنص الأصلي، متمنياً أن يأتي ذات يوم يكون عندنا مترجمون يترجمون عن الألمانية مباشرة.
في المحطّة الخامسة من حياتي سأتوقف عند عن علاقتي بـالراحل محمد عابد الجابري الّذي كرست له ربع قرن من عمري.
كنت منذ عام 1972 قد انتقلت إلى بيروت لأتولى رئاسة تحرير مجلة “دراسات عربيّة” الشهرية التي كانت تصدر فيلبنان عن دار الطليعة. وكان الجابري قد بدأ يرسل إليّ في مطلع الثمانينات بعض المقالات لنشرها في المجلة. ثمّ أرسل كتاباً إلى دار الطليعة عنوانه “تكوين العقل العربــي“، الجزء الأوّل من مشروع “نقد العقل العربـــي“. وقد أعطاني صاحب الدار الرّاحل بشير الداعوق المخطوط قائلاً لي: أنظر في هذا الكتاب فأنت أفهم مني في التراث. قرأت الكتاب وقلت له: هذا كتاب مدهش، أُنشره فوراً. نشره طبعاً. ولكنّي في أثناء ذلك كنت أخذت قراري- وقد تعبت من الحرب الأهليّة اللبنانية – بالهجرة من بيروت إلـــى بـاريس للعمل في مجلة “الوحدة “.
وأنا أودّع الدّار و أودّع زملائي وأودّع بشير الداعوق، كان صدر كتاب ” تكوين العقل العربي“، وكان هو الكتاب الوحيد اللّذي حملته معي من بيروت إلى باريس مع معجم سهيل إدريس “المنهل“. لم أحمل من كتب مكتبتي الخمسة آلاف غير هذين الكتابين.
جئت باريس وقعدت في بيتي شبه الفارغ أقرأ هذا الكتاب مرّة ثانية، مسحوراً به سحراً كاملاً. وكان أوّل مقال كتبته في مجلّة “الوحــدة” عن هذا الكتاب. وبادرت أكتب بالحرف الواحد- يعرف هذه القصة عدد ممن قرؤوا سيرة حياتـي-: “إنّ هذا الكتاب ليس فقط يثقّف بل يغيّر، فمن يقرأه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه”. بمثل هذه الحماسة كتبت عرضاً عن الكتاب في مجلّة “الوحدة“. ولكن كانت هناك نقطة تفصيلية صغيرة في الكتاب أثارت عندي بعض الشكوك وتتعلق بموقف الجابري من “إخوان الصفاء”. فمن دراستي الجامعيّة في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق كانت تكونت عندي فكرة عامة عن انتماء إخوان الصفاء إلى العقلانية الفلسفية الإسلامية. والحال أن الجابري كان قال كلاماً سلبياً للغاية عن إخوان الصفـــــاء ناسباً إياهم الى ” العقل المستقيل في الإسلام”، ومؤكداً أنهم وقفوا ضدّ العقل، وضدّ الفلسفة، وضدّ المنطق، وضد صاحب المنطق الذي هو أرسطو .هكذا ارتسم عندي شكّ يتعلق بهذه النقطة تحديداً، وما كان في إمكاني أن أحسمه لأن رسائل اخوان الصفاء لم تكن متوفرة لي في مهجري الباريسي.
ثم شاءت الظروف أن أسافر إلى إحدى دول الخليج في دعوة لندوة. في ذلك البلد الخليجي قلت في نفسي إني سأبتاع رسائــــــل إخوان الصفاء لحسم تلك المسألة. ذهبت إلى مكتبة كبيرة هناك وسألت المستخدم: عندك كتاب “إ رسائل خوان الصفاء“؟ فقال بلهجة لا تخلو من غرابة: لا يا أستاذ. قلت له: وأين يمكنني الحصول عليه ؟ قال: أستاذ، أنت تعرف أنّ هذا الكتاب هو في الفلسفة؟ قلت له:نعم. قال: إن كتب الفلسفة ممنوعـــة هنا . وكانت هذه أول مرة أسمع فيها أن كتب الفلسفة محرّمة، وفيمـا بعد اكتشفت أنها ليست ممنوعة فقط في تلك الدولة الخليجيّة ، بل في معظم دول الخليج. قلت لـلمكتبي: آسف، أنا والله ما كنت أدري. ومن كلمة إلى كلمة بدأت أتناقش معه ودياً وقلت له: أنا لازمني الكتاب، فماذا أفعل؟. قال: هناك مكتبة أخرى. ودلّني على اسمها وعنوانها وقال: علّ وعسى يكون لديها.
ذهبت الى المكتبة الثــــانية و سألت المكتبي عن الكتــــاب. وبالطبع أتاني نفس الجواب، فقلت له: ولكن اسمح لي أعرّفك بنفسي :أنا كاتب ومترجم اسمي “جورج طرابيشي” . وبمجرّد أن قلت له جـــــورج طرابيشي، قال: أهلاً وسهلا ًوراح يعرّفني على ما هو موجود من كتبي وترجمـاتي لديه. ثم أضاف: اسمح لي. ودخل واستدعى رئيسه صاحب المكتبة، فقال هذا: أهلاً وسهلاً أستاذ جـــورج. ورحّب بي، إلخ. رويت له حاجتي الى الكتاب لأنه غير المتوفر لي بباريس ولا أستطيع أن آتي به من لبنان بسبب ظروف الحرب الأهلية،إلخ. قال: والله يا أستاذ أما تعرف أن هذه الكتب ممنوعة؟ قلت له: عرفت ولكن لعلّ وعسى تســـــاعدني. قــال: تفضّل معي. نزل معي إلى قبو تحت الأرض فـــإذا فيه صناديق وكتب أخرى، وأخرج أربعة أجزاء كبيرة لإخوان الصفاء، قال: تفضّل أستاذ . و لم يشأ أن يأخذ ثمنها ولكني أصررت ودفعت شاكراً إياه كل الشكر.
وأنا في طائرة العودة ثم في البيت كان أوّل همي أن أعثر عــلى النّص الّذي يقول عنه الجابري إن إخوان الصفاء يقفون فيه ضدّ المنطق وضد أرسطو وضدّ الفلسفة.
فتحت الجزء الرابع من الرسائل أفتش عن النص كما يشير اليه الهامش الذي يحيل اليه كتاب “نقد العقل العربي” فلـــــم أجده، فتشت وفتشت ثم قلت في نفسي: لعله خطأ مطبعي ويجب ان أعيد قراءة الرسائل الواحدة والخمسين كلها. وهكذا بدأت بقراءة كتاب رسائل إخوان الصفا بأجزائه الأربعة فإذا بي أصل إلـــــى الرسائل 10-11-12-13-14 ، فكانت دهشتي عظيمة. ففي هذه الرسائل الخمس، و بعدما قدّموا وعرّفوا بأنفسهم، يقولون ما خلاصته: يـــا أخي، أيّدك الله وإيّانا بروح منه، اعلم ، بعدما شرحنا لك أهدافنا، أنّه لا مدخل لك إلينا إلاّ بواسطة المنطـــق لأنّه هو المعبر الّذي يجعل الخطاب بيننا ممكناً، فتعالَ نشرح لك المنطق وكتبه. ثم يخصّصون الرسائل 10 إلى14 لشرح كتب المنطق الأرسطي مثل العبارة والمقولات و والقياس والبرهان ، ويستعملون العبارات بلفظها اليوناني مثل أنالوطيقا وقاطيغورياس، إلخ .
فيما أنا أطالع هذه الرسائل الخمس في الشرح المفصل للمنطق الأرسطي كنت أتساءل بيني وبين نفسي: كيف يقول الجابري إن إخوان الصفا قاطعوا أرسطو؟ وقاطعوا المنطق؟ وقالوا: إن الإنسان ليس بحاجة إلى المنطق وإلى الفلسفة ؟ وعدت من جديد إلى متابعة قراءة الرسائل إلى أن وقعت في الرسالة السابعة عشرة المعنونة: في علل اختلاف اللغات على النص الذي يتخذ منه الجابري دليلاً علن أن إخوان الصفاء قالوا إن الإنسان ليس بحاجة الى المنطق. والحال ماذا يقول النص؟ فحواه كالتالي: لقد تقدم بنا الكلام في أوائل رسائلنا على أهمية المنطق لفهمنا وفهم لرسائلنا. ولكن اعلم يا أخانا أنّ المنطق منطقان. هناك منطق فلسفي حدّثناك عنه، وهناك منطق لفظي أي الكلام، لأنّه لولا الكلام لما تفاهم البشر فيما بينهم. وبعد أن يشــرحوا دور اللغة كأساس وكوسيلة للتفــاهم بين البشر يضيفون: اعلـــم أن هناك نفوساً صــافية غير محتاجة للكلام ولا للمنطق في إفهام بعضها بعضاً، أي هناك نفــوس روحانية تتفاهم بالعين، تتفاهم باللّمس، تتفــاهم بالروح، بالوجدان، بالتخاطر كما بتنا نقول اليوم، بدون أن تكون بها حاجة للمنطق اللفظي والكلام. فإذا بالجــــابري استغلّ هذه الجملة ” ليست بحاجة إلـى منطق” ليحذف كلمة اللفظي وليقول إنّ هؤلاء ضدّ المنطق بمعناه الفلسفي. ثمّ لم ألبث أن وقعت علــى الشّاهد التّالي وهو في معرض نقاش إخوان الصفاء حول ما بين الدين والفلسفة من علاقة يريد المتزمتون في عصرهم ( القرن الرابع للهجرة) فصمها ويدعون إلى تحريم الفلسفة باسم الدين. يقول الشاهد بالحرف الواحد: “اعلم أيّهــــا الأخ البــار، أيّدك الله بنور منه، أنّ من عرف أحكام الدّين فإنّ نظره في علم الفلسفة لا يضرّه بل يزيده فـــي علم الدّين تحققاً وفي فهم المعاني استبصاراً”. ثم ثمّ يضيف القول: “المنطق ميزان الفلسفة وأداة الفيلسوف. ولمّا كـانت الفلسفة أشرف الصنائع على البشرية بعد النّبوة صار من الواجب أن يكون ميزان الفلسفة أصحّ المــــوازين وأداة الفيلسوف أشرف الأدوات ونسبة صناعة المنطق إلى العقل والمعقولات مثل صناعة النحو إلى اللسان والألفاظ”.
إني لمّا قرأت هذه الرسالة وهذا الشاهد أصبت بصدمة كبــيرة وبطعنة في كبريائي كمثقف، لأنّي كتبت في ما كتبت عن كتاب الجـابري: ” هذا الكتاب من يقرأه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه”.
ومن ذلك اليوم لم أعد أوجّه لومــــــي إلى الجــــــابري، بل إلى نفسي، لأنّني حكمت على كتاب في موضوع لم أكن أملك كلّ مفاتيحه المعرفية.وأقسمت بينـــي وبين نفســــي أني بعد الآن لن أقول شيئاً أو أصدر حكماً بدون أن أكون مستوثقاً من كلّ المعلومات بصدده. وهكذا أخذت قراري بإعادة تربية نفسي، و إعادة تثقيف نفسي. وهكذا انكببت، أنا الذي درست اللغة العربية والتراث العربي جزئياً في الجامعة، انكباباً مرعباً علــى قراءة كتب التراث وعلــــى مطالعة عشرات وعشرات المراجع الّتي ذكرها الجــــابري والّتــي رحت أدقق كلّ شاهد من شواهدها وأتحقّق من صحّتها فــــي كلّ المجالات. وبصراحة أقول لكم: لم يكن شاهد إخوان الصفاء بالشاهد الوحيد ، بل وقعت على عشــرات وعشرات من الأمثلة علـــى مثل هذا التزوير الّذي أوقع فيه الجابري عن قصد أو عن غير قصد- لا أدري- قراءه وأنا منهم.
وإني لأقولها صراحة اليوم : إني أعترف للجــابري، الّذي قضيت معه ربع قرن بكامله وأنا أقرأه وأقرأ مراجعه ومئات المراجع في التراث الإسلامي ومن قبله المسيحي ومن قبلهما التراث اليوناني وكل ما يستوجبه الحوار مع مشروعه، إني أقرّ له، وأعترف أمامكم، أنّه أفادني إفادة كبيرة، وأنه أرغمني علـــى إعادة بناء ثقــافتي التراثية . فأنـــا له أدين بالكثير رغم كلّ النقد الّذي وجّهته إليه.
المحطة السادسة. إن المحطات الخمس التي تقدّم بي الكلام عنها كانت كلها بمثابة محطات انطلاق، وبدءاً منها كتبت كل ما كتبته على امتداد حياتي من أبحاث ومقالات قاربت في عددها الخمسمائة ، ومؤلفات نافت على الثلاثين، وترجمات زادت على المئة . لكن المحطة السادسة كانت بالمقابل هي محطة التوقف والصمت والشلل التام عن الكتابة: محطة الألم السوري المتواصل منذ نحو أربع سنوات بدون أن يلوح في الأفق أي بشير بنهاية له.
على امتداد تلك السنوات الأربع ما أسعفني القلم إلا في كتابة مقالين اثنين فقط: أولهما في 21/3/2011 بالتواقت مع البدايات الأولى لثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا، وثانيهما في 28/5/2011 مع انخراط سورية بدورها في معمعة ذلك الربيع.
المقال الأول حمل هذا العنوان: تاريخ صغير على هامش التاريخ الكبير. وقد قصدت بالتاريخ الكبير ثورات الربيع العربي التي بدت في حينه وكأنها تُدخِل العالم العربي في عصر الثورات التاريخية الكبرى كمثل تلك التي شهدتها فرنسا عام 1779 أو أوروبا الغربية عام 1848 أو دول المعسكر المسمى بالاشتراكي في أواخر القرن العشرين. أما التاريخ الصغير فقد قصدت به تاريخي الشخصي المرتبط بخيبة أمل كبرى. فأنا، كما وصفت نفسي في خاتمة ذلك المقال الأول عن ثورات الربيع العربي، ابن الخيبة بالثورة الإيرانية الآفلة أكثر مني ابن الأمل بثورات الربيع العربي الشارقة التي قلت في نهاية المقال إنني إذا كنت أتمنى من شيء فهو أن يكون توجسي في غير محله، وأن يكون مآل هذه الثورات العربية غير مآل الثورة الإيرانية التي صادرتها القوى الناشطة تحت لواء الإيديولوجيا الدينية، وأن تكون فرحتي بذلك الربيع هي الرفيق الدائم لما تبقى لي من العمر.
ولكن ، وكما أثبت التطور اللاحق للأحداث، فإن ما قام البرهان على أنه كان في محله هو توجسي بالذات: فالربيع العربي لم يفتح من أبواب أخرى غير أبواب الجحيم والردّة إلى ما قبل الحداثة المأمولة والغرق من جديد في مستنقع القرون الوسطى الصليبية/الهلالية .
أما المقال الثاني الذي كتبته في أواخر شهر أيار/مايو 2011 فكان بعنوان: سورية: النظام من الإصلاح إلى الإلغاء. وقد كان محوره على أن سورية، المتعددة الأديان والطوائف والإثنيات، تقف بدورها على أبواب جحيم الحرب الأهلية ما لم يبادر النظام إلى إصلاح نفسه بإلغاء نفسه بنفسه. فغير هذا الإلغاء لا سبيل آخر إلى إصلاح سلمي يصون البلاد من الدمار. ولكن بدلاً من ذلك امتنع النظام حتى عن الوفاء بالوعود في الإصلاح التي كان لوّح بها. ولكن لأعترف أيضاً بأن إصراري يومئذ على قدر من التفاؤل، من خلال مطالبة النظام بإلغاء نفسه تفادياً لحرب أهلية طائفية مدمرة، كان في غير محله إذ ما كنت أعي في حينه، أي في الأسابيع الأولى لاندلاع الانتفاضة السورية ، دور العامل الخارجي إعلاماً وتمويلاً وتسليحاً، وهو الدور الذي يدفع اليوم الشعب السوري بجميع طوائفه ثمنه دماً وموتاً ودماراً غير مسبوق إلا هولاكياً، وهذا في ظروف إقليمية وأممية تشهد احتداماً في الصراع الطائفي السني/الشيعي ينذر بأن يكون تكراراً للصراع الطائفي الكاثوليكي/البروتستانتي البالغ الشراسة الذي كانت شهدته أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
يبقى أن أختم فأقول إن شللي عن الكتابة، أنا الذي لم أفعل شيئاً آخر في حياتي سوى أن أكتب، هو بمثابة موت. ولكنه يبقى على كل حال موتاً صغيراً على هامش ما قد يكونه الموت الكبير الذي هو موت الوطن.
نقلاً عن “الأثير”

 

 

 

العلماني المتشدد/ صبحي حديدي
كان جورج طرابيشي جاري في الحيّ، ولكي أستقل المترو فإنني أعبر من مركز تجاري اعتاد هو أن يتسوق فيه. قبل أيام قليلة سبقت رحيله، صادفته يجرّ عربة التسوّق الصغيرة، فمازحته بعبارة تفيد الشيخوخة، فابتسم واستوقفني، وأوقف المزاح أيضاً، سائلاً بنبرة جادة وحزينة: لوين رايح بلدنا؟ ولإني كنت على علم بما ينطوي عليه موقفانا من تباين، فقد فضّلت العودة إلى مزاح، لا يغيب عنه الجدّ بالتأكيد: رايحين ع الحرية!
لا أزعم أنني تربيت شخصياً على مشروع طرابيشي الفكري، وكنت وأظلّ أختلف معه في كثير جوهري، كما أتفق في كثير آخر لا يقلّ اتصافاً بالجوهري؛ لكني أقرّ بما له عليّ من فضل في ترجمات كثيرة، لم يكن ممكناً لي أن أطلع عليها قبل أن أمتلك ناصية لغات أجنبية. وإذا كنتُ أكثر حماساً لأعماله الفكرية والفلسفية، السجالية بصفة خاصة؛ فإنّ علاقتي بمؤلفاته النقدية، وخاصة «الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية»، 1973، و»شرق وغرب، رجولة وأنوثة»، 1977، انطوت على تفاعل إيجابي أعمق، رغم أنها نهضت على مزيج خاص من التعلّم والتشكك. وفي معركته الشهيرة مع محمد عابد الجابري، وجدتني أنحاز إليه من بوّابة مساءلاته النقضية بصدد تشخيص الجابري الإبستمولوجي لمفهومَيْ «الشرق» و»الغرب»؛ وفي الآن ذاته لم أستطع هضم مقولاته المتشددة حول العلاقة شبه الميكانيكية بين العلمانية والديمقراطية، أو انجرافه إلى حماس عصبوي لصالح «علمانية» أصولية لا تُبقي ولا تذر!
كذلك وجدتُ رابطة عجيبة بين تنقّلاته المهنية (مدير إذاعة دمشق، خلال الأشهر الأولى من انقلاب حزب البعث، 1963؛ ثمّ رئيس تحرير «دراسات عربية»، في بيروت؛ ومحرر مجلة «الوحدة»، في باريس)؛ وتبدلاته الإيديولوجية، من القومية إلى الماركسية فالوجودية؛ وكيف أنّ هذه المحطات تبادلت التأثير في مشروعه الفكري والنقدي، فلم تغب تماماً مؤثرات أيّ من هذه المراحل في بعضها البعض، كما أقرّ هو نفسه. وليس بغير دلالة خاصة أنه ينهي المجلد الرابع من عمله الموسوعي «نقد نقد العقل العربي» بخاتمة ـ يعتبرها مؤقتة، هي ذاتها! ـ تقول إنّ هذا الجزء، الذي وقع في 424 صفحة، «لم يتوصل إلى أن يحسم أكثر من نصف الإشكالية، فالشيء الذي أفلحت صفحات هذا المجلد في إثباته ـ أو على الأقل هذا هو المأمول ـ هو أن استقالة العقل في الإسلام لم تكن بعامل خارجي ونتيجة لاكتساح ساحته من قبل جحافل ‘اللامعقول’ المندفعة من مكامن ‘الموروث القديم’ في الإسكندرية وأفامية وحران… إلخ».
لكن طرابيشي هو، أيضاً، ذلك المفكر النقدي الذي تعصّب للعلمانية بشدّة، لكنه تجاسر على القول إنّ الإسلام، وليس «التمدن الإسلامي» وحده، أكثر علمانية من المسيحية: ثمة «إسلام علماني» ينبثق من حقيقة أن الإسلام لا تحكمه معايير ثقافية مقدسة سوى القرآن، وأنّ جميع مظاهر الممارسة الاجتماعية في صدر دولة الإسلام الأولى كانت علمانية في الجوهر. صحيح أنّ هذا الخطّ في التفكير، أو الترجيح بالأحرى، يرتكز على فرضية ثقافية صرفة، إلا أنها لا تخفف من غلواء التشدد العلماني الذي عُرف به طرابيشي فقط، بل تعيد تصريفه في أقنية انفتاح وحوار وتفاعل.
وحين بلغني نبأ رحيل طرابيشي، كتبت على «تويتر» هذه التغريدة: « السلام لروح جورج طرابيشي (1939ـ2016)، الآن وقد أخلد إلى سكينة ثمينة، افتقدها طيلة عقود من حفر معرفي خلاق، وتعصب علماني قَلِق ومؤرَّق». وفي البال أنه أقلق قارئه مثلما أصيب بقلق ذاتي دائب، وأرّق القارىء إياه على نحو لا يقلّ مضاضة عن أرق المفكر في ذاته، ومن ذاته.
كاتب سوري
القدس العربي

 

 

في وداع جورج طرابيشي/ حسام عيتاني
اختتم جورج طرابيشي صمته الطويل بالرحيل. يجري غالباً إسقاط المواقف والكتابات الأخيرة للراحل على أعمال عمر طويل من الترجمة والنقد والبحث. فيؤخذ الكل بالجزء. كاتب ومفكر مثل طرابيشي لا تجوز مقاربته من خلال الابتسار والاختزال والأحكام المسبقة.
تعدد الاهتمامات التي شغلت الكاتب يجعل من العسير إنصافه في بضعة سطور. سيرته التي لخصها بنفسه في عدد من المناسبات والمقابلات الصحافية، وإنجازاته في مجالات الترجمة والبحث الفلسفي والتراثي، وأعماله عن عدد من المثقفين العرب، نقداً وتدقيقاً وعرضاً، من حسن حنفي ونجيب محفوظ وحنا مينا وصولاً إلى مجموعته في «نقد نقد العقل العربي»، تجعل من المجحف وضعه في خانة واحدة يسهل التصويب عليها.
وإذا كان من الممكن إعلان الاختلاف الكبير معه في رؤاه السياسية الراهنة التي تناولها خصوصاً في كتابه «هرطقات» بجزءيه، وحديثه عن العلمانية والطائفية والديموقراطية كمعطيات جوهرية أو تلامس هذه الصفة، إلا أن ذلك لا ينفي بحال أهمية الإرث الغني والمتنوع الذي تركه طرابيشي في مجالات عدة مثل نقد التراث والتعامل معه تعاملاً يختلف جذرياً، على ما نرى، عما فعلت المدارس التي احتكرت التطرق إلى التراث في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى أيامنا هذه.
عليه، قد يكون من الأجدى في المساحة المتاحة هذه تناول جانب واحد من عمل المفكر الراحل ونقصد موقفه من التعامل مع التراث الذي تجسد في مجموعته «نقد نقد العقل العربي» والكتب التي تفرعت منها مثل «المعجزة في الإسلام» و»من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة».
قدّم طرابيشي في هذه المجموعة درساً مهماً لكل من يرغب في تناول التراث العربي- الإسلامي وهو تعرية أساليب من التزييف والتدليس لدى عدد ليس بالقليل من الكتّاب العرب. ذهب بعيداً في كشف النواحي الاستنسابية والاعتباطية في استحضار ما يخدم أيديولوجية الباحثين المعاصرين وأفكارهم المسبقة التي يرغبون في تمريرها وترويجها من خلال اللجوء إلى ما قاله السلف في الفلسفة والكلام والفقه والترجمة. وليس سراً أن ما قيل قبل حوالى الألف سنة ما زال عميق الأثر حتى في صفوف مدعي العلمانية واستخدام المناهج المعرفية الحديثة.
قد لا يكون طرابيشي بعيداً، من حيث الاعتقاد السياسي، عن عدد ممن نقدهم لناحية تقديم الهم الثقافي المحض على المعنى الاجتماعي حتى لتبدو الماركسية بتفسيراتها للعلاقة بين الثقافة والاجتماع والسياسة، هي أضعف مكونات أدواته الأبيستيمولوجية التي راكمها على مدى ستة عقود من العمل في الحيز الفكري.
لكن ذلك لم يحل دون تقديم جورج طرابيشي خدمة كبرى للثقافة العربية المعاصرة، في ما يجوز تسميته «مفارقة طرابيشي». فالتزامه الدقة والحرص على البحث عن المصادر الأصلية ومقارنتها والسعي في تفنيد السياقات التي وضع فيها الباحثون المعاصرون استخدامهم للتراث العربي – الإسلامي، انتهى بتوجيه طرابيشي ضربة قاضية، من حيث لا يدري ربما، إلى مرحلة استمرت من أواسط السبعينات لاتجاه فكري عربي سعى إلى إحياء التراث كممر إلى الحداثة والمعاصرة. لقد كشف زيف هذا المنهج وادعاءاته التي تقلع في اتجاه مخالف للهدف الذي تعلنه، فتروج للظلامية فيما هي تزعم التنوير وتحاول استغلال جهل القارئ وتسعى إلى خداعه بينما تتحدث عن العقلانية.
سعى طرابيشي جهده إلى فرض احترام الكاتب للقارئ ووقف استخدام التراث في الصراعات الأيديولوجية المعاصرة باعتبار التراث نتاج مرحلة مضت ورؤية معينة إلى العالم لا يصح تعميمها من خارج سياقاتها.
أما محاكمة الكاتب الراحل سياسياً بسبب مواقفه من أحداث راهنة، فهي مثل كل محاكمة من هذا الصنف، لن تصدر أحكامها قبل وقت طويل.
الحياة

 

 
وداعاً جورج، وداعاً يا معلم/ وائل السواح
أدين بالكثير، ومثلي كثرة من أبناء جيلي، لجورج طرابيشي، مفكراً ومثقفاً وصديقاً. كان مدخلي إلى الفكر الماركسي غير الأرثوذكسي، خارج كتب «دارالتقدم»، وكان مدخلي إلى عالم فرويد الثري، ومدخلي إلى فهم محمد عابد الجابري من دون تأليهه. منه تعلمت نقد الفكر الديني ونقد الفكر القومي ونقد الماركسية ونقد النقد.
من جورج طرابيشي تعلمت أن الماركسية ليست بالضرورة ماركسية – لينينية، وأن الاتحاد السوفياتي لا يمثّل بالضرورة تجسيد الماركسية على الأرض، وأن خالد بكداش ليس معصوماً عن الخطأ كالأنبياء. ومن مجلة «دراسات عربية» التي كانت تصدر عن «دارالطليعة» تعلمت، حين كان يرأس تحريرها، أنه إضافة إلى كارل ماركس ولينين، هناك أيضاً تروتسكي ولوناتشارسكي وكارل لايبنخت وروزا لكسمبورغ وإريك فروم وهربرت ماركوزة. ومنه تعلمت أن الياس مرقص وياسين الحافظ ليسا هرطوقين بل هما مجدّدان مبدعان في الفكر الماركسي. ومنه تعلمت أن ما قاله ماركس ولينين ليس مقدساً، بل هو حديث بشر يقبل الخطأ والصواب والتطوير.
وأثناء رئاسة تحريره مجلة «دراسات عربية»، آثر طرابيشي المواجهة في مجال الفكر على الانسياق وراء السائد. وفي الوقت الذي كان الأدب الماركسي – اللينيني – الستاليني قد بلغ أوجه في ظل حكم بريجنيف للكرملين، وهيمنة «العلماء» السوفيات على الفكر اليساري في العالم عموماً والعالم العربي خصوصاً، نشر طرابيشي (وكذا فعلت «دار الطليعة» التي كان له فيها رأي مسموع) مقالات لأمثال المفكرين السوريين البارزين الياس مرقص وياسين الحافظ، كما نشر عنهما وعن فكرهما، مفسحاً في المجال أمام رؤية مختلفة للفكر الماركسي قادت كثراً من أبناء جيلي إلى الخروج عن قيود الأحزاب البكداشية التي كانت مهيمنة على الفكر اليساري في الخمسينات والستينات ومنتصف السبعينات. وبدأنا نرى في رياض الترك وعمر قشاش صاحبي رؤية مشروعة وليسا مجرد «خائنين» للحزب وللاتحاد السوفياتي «العظيم».
ومن خلال جورج، كان أول لقاء بيني وبين سيغموند فرويد. أمسكت نهاية السبعينات بكتاب عنوانه «موسى والتوحيد»، ولأنه لم يكن لدي ما أقرأه، بدأت بتصفّح الكتاب. لم أنتبه لنفسي إلا وقد مضى شطر من الليل وقد سلخت مائة صفحة منه. في اليوم التالي أنهيته، وبعدها صرت إنساناً جديداً. سحرني فرويد وسحرني جورج بأسلوبه الرصين، لكن السلس المطواع، ورحت أبحث عن مؤلفات أخرى لفرويد فلم أجد إلا قلة منها تُرجمت إلى العربية، منها «تفسير الأحلام» من ترجمة الأستاذ الكبير مصطفى صفوان، الذي قد يكون أكثر دقة علمية ولكنه أقل سحراً وسلاسة. وانتظرت حتى ترجم جورج «الحلم وتأويله» و «مستقبلوهم» و «الطوطم والتابو» و «قلق في الحضارة» وغيرها كثير، لتكتمل صورة فرويد في وعيي قبل أن أتقن الإنكليزية فأبدأ بقراءته بلغة ثانية.
بيد أن أكثر ما تعلمته من فكر طرابيشي كان ألاّ آخذ الأعلام بشهرتهم. كنت قرأت «تكوين العقل العربي» و «بنية العقل العربي» للمرحوم محمد عابد الجابري، أُخِذت كما أُخذ كل بني جيلي بهذا المشروع الضخم. ولا أزال أدين للجابري بأنه أول من فتح ذهني لنقد العقل العربي، لكن طرابيشي لجم الافتتان غير المشروط بخطاب الجابري الآسر. ومن نقده للجابري انتبهت إلى أن الغائية المركزية التي توجه مشروع الجابري في نقد العقل العربي هي «التوظيف الأيديولوجي للإبستيمولوجيا لتحطيم وحدة النظام المعرفي لهذا العقل»، أي أن الجابري يوظّف الإبستيمولوجيا في خدمة الأيديولوجيا، وهي كما يقول طرابيشي «أيديولوجيا متعصبة لما يسميه بالعقلانية المغربية ضد اللاعقلانية المشرقية، وللبيان السني ضد العرفان الشيعي، وللإسلام السياسي في خاتمة المطاف ضد الإسلام الروحي». وبيّن طرابيشي كيف أن الجابري يرفع مقولتي الشرق والغرب من مجرد مقولتين جغرافيتين إلى مقولتين إبستيمولوجيتين، أي مقولتين تحددان النظام المعرفي للعقل بما هو كذلك. «فما ينتمي إلى الغرب يمثل مبدأ المعقولية في أعلى أشكاله: البرهان. أما ما ينتمي إلى الشرق فنصيبه من مبدأ المعقولية مخفوض إلى مرتبة البيان، هذا إن لم يتردّ إلى مرتبة أكثر تدنياً، هي مرتبة العرفان».
ومن ثم، أدين لطرابيشي بفتح المجال أمامي لقراءة مختلفة لبعض الروائيين العرب، بخاصة نجيب محفوظ، لكن أيضاً الطيب صالح وسهيل إدريس وتوفيق الحكيم. فكتابه الممتع الصغير «شرق وغرب: رجولة وأنوثة – دراسة في أزمة الجنس والحضارة في الرواية العربية»، فتح أمامي آفاقاً جديدة لفهم روايات «موسم الهجرة إلى الشمال» و «عصفور من الشرق» و «الحي اللاتيني»، وكيف يرى العربي نفسه فاتحاً (جنسياً) للغرب في إسقاط معكوس لفترة الكولونيالية الغربية للشرق العربي. أما كتابه «الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية»، فدفعني إلى إعادة قراءة العملاق المصري بعيون جديدة وذهن أكثر انفتاحاً حول فكرة الله في أدبه وفلسفته.
لكنني مدين لشخص طرابيشي بدين شخصي كبير، فقد كان هو الذي فتح لي الباب أمام الانضمام إلى «رابطة العقلانيين العرب»، وعرّفني الى رجاء بن سلامة وعزيز العظمة وسيد القمني والعفيف الأخضر وغيرهم، ثم طلب مني الانضمام إلى أسرة تحرير موقع «الأوان» التي ما زلت حتى اليوم أتشرّف بالعمل معها.
جورج طرابيشي بعثي ترك البعث، على عكس التيار، بعد أن استلم البعث السلطة، وعندما كانت الكتل البشرية تتدفق صوبه، ومسيحي رفض الكهنوت المسيحي وفكرة الجحيم، وماركسي لم يحج إلى موسكو أو بكين، وفرويدي لم يعتبر فرويد نهاية التاريخ. رفض المقدس، كل مقدس، ونظر إلى الواقع باعتباره حياة جارية. ذات يوم وكان طالباً في السنة الثانية من المرحلة الإعدادية، قال له مدرس الديانة المسيحية: «أريدكم الآن أن تتصوّروا كرة أرض أكبر من أرضكم بمليون مرّة، كرة ليست من تراب وماء بل هي من حديد فولاذي صلب، يمرّ عليها كل مليون سنة طائر، فيمسحها بجناحه. فكم وكم مليون مليون سنة يحتاج هذا الطائر ليذيب هذه الكرة الحديدية؟ تذوب هذه الكرة ولا يذوب عذابكم في جهنّم إذا متّم في حال الخطيئة». يقول جورج: «وصلت إلى البيت وأنا في شبه هذيان وأصابتني حمّى حقيقية وبقيت يومين طريح الفراش، ثم لما أفقت كان ردّ فعلي الوحيد أنني قلت بيني وبين نفسي: لا، إن الله ذاك الذي حدثني عنه الكاهن لا يمكن أن يوجد ولا يمكن أن يكون ظالماً إلى هذا الحدّ. ومن ذلك اليوم كففت عن أن أكون مسيحياً».
وداعا جورج…
* كاتب سوري
الحياة

 
أستاذنا «الزميل» جورج طرابيشي/ حازم صاغية
بوفاة المثقف السوري البارز جورج طرابيشي، تخسر الثقافة العربية، على ما أشار بحقٍّ كثيرون، رمزاً تميز بسعة الإحاطة والدقة والدأب في ما يتناول، فضلاً عن الجرأة الفكرية على أفكار كان يعتنقها ثم لا يلبث أن يطور حيالها موقفاً نقدياً.
فجورج كتب وترجم عشرات الكتب التي امتدت من السياسة والفلسفة إلى علم النفس والنقد الأدبي والنسوية، قبل أن يتفرغ كلياً للتراث الإسلامي عبر نقده أعمال محمد عابد الجابري. بهذا واكب الحقب السياسية والفكرية التي تتالت على العالم العربي، لكنه على عكس معظم «المثقفين الكبار» العرب، لم ينقطع عن متابعة ما يجري في عالمنا وتحولاته: فعلى مدى نيف وعشر سنوات، واظب على كتابة عرض أسبوعي لواحد من الكتب السياسية أو التي تتصل بالفكر السياسي، الصادرة حديثاً في فرنسا. وفي ملحق «تيارات»، في هذه الجريدة، كان «الزميل» جورج ينشر عروضه بتواضع وتخفف من الأنا، وبدأب ودقة ليست مما يوصف به عادةً مَن يُسمَّون «المفكرين العرب».
لقد انتقل جورج طرابيشي من حزب البعث الذي اعتنقه يافعاً، إلى خليط من الماركسية والوجودية أثمر كتباً كـ «سارتر والماركسية» و «الثورة في الثورة الطبقية». لكنه، وكما لاحظ وائل السواح، ترك البعث بُعيد استيلاء هذا الحزب على السلطة، ضداً على جموع المستفيدين ممن انضموا إليه بعدما صار حزباً حاكماً. أما الماركسية، فبحث عن أسئلتها وتناقضاتها، على ما تدل كتب له، كـ «الماركسية والإيديولوجيا» و «النزاع الصيني السوفياتي» وسواهما. وهو بعدما أنشد فترةً، كصديقيه الأكبر سناً بقليل ياسين الحافظ والياس مرقص، إلى خليط ماركسي– قومي عربي بنكهة ناصرية، جاء كتابه «الدولة القطرية والنظرية القومية»، لينبه ضمناً إلى تحفظاته عن هذا الخيار وعن تراجع احتمالاته.
أما اهتمام جورج اللاحق بالتراثيات والإسلاميات فكان مسوقاً بموقف نقدي حاد من متناوليها وإشكالياتهم. بهذا، وعلى نحو قريب مما أشار إليه حسام عيتاني، وضع ثقافيته في مواجهة الثقافية السائدة التي جعلت ثنائية التراث والمعاصرة (أو الأصالة والحداثة) نسغاً قليل الخصوبة لشرايينها الجافة وهربها المداور من «معاصرة العصر».
ولئن أقام جورج في بيروت التي وفرت له مناخاً من الحرية لا توفره سورية البعثية، ففيها تولى رئاسة تحرير مجلة «دراسات عربية» التي نشرت وترجمت بعض ألمع الدراسات التي كُتبت أواخر الستينات وأوائل السبعينات. فحين نشبت الحرب الأهلية– الإقليمية في لبنان، هاجر طرابيشي إلى باريس، التي استقر فيها، برفقة زوجته الروائية هنرييت عبودي، إلى أن وافته المنية.
لقد عُرف جورج، المثقف البارز والرجل المحترم، بنزعة ذهنية مصفّاة كانت أحد مصادر نزاهته وتواضعه بقدر ما كانت هي نفسها من أسباب غلوه في التجريد طلباً للعلمانية وإصراراً على التقدم والعقلانية. وخلفيةٌ كهذه قد تُلحق بصاحبها نوعاً من الشلل السياسي حيال واقع لم تتوقعه النزعة الذهنية القصوى، وهي قد تحرفه مراتٍ إلى شيء من الوعظ، خصوصاً حين يبخل ذاك الواقع بتقديم الحوامل اللازمة لتلك القيم الكونية. وأذكر، في المرة الأخيرة التي التقيته في باريس أواسط 2012، كيف انقسم حديثه السياسي شطرين متعادلين، واحداً يدين نظام الأسد، لاستبداده وعدائه للديموقراطية، وآخر يخاف الثورة، لما اعتبره ميلاً عنفياً ونزوعاً دينياً وطائفياً تتزايد وطأته عليها. لكن المؤكد أن جورج بدا أشد حزناً على سورية من اهتمامه بعرض آرائه السياسية حيال نظامها وثورتها، فحديثه يومذاك طغى عليه العاطفي والوجداني ومصطلحات الحنين والخوف والقلق وصولاً إلى الموت. وهو نفسه، في آخر نص كتبه، إنما أدرج موته «الصغير» في الموت الكبير لوطنه.
كائناً ما كان الأمر، ولأن المحاكم العرفية والعسكرية هي وحدها ما يختصر حياة المرء وإنتاجه في موقف سياسي مختلَف عليه، يبقى طرابيشي، لي ولكثيرين من أبناء جيلي والجيل الأصغر قليلاً، أحد الأساتذة الذي علمنا الكثير. وكان بعض ما علمنا إياه، في عمله وفي حياته، الشجاعة الفكرية والنزاهة والتواضع. عسانا نتعلم.
الحياة

 

 

 

إما المستبد.. وإما المثقف!/ حازم صاغية
بوفاة المثقّف السوري جورج طرابيشي قبل أسبوعين في باريس، تستعيد الذاكرة أسماء قافلة من المثقفين السوريين الذين كاد يطويهم النسيان، ممن توزعت أعمالهم، المكتوبة أو المترجمة، بين الفلسفة والفكر السياسي والأدب وعلم النفس. يكفي كتعداد لبعض الأسماء، أن سوريا الخمسينيات والستينيات عرفت سامي الدروبي وجمال أتاسي وسامي الجندي وبديع الكسم، قبل أن تعرف في الستينيات والسبعينيات ياسين الحافظ وإلياس مرقص وصادق جلال العظم وجورج طرابيشي، وهذا من دون الإتيان على ذكر الأدباء والشعراء والفنانين. ولم يكف السوريون مذّاك، في بلدهم نفسه كما في المهاجر والمنافي، عن إنتاج المثقفين والكتاب والمبدعين الذين تجاوز تأثيرهم السوريين إلى عموم العرب.
لكن واحدنا بات بحاجة إلى إجهاد ذاكرته كي يتذكر هؤلاء ويستعيد أسماءهم. ذاك أن «سوريا الأسد» لم تتسع على مدى سنوات مديدة لاسم آخر غير «السيد الرئيس»، ومن بعده نجله الذي ورثه. وما يتبدى مدهشاً للوهلة الأولى أن كثيرين من هؤلاء المثقفين كانوا هم أنفسهم بعثيين، أو قريبين من حزب «البعث»، إلا أنهم خالفوا المجموعة الحاكمة في هذا التأويل أو ذاك التفصيل فاستحقوا النبذ والتجهيل، وأحياناً استحقوا القتل على ما حصل لصلاح الدين البيطار، أحد مؤسسي الحزب، الذي اغتيل في باريس. لكن تذكر تجربة ستالين وقسوتها مع المثقفين الشيوعيين قبل سواهم كافٍ لتبديد دهشة الوهلة الأولى.
ذاك أن الزعيم المطلق، بحسب أنظمة الاستبداد، هو أيضاً المثقف المطلق الذي لا مكان إلى جانبه لمثقف، كي لا نقول لنقد. أما الشرعية الثقافية الوحيدة فتلك المستمدة مما يتبرع به الزعيم والتي تتيح لصاحبها، في أحسن أحواله، العمل موظّفاً مطيعاً في وزارة الإعلام أو وزارة الثقافة.
وما يقال في سوريا البعثية يقال في عراق صدّام حسين، حيث لف الصمت والتجهيل أسماء فنانين تشكيليين كجواد سليم وشاكر آل حسن، ومهندسي عمارة كمحمد مكية ورفعت الجادرجي، وشعراء كبدر شاكر السياب ونازك الملائكة. ذاك أن صدام، مثله مثل «ماو تسي تونج» أو «كيم إيل سونج»، هو وحده من يعرف كل شيء ويحتكر الإبداع على أنواعه.
ومع أن القمع في مصر الناصرية ظل أقل حدة وقسوة بالمقارنة مع دولتي «البعث»، وهذا سر بقاء عدد من كبار المثقفين والمبدعين ممن مارسوا نقديتهم على نحو مبطّن ومداور، فإن دولة عبدالناصر ضاقت هي الأخرى بمدرسة علم النفس لمصطفى صفوان وزملائه كما بالمدرسة السريالية لجورج حنين ورفاقه.
وتجد اليوم في الولايات المتحدة الأميركية خصوصاً، ولكنْ أيضاً في أوروبا الغربية، جيشاً من الأكاديميين والمبدعين الإيرانيين الذين باشروا مغادرة بلدهم على نطاق واسع منذ قيام الثورة الخمينية في 1979.
وواقع الحال أن ثمة علاقة لا تخطئها العين بين مدى اعتناق دولةٍ ما لإيديولوجية حاكمة ودرجة الطرد والنبذ للمثقفين الذين يطلبون الحرية شرطاً لعملهم، وهي بالتعريف حرية حيال كل إيديولوجية رسمية حاكمة. وإنما لهذا السبب تحديداً يغدو من المفهوم أن تشهد ألمانيا النازية إحدى أكبر الهجرات الثقافية التي عرفها التاريخ الحديث، إن لم تكن الأكبر بإطلاق. وليس بلا دلالة أنّ أولئك المثقفين الذين اتجهوا إلى الولايات المتحدة بما أفقر الحياة الثقافية الألمانية وحصرها في ترّهات هتلر وجوبلز، هم الذين تولوا إخصاب الثقافة الأميركية بعد كسر محليتها وعزلتها القارية وفتحها على عوالم الثقافة الأوروبية. فغني عن القول، بناء على هذه التجربة وعلى تجارب أخرى كثيرة تماثلها على نطاق أضيق، أن المستبد إذ يدمر الحياة الثقافية فإنما يساهم في تدمير بلده ذاته.
الاتحاد

 
جورج طرابيشي يموت على إنفراد/ روجيه عوطة
برحيل جورج طرابيشي (1939 – 16 آذار/ مارس 2016)، يخيل للمرء أن المحطات الست، التي حدد المفكر عيشه ومساره بالإنطلاق منها، استحالت إلى غير ما كانت عليه. كأن الصدفة في أثنائها قد أصبحت أكثر شدةً، فساقت متلقيها، وهو هنا صحاب “من إسلام القرآن إلى الإسلام الحديث”، إلى وجهات مغايرة لتلك النواحي التي اهتدى إليها، وواظب على قصدها. هكذا، من الممكن سرد مراحله في إثر منيته، ذلك، حتى تبدو هذه المنية كأنها أجلت مجيئها إلى أن تحققت في التوقف عن الكتابة.
فلم يترجح طرابيشي في القول أن “شللي عن الكتابة هو بمثابة موت”، لكنه، أدرك، في الوقت نفسه، أنه “موت صغير” على الهامش، في حاشية كتبه، موت غير مندمج في “هرطقاته”، موت لا ينقده سوى مترجمه، ولا يترجمه سوى ناقده. إنه الموت على إنفراد، والموت بعد طول موت أيضاً: “لم أفعل شيئاً في حياتي سوى أن أكتب”.
أمس البارحة، ولما كان المفكر مراهقاً مسيحياً، مشى من درس الخطيئة نحو البيت، وفي طريقه، تخيل أن رأسه أصيص من أصص الزهر، التي يزين بها الحلبيون شرفات منازلهم، سيقع على رأس ويقتله. لكن، ذلك لم يحصل، فوصل إلى أهله مصاباً بالهذيان، الذي أبقاه يومين طريح فراش الحمى. لقد ظن أنه لقي حتفه، وساعة عذابه قد حلت. إلا أنه لم يقابل الله، الذي تتحدث الكنيسة عنه بوصفه معنفاً ومعذباً، فعلم عندها أن موته لم ينل سوى من تدينه.
لكن، هذا الأمر لا يكفي. فحين انتقل من مدرسته إلى إحدى المدارس الرسمية، سمع شيخاً يردد في حصة التعليم الديني: “كل من هو ليس بمسلم فهو عدو للإسلام”، لذلك، سأله على مسمع زملائه وفي نفسه: “هل أنا عدوك؟ وحتى إن لم أكن من أهل الكتاب، فهل أنا عدوك؟”. ارتبك الشيخ، ثم عاد واعتذر منه لاحقاً. وعلى هذا النحو، علم الطالب بأن موته كمتدين ليس مثبتاً بعد، فها هو لا يزال مسيحياً حياً في بال آخريه.
بذلك، قرر التفلت من بقائه على قيد مسيحيته في نظر غيره، فانتسب إلى حزب “البعث”، ثم عارضه، فدخل السجن، حيث شارك حبسه مع عدد “من التقدميين والاشتراكيين”، الذين أسرعوا إلى إلغائه: “أنت لست عربياً”. طردوه من أسرهم، لم يعد واحداً منهم، فاختار أن يكمل اعتقاله بعيداً عنهم، عن هؤلاء الذين لم يثبتوا موته الأول. لا مكان له بعدما خرج من الكنيسة، لا في المدرسة، ولا في الحزب، ولا في المعتقل. ولهذا السبب، استبدل كل هذه المواضع بموضع واحد، أي عقله، لعلّه يعينه على تأكيد موته في داخله، فـ”القضية هي قضية بنى عقلية في المقام الأول”.
غير أن تلك الـ”بنى” لا تتألف من تلقائها، ولا تعمل في حدودها، بل إنها قد تظهر في سلوك أو تصرف أو عادة. لقد كان طرابيشي يجلس وراء طاولة الطعام، وإلى جانب زوجته هنريت عبودي وابنتيه، فيشرع في تمزيق رغيف الخبز من أطرافه، إلى تفتيته، وتحويله إلى إربٍ صغيرة. ثمة في تقطيع للجسد، على وقع المكوث في الـ”بنى”، محاكاةً للمتوجه إلى تلاميذه بـ”خذوا كلوا. هذا هو جسدي”، محاكاة تشير إلى موتٍ لم يكتمل. في هذا السياق، كان لا بد من الإلتقاء بفرويد، أو بالفرويدية عموماً، والتي رأت في فعل المفكر، في تقطيعه “الخبز العربي”، و”كسره” له من أطرافه، “تمزيقاً لا إرادياً ولا شعورياً للأب”.
ارتجف المفكر، الذي كان “يسارياً وماركسياً”، متنبهاً إلى أن تحت الـ”بنى”، ثمة “بنى” أخرى، وكي يلم أكثر بها وبمسرحها، عقد جهده على نقل أعمال فرويد إلى العربية. “وأنا إذ كنت قد ترجمت فرويد عن لغة وسيطة، فخيانتي كانت مزدوجة”، ولكن، سرعان ما وجدت تلك “الخيانة” مكانها في العالم الناطق باللغة العربية، وإلى جانبها حصلت “خيانات” أخرى لـ”تاريخ الفلسفة” (إميل برهييه)، ولـ”الإنسان ذو البعد الواحد” (هربرت ماركيوز)، ولـ”الفوضى والعبقرية” (جان بول سارتر)، فضلاً عن مدخل هيغل إلى علم الجمال، ومحاضرات ريازانوف في تاريخ الماركسية. حصلت هذه الخيانات، وفي بعض جوانبها، بدت كأنها لم تتم على وجوهها السليمة.
في سبعينات القرن الماضي، كان طرابيشي لا يزال يمكث في الـ”العقل”، الذي أعانه على التمسك بموته الأول، ولو على سبيل يوارب الإثبات ولا يؤكده. خلال تلك الفترة، وقع على كتاب محمد عابد الجابري، “تكوين العقل العربي”. وبالطبع، أعجب المفكر به، فالكتاب يتحدث عن موضع إقامته، لذلك، قال فيه: “من يقرأه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه”. مع ذلك، كتم طرابيشي شكوكه حيال مشروع الجابري، مقرراً في نتيجتها أن يشيد مشروعه على نقده. بالتالي، انكب على قراءة التراث، وعلى التقاط أخطاء الجابري من أحكام وتلفيقات. فعلى طرابيشي أن يحمي موضع “العقل”، والدفاع عنه، ولهذه الغاية، كرس نفسه، مغلقاً مكانه ومسوراً إياه لا سيما في مقابل هجمات الجابري. فقد بقيّ طرابيشي في “عقله”، واطمأن إليه، وكبر فيه، وبعد عقود على اعتصامه به، عبّر عن دينه لمن أبقاه فيه: “أدين للجابري بكثير رغم كل النقد الذي وجهته إليه”.ِ
سكن طرابيشي إلى “عقله”، ومنه، راح يكتب بغاية “تغيير العقليات وتغيير بناها الداخلية”. سكن، وهدأ، واحترس، وحمى، وحافظ على حصنه “العقلي”، الذي اعتقد بأن يتميز به، ويمده بقوة الحضور والمحاججة. ذلك، حتى حدثت ثوراث العالم الناطق باللغة العربية، حتى وقعت خارج معقل طرابيشي وغيره، وقعت وهزت ملاذه، وقعت وخضخضت حرزه وتصوراته عنها. فما كان من المفكر سوى أن يضع “تاريخه” في مقابل “التاريخ الكبير”، وأن يطالب نظام بشار حافظ الأسد بالإصلاح، ثم بإلغاء نفسه بنفسه. ولما شعر بأن معقله ما عاد قبلة، وبأن حصنه لم يعد قادراً على الإشارة إلى ما يحسبه ناقصاً ومفقوداً في “عقلية المجتمع والجمهور والفرد”، توقف عن الكتابة.
مات جورج طرابيشي، وفي هذه المحطة السابعة، عاد إلى موته الأول، الذي أعانه العقل على مواربته، وغض القول في تأكيده. سلم موته للموت: مشى من مدرسة الخطيئة إلى منزله، وفي طريقه، وقع أص الزهر على رأسه… وداعاً أيها المفكر!

 

 

جورج طرابيشي.. المحطة الأخيرة
رحل اليوم في باريس المفكّر السوري جورج طرابيشي عن 77 عاماً، تاركاً خلفه رصدياً فكرياً كبيراً، تضمن قرابة ثلاثين عملاً نقدياً وفكرياً، امتاز الكثير منها بطبيعة سجالية، مكنّت صاحبها من مطارحة الأسئلة الفكرية الأساسية التي شغلت الفكر العربي في القرن العشرين.
هذا إلى جانب قرابة مئتي كتاباً مترجماً ضمّت أعمالاً أساسية في الفكر الغربي لأسماء من بينها هيجل وسارتر وفرويد الذي ترجم معظم أعماله.
وُلد طرابيشي في حلب عام 1939، حصل على إجازة في اللغة العربية وماجستير في التربية من جامعة دمشق، عمل في عدّة مؤسّسات إعلامية في بلاده وخارجها؛ منها مديراَ لإذاعة دمشق بين سنتي 1963 و1964، ورئيس تحرير لمجلّة “دراسات عربية” بين 1972 و1984.
عمل طرابيشي أيضاً محرّراً رئيسياً في “مجلّة الوحدة” خلال إقامته في لبنان بين سنتي 1984 و1989، والذي رحل منه، غداة الحرب الأهلية، إلى باريس؛ حيث تفرّغ للتأليف والترجمة.
وكما في الترجمة، كان طرابيشي غزير التأليف أيضاً؛ إذ خاض في مواضيع وقضايا عديدة، من الماركسية والنظرية القومية والنقد الأدبي للرواية العربية التي طبّق عليها مناهج التحليل النفسي؛ كما في كتابيه “عقدة أوديب في الرواية العربية” (1982) و”الرجولة وأيدولوجيا الرجولة في الرواية العربية” (1983) وصولاً إلى مراجعاته الهامة في قراءة التراث ونقد مراجعيه.
من مؤلّفاته: “سارتر والماركسية” (1963)، و”الماركسية والإيدولوجيا” (1971)، و”المثقّفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي” (1991)، و”هرطقات” في جزئين؛ كان الأوّل (2006) “عن الديموقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية” والثاني (2008) عن “العلمانية كإشكالية إسلامية- إسلامية”، و”المعجزة أو سبات العقل في الإسلام” (2008)، و”من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث 2010″.
ولعل أبرز أعماله الفكرية سلسلة “نقد نقد العقل العربي” وهو عمل موسوعي استغرقه عقدين من العمل، ساجل فيه أفكار محمد عابد الجابري ورد عليها في مسألة قراءة التراث العربي.
كانت اطروحة طرابيشي الأساسية هي البحث في عوامل استقالة العقل العربي في القرون الأخيرة، والتي لم يحاول إرجاعها الى سبب محدّد، بل حاول رصد الجدليات التي تحكمها وتعيد إنتاجها. احتاج هذا المشروع إلى قراءة نقدية لمجمل التراث العربي، اتكأ فيها طرابشي إلى مشروع سبقه أنجزه الجابري.
برحيله اليوم، تكون مرحلة باريس -وما يشبه الصمت في سنواته الخمس الأخيرة فيها- آخر محطّة من محطّات مفكّر لم تكن تنقّلاته بين الأفكار والمواقع الأيديولوجية ببعيدة عن تنقّلاته في المكان؛ حيث رسم قوساً متدرّج الألوان من الفكر القومي والثوري والوجودية والماركسية، ووصولاً إلى اعتناق نزعة نقدية متّسمة بالجذرية.
بعد تلك المسيرة الطويلة، انتهى طرابيشي مؤمناً بأن “النقد الجذري هو الموقف الوحيد الذي يمكن أن يصدر عن المفكّر، ولا سيما في الوضعية العربية الراهنة التي يتجاذبها قطبان: الرؤية المؤمثلة للماضي والرؤية المؤدلجة للحاضر”.
العربي الجديد

 
جورج طرابيشي .. يرحل عن مئتي كتاب/ اسكندر حبش
يرحل جورج طرابيشي.. يترك كلّ شيء وراءه ويغادر. لا عن عمر مديد (77 عاماً، من مواليد 1939)، بل يرحل عن أكثر من مئتي كتاب، في التأليف والترجمة والبحث و.. التمحيص. يرحل أيضاً عن حلب التي ولد فيها، والتي أحبّ. حلب التي تشهد اليوم محاولة في نزع هذه «العقلانية» التي ضمخت بعطرها الكثير من المفكرين والكتّاب والشعراء. يرحل أيضاً عن بيروت التي سكنها فترة وغادرها بسبب الحرب الأهلية. وهناك، في «المنفى» الفرنسي الذي استقبله، يترجل واحد من أكثر المثقفين العرب إشكالية ونقاشاً وربما أيضاً، أحد أكثر «العقلانيين» الذين حاولوا في العقود الأخيرة أن يعيدوا «المجد» إلى.. «العقل» البحت.
لم يكن غريباً عن جورج طرابيشي أن يوضع في إطار هذه العقلانية، وبخاصة أن اسمه غالباً ما اقترن ـ وبالرغم من فارق السن ـ بشخصيتين عرفتا كيف تدفعان إلى إعادة النظر والتفكير بالكثير من المسلّمات، قصدت ياسين الحافظ والياس مرقص. صحيح أن هذا «الثلاثي» ـ بالنسبة إلى البعض، قد غادر التاريخ والسياسة (وربما الجغرافيا) ـ إلا أنهم لا يستطيعون أن ينكروا الأثر الذي تركوه في أجيال تربت على كتاباتهم.
من هنا، لا يمكن لأي واحد من الذين تعاطوا الكتابة والقراءة من «القرن الماضي» إلى الآن، أن لا يجد جزءاً من جورج طرابيشي، كامناً في قرارة نفسه. يكفي أن نذكر مثلاً أنه من نقل إلينا أعمال فرويد إلى العربية. نقل أيضاً أعمالاً لهيغل وإميل بريهييه وروجيه غارودي وسارتر وسيمون دو بوفوار والكثير غيرهم. بهذا المعنى قدم لنا مكتبة كاملة باللغة العربية، بالرغم من كل الملاحظات التي جاءت لاحقاً حول هذه الترجمات. كانت فترة مسكونة بالفكر القومي والثوري، بالفكر اليساري والماركسي، بالوجودية بكل فروعها.. وكأن طرابيشي كان يتوزع على كلّ هذه الأفكار، بالأحرى أراد أن يجمع كل هذه التنوعات في شخص واحد. ومع ذلك، يبدو مشروعه الأخير، هو المشروع الأكثر جدية واكتمالاً في مسيرته، حين حاول أن يقدم نقده «لنقد الفكر العربي»، بمعنى أنه أعاد قراءة كل ما كتبه محمد عابد الجابري ـ الذي كان (على الموضة) ـ بدءاً من ثمانينيات القرن الماضي، ليُظهر كم أخطأ المفكر المغربي في تأويل الفكر العربي ـ الإسلامي. بالأحرى لم يتورع طرابيشي في وصفه أحياناً بالمزور، إذ برأيه، كان يقتطع جملاً وعبارات من سياقها التاريخي، ليضعها في سياقات أخرى تخدم ما يريد الوصول إليه من أفكار.
إذاً، هذا الوسواس في الدقة والتمحيص، قاد إلى أمثلة مدهشة.. هل يصح هنا القول إن جورج طرابيشي لعب دور التحري الثقافي كي يقودنا إلى الحقيقة الفكرية؟ كان لاعب أفكار ماهراً. بل أكثر من ذلك: حرق مراحل بأسرها ليبين لنا كم أننا نقف عند حدود التلقين من دون أن نبحث فعلاً في العمق الذي قد يكون مخالفاً.
ربما لم يعد الزمن صالحاً للحديث عن الاختلافات.. ليس لأن العقل ـ الذي أراده جورج طرابيشي قد استقال ـ بل لأن الكثير من المسببات ترغب في تغييبه وإقصائه. ومع ذلك، لا بدّ أن نحترم ولو هذا الجزء من ماضينا.. لأنه قد يسمح لنا في مستقبلنا الذي لا زلنا نبحث عنه.
السفير

 
جورج طرابيشي موت عقلاني عربي
العقلانيون العرب يلبسون الحداد اليوم، ومعهم الثقافة العربيّة المعاصرة، على أحد كتّابهم المرجعيين، المترجم والمفكّر والناقد والباحث السوري جورج طرابيشي الذي ولد في حلب عام ١٩٣٩، وانطفأ في باريس مساء الأربعاء ١٦ آذار/ مارس ٢٠١٦. جاء الخبر عبر صفحته الرسميّة على فايسبوك: لقد رحل صاحب «نقد نقد العقل العربي» في منفاه الباريسي عن ٧٧ عاماً. بل لنقل إن باريس شكّلت ملجأه الروحي والعقلي، تلك الشرفة التي أطلّ منها على العالم العربي، واستغرق في كتاباته وترجماته وأبحاثه التراثية والفلسفية، واضعاً لبنات مشروعه الفكري الذي ينضوي تحت خانة العقلانية. رحل جورج بعيداً عن بلاده الممزّقة التي نظر بمسافة نقديّة صارمة إلى «ربيعها» المزغول، كما يوضح في نص بيوغرافي على موقع «أثير» ، هو من آخر ما نشره.
بعيداً عن دمشق التي حملها في قلبه على دروب المنفى، وفيها تكوّنت أحلامه السياسيّة ومشاريعه الفكريّة الأولى، في الستينيات، من جامعتها إلى إذاعتها التي عمل مديراً لها، ومن حزب البعث إلى المعارضة فالسجن، فالإبحار في متاهات القوميّة والماركسيّة والوجوديّة، وإشكاليّات النهضة والحداثة. مات بعيداً عن بيروت مدينته الثانية، وفيها عمل رئيساً لتحرير «مجلّة الدراسات العربيّة»، وترجم هيغل وماركس وجان بول سارتر وسيمون دو بوفوار وروجيه غارودي… وسيغموند فرويد. خصوصاً فرويد. في بيروت، دخل المرحلة الفرويدية، مترجماً ٣٠ مؤلفاً (عن الفرنسيّة) لمؤسس علم النفس التحليلي، قبل أن يطبّق المنهج الفرويدي على النقد الأدبي: نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ونوال السعداوي (أنثى ضد الأنوثة)، «الرجولة وأيديولوجيا الرجولة في الرواية العربية»، «عقدة أوديب في الرواية العربيّة»، «شرق وغرب، رجولة وأنوثة: دراسة في أزمة الجنس والحضارة في الرواية العربية». محطته النهائيّة الطويلة كانت باريس، ذهب إليها هرباً من الحرب الأهليّة، واستقر بها زهاء أربعة عقود. وهنا أخذه الفيلسوف محمد عابد الجابري إلى إعادة اكتشاف الفلسفة الإسلاميّة، وصالحه مع التراث. كرّس طرابيشي قرابة ربع قرن، ومشروعاً موسوعياً من سبعة أجزاء، لنقد مؤلف الجابري المرجعي «نقد الفكر العربي». الفلسفة والتراث صارا موطن طرابيشي البديل، فاشتغل على نظريّة «الإسلام الحضاري»، وتعامل مع الإسلام بصفته تراث الذات العربيّة، وبنى مفهومه عن «علمانية الإسلام»، تحديداً في كتابه «هرطقات 2: العلمانية كإشكالية إسلامية ــ إسلامية» (دار الساقي، 2008). واعتبر أن بلوغ «النهضة العربية مرهون بتحرير العقل، عموماً، وبتحقيق ثورة لاهوتية، خصوصاً، من خلال عملية نقد جذرية للتراث». في انتظار عودة مفصّلة إلى مشروع طرابيشي وسيرته ونتاجه، نستعيد هنا ما كتبه عن الظلاميّة منذ عام 1991، في كتابه «المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي»: «الظلامية هي مثل الثورات، بل أكثر من الثورات، في قسوتها على أبنائها. فإن كانت الثورة تنتهي بأكلهم، فإن الظلامية تبدأ به. فهي لا تطيق وجود متنورين حتى في صفوف دعاتها».

 

 

جورج طرابيشي.. ربع قرن في نقد الجابري
جورج طرابيشي مفكر سوري تنقل من سوريا إلى لبنان ثم استقر في فرنسا، تخصص في نقد الأدب وشرب من ينابيع الفلسفة الوجودية والتحليل النفسي، وترجم عشرات المؤلفات، ثم خصص ربع قرن من حياته لنقد المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري موجها له انتقادات لاذعة.
المولد والنشأة
ولد جورج طرابيشي في مدينة حلب عام 1939.
الدراسة والتكوين
حصل طرابيشي على الليسانس في اللغة العربية، ثم درجة الماجستير في التربية بجامعة دمشق.
الوظائف والمسؤوليات
عمل جورج طرابيشي مديرا لإذاعة دمشق بين عامي 1963 و1964، ورئيسا لتحرير مجلة دراسات عربية بين 1972 و1984، كما عمل محررا رئيسيا لمجلة “الوحدة” أثناء إقامته في لبنان بين 1984 و1989.
وغادر بعد ذلك لبنان إلى فرنسا التي أقام بها متفرغا للكتابة والتأليف.
التجربة الفكرية
ترجم جورج طرابيشي العديد من أعمال كبار المفكرين والفلاسفة الغربيين، مثل هيغل وفرويد، وجان بول سارتر، وسيمون دي بوفوار، حتى فاقت مئتي كتاب.
وقدم عددا من الدراسات والأبحاث في الفكر والفلسفة والنقد الأدبي، منها “الماركسية والمسألة القومية”، و”رمزية المرأة في الرواية العربية”، و”مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة”، و”مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام”.
وإلى جانب مؤلفاته وأبحاثه الكثيرة، اشتهر طرابيشي بحواره الفكري مع المفكر المغربي الشهير محمد عابد الجابري، حيث قضى نحو ربع قرن في الرد على الجابري ومشروعه الفكري حول تكوين ونقد العقل العربي.
وحكى طرابيشي في أحد حواراته الصحفية عام 2013 أن علاقته مع فكر الجابري بدأت أثناء مغادرته لبنان باتجاه فرنسا، حيث حمل معه كتاب الجابري “تكوين العقل العربي” واعترف أنه أثر فيه كثيرا، وأشاد به في مقالاته الصحفية، وقال عنه إن من قرأه لن يعود كما كان قبل أن يقرأه.
لكن العلاقة لم تستمر على هذا النحو، إذ يقول طرابيشي إنه اكتشف في سياق دراسته وأبحاثه، أن الجابري اعتمد في بعض كتبه على شواهد “مغلوطة ومقطوعة من سياقها ومفسرة من غير سياقها”، على حد تعبيره.
ويوضح أن ذلك دفعه -وهو ابن الأيديولوجيا القومية العلمانية والوجودية والماركسية والنقد الأدبي والتحليل النفسي- إلى الاطلاع على المصادر الأصلية لتراث الفقه وعلم الكلام، معيدا بناء ثقافته من جديد على أكثر من محور، وهو ما مكنه من نقد نظرية الجابري فيما يرتبط بالعقل العربي.
ويلخص طرابيشي نظريته في أن “الآليات التي أدت إلى استقالة العقل وغروبه في الحضارة هي آليات داخلية نابعة من انكفاء ذاتي ومن انكماش لهذا العقل على نفسه وليس من غزوة خارجية”، موضحا أنه يحمل هذا العقل مسؤولية النهوض من جديد.
وجهت لطرابيشي انتقادات، من بينها تعامله مع مصادر التراث كما هي، في حين أن القواعد التي وضعها المحدثون مكنت من غربلة المصادر وميزت بين ما صح منها وما هو موضوع ومتروك، خاصة ما تعلق بالأسس العقدية والتشريعات، ووضعت لذلك معايير وقواعد علمية مضبوطة، ومن ثم لا يمكن الاعتماد على “كل” التراث في إثبات الأحداث والوقائع والأفكار التاريخية.
كما انتقد لحديثه عن “خطورة” الانتقال من القرآن مصدرا إلهيا وحيدا للتشريع إلى السنة ووضعها في مرتبة تشريعية، واعتباره ذلك محطة جعلت العقل العربي ينكفئ على نفسه ولا يبادر لاكتشاف “مفهوم التطور وجدلية التقدم وما يستتبعانه من تغير في الأحكام الوضعية ذات المصدر البشري لا الإلهي”، خاصة مع انتشار الأحاديث الموضوعة.
ويقول منتقدو طرابيشي إن القرآن نفسه نص على السنة مصدرا للتشريع وتفصيل الأحكام التي وردت في الآيات الكريمة، وقد أبدع علماء المسلمين في إنشاء علم الحديث بفروعه لتنقية الحديث النبوي الكريم من الأحاديث الموضوعة التي كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن العمل الذي قام به المسلمون في هذا المجال أكبر تشجيع على إعمال العقل في الحفاظ على سلامة النقل من التشويه والتحريف والتوجيه.
المؤلفات
ترجم طرابيشي أزيد من مئتي كتاب، وأصدر مؤلفات عديدة بينها “سارتر والماركسية” (1963)، و”الماركسية والإيديولوجيا” (1971)، و”المثقّفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي” (1991)، و”هرطقات” في جزأين؛ كان الأوّل (2006) “عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية” والثاني (2008) عن “العلمانية كإشكالية إسلامية-إسلامية”، و”المعجزة أو سبات العقل في الإسلام” (2008).
كما أصدر طرابيشي خمسة مجلدات تخصصت في “نقد نقد العقل العربي”، كان آخرها الجزء الخامس “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث” (دار الساقي، بيروت، 2010)، وفيها نقد المشروع الفكري للجابري.
الوفاة
توفي جورج طرابيشي يوم 16 مارس/آذار 2016 في باريس عن عمر ناهز 77 عاما.

 

 

 

تعرف على أشهر 7 مقولات للمفكر جورج طرابيشي
العربية.نت
رحلة طويلة مع الأدب وعلم النفس والفلسفة ودراسة الأديان والتاريخ تلك التي قطعها المفكر السوري جورج طرابيشي، الذي توفي يوم أمس الأربعاء عن عمر يناهز الـ77 عاماً.
مرّ طرابيشي بتحولات كبيرة في رؤيته السياسية، تحول فيها من القومية إلى الماركسية ومن ثم إلى الليبرالية، كما أنه بدأ مشواره الفكري ناقداً أدبياً ومترجماً لأهم ما كتب المفكرون الغربيون، مثل هيغل وسارتر، ولكنه تخصص بترجمة كتب عالم النفس الشهير سيمغوند فرويد إلى العربية، عبر أكثر من 30 كتاباً.
بعدها غاص المفكر السوري – الذي قرر الرحيل لباريس قبل 40 عاماً – في التراث وتخصص في نقد العقل الديني، ونشر ردوده على المفكر المغربي محمد عابد الجابري بكتب شهيرة، كان عنوانها العريض “نقد نقد العقل العربي”، مثلت إضافة كبيرة للمكتبة العربية.
فضل طرابيشي العمل بهدوء بعيداً عن الأضواء والمؤتمرات الثقافية، التي لم يحضر إلا القليل منها، لأنها تحولت – كما انتقدها في أحد حواراته – إلى لقاءات واجتماعات لا ينتج عنها ما يفيد. حضوره الصحافي المكتوب ظل محدوداً باستثناء بعض الحوارات القليلة، أما المقابلات التلفزيونية فهي شبه معدومة.
يعد طرابيشي من أبرز الكتاب التنويرين في العالم العربي ودافع بضراوة عن أبرز مفكري النهضة العربية، وانغمس في التراث الإسلامي والعربي في بحث طويل عن ينابيع الفكر الحر وقيم التسامح والحرية في محاولات حثيثة منه، لإدخالها في نسيج الواقع العربي المحترق بنار الصراعات الطائفية والدينية.
للراحل طرابيشي مقولات شهيرة تعبر عن منهجه النقدي، الذي اشتهر به نستعرض هنا سبعاً منها:
المقولة الأولى
كل حديث عن الإصلاح السياسي، مع الإبقاء على المنظومة المعرفية القديمة والمفاهيم التقليدية، إنما هو نقش على ماء.
المقولة الثانية
إن الانفتاح على الحداثة هو الذي يمكن أن يطرح على التراث أسئلة جديدة.. وأن يستنطقه أجوبة جديدة.. وأن يعيد صياغته في إشكاليات جديدة.
المقولة الثالثة
من قبل ما كنت أقرأ – والقراءة هوايتي الكبرى – إلا مع أو ضد.. ومن بعد صرت أقرأ بعيداً عن همّ المع أو الضد.. من قبل كنت أقرأ لأحكم ومن بعد صرت أقرأ لأعرف.. من قبل كنت أرد كل ما أقرأه إلى ما أعرفه.. ومن بعد صرت أنطلق مع كل ما أقرأه إلى ما لا أعرفه.
المقولة الرابعة
ثقافتنا هي انغلاق على مفاهيم من عصور سابقة كانت فعالة آنذاك، لكنها اليوم بلا أدنى فعالية، نحن نريد أن نجيب عن أسئلة الأبناء بأجوبة الأجداد.
المقولة الخامسة
عدو الديمقراطية هو تصوير الديمقراطية على أنها الخلاص.. وكبرى مشكلات العالم العربي أننا اختصرنا الديمقراطية إلى أحد مظاهرها، وهو صندوق الاقتراع.
المقولة السادسة
العقل لا يكون عقلا إلاّ إذا كان نقديا.
المقولة السابعة
مجتمع يريد الديمقراطية في السياسة ولا يريدها في الفكر ولا على الأخص في الدين، هو مجتمع يستسهل الديمقراطية ويختزلها في آن معا.

 
ما الذي يجعل جورج طرابيشي كبيراً… ؟!/ تركي الدخيل
زخر تاريخنا الفكري المعاصر بأسماء لامعة ومؤثرة، وضعت لها موطئ قدمٍ في التداول الفكري، عالمياً، وليس عربياً فقط!
عبد الله العروي، محمد أركون، محمد الجابري، وجورج طرابيشي، من الصعب أن يخرج قارئ من كتبهم كما دخل. إنهم يحدثون خسوفاً وزلازل في القناعات والأفكار المتداولة الموروثة من دون فحص أو تمحيص. إنهم يوقفون الإجازة المفتوحة التي نمنحها لعقولنا، ويعيدون تفعيل الأسئلة المشروعة في أذهاننا.
رحلاتهم مع العلم والتعلم هي نبراس للطلبة والطالبات، إصرار وجد، وصبر وجلد على الفهم والتعلم.
قبل أيام كتب الدكتور طرابيشي مقالةً مؤثرة بعنوان: «ست محطات في حياتي»، تنقّل بالقارئ فيها بين القوة والضعف، الصلابة والتهشّم، المنشط والمكره. روعة الكتابة تلك، أنها تكشف جانباً من شخصية مفكّر قدير، لا شك أنه أحد أهم المفكّرين المعاصرين والأحياء اليوم.
بها تحدّث عن التحوّلات في تديّنه، ومن ثمّ التوجه البعثي، والدخول إلى السجن، وصولاً إلى اهتمامه بدراسات فرويد، والتي أثّرت فيه كثيراً. يروي قصة الدخول إلى عالم فرويد: «قصتي مع فرويد بدأت بواقعة لا تخلو من طرافة.
فبعد أن تزوجت وصار عندي بنتان، كنت كلّما جلست إلى المائدة لآكل الطعام، أمسك برغيف الخبز… فلا أجد نفسي إلا وأنا أقطّعه من أطرافه لا شعورياً، وزوجتي وابنتاي قاعدتان أمامـــي على المائدة تأكلان، وكنت لا أستطيع منع نفسي من تفتيت الخبز، حتى عندما يكون معنا على المائدة ضيف.
كانت زوجتي تقول لي بلهجتها الحلبية: عيب يا جورج… وهكذا إلـى أن صادف ذات مرة أن قرأت مقالاً- لا أعتقد أنه كان لفرويد، وإنما لأحد تلاميذه – يحكي عن هذه الظاهرة النّفسية، ويعتبرها عرضاً عصابياً بصفتها فعل تمزيق لا إرادي ولا شعوري للأب. وأنا عندما قرأت هذا المقال، أصبت برجفة: فأنا إذن أمزّق أبي! وبالفعل، كنت على صدام في مراهقتي مع أبي».
وبنقده الكبير للجابري بمشروعٍ ضخم، يتحدث عن تلك التجربة بصدق وإنسانية وتجرد الكبار، بعد صدمة اكتشافه لوهمٍ من الجابري، بما يتعلق بموقف إخوان الصفا من المنطق والفلسفة، إذ راح يبحث في بطون كتب التراث، متعقّباً هوامش الجابري، مقتفياً أثر الاستشهاد والاعتضاد، انتقده بآلاف الصفحات.
لكنه في ذات الوقت أكد: «وإني لأقولها صراحة اليوم: إني أعترف للجــابري، الّذي قضيت معه ربع قرن بكامله وأنا أقرأه وأقرأ مراجعه ومئات المراجع في التراث الإسلامي، ومن قبله المسيحي.
ومن قبلهما التراث اليوناني، وكل ما يستوجبه الحوار مع مشروعه، إني أقرّ له، وأعترف أمامكم، أنّه أفادني إفادة كبيرة، وأنه أرغمني علـــى إعادة بناء ثقــافتي التراثية. فأنـــا له أدين بالكثير، رغم كلّ النقد الّذي وجّهته إليه».
طرابيشي الذي اقترن اسمه بالجابري، في نقد النقد، استمر منتقداً لنفسه، مصراً على إعادة رؤاه باستمرار، وعرضها على أدوات الفحص والتحليل، لم يركن إلا الحقائق المغلّفة، ولا الرؤى الجاهزة، بل كان ثائراً، حتى على ما يطرحه هو، وهذا النقد المتواصل، وعدم الركون إلى المغلف من الرؤى.
وعدم الاطمئنان إلى سلامة الأفكار التي يعيش المرء عليها، هو ما ميز طرابيشي، الذي نقد نفسه، فتجدد، وكرر الأسئلة على منهجه، فتفوق، وهذا ما يصنع الكبار، ويبقي الصغار صغاراً في الفكر والثقافة.
آمن طرابيشي بالكتابة متنفّساً، وسبيلاً لتغيير أفكار المجتمع، وطبقاته المتكلّسة، أوجعته أزمة سوريا الكارثية، وطنه، فخاف على كتابته قائلاً: «إن شللي عن الكتابة، أنا الذي لم أفعل شيئاً آخر في حياتي سوى أن أكتب، هو بمثابة موت. ولكنه يبقى على كل حال موتاً صغيراً، على هامش ما قد يكونه الموت الكبير، الذي هو موت الوطن».
*نقلاً عن صحيفة “البيان”

 
جورج طرابيشي في عشرينية مشروعه/ وسام سعادة
قبل عشرين عاماً، دشّن جورج طرابيشي «نقد نقد العقل العربي»، ملاحقاً أطروحات محمد عابد الجابري التوزيعية لأنظمة المعرفة في ثالوث «البرهان والبيان والعرفان»، والمؤسطرة لثنائية الانشطار بين عقلانية التراث الفكري المغربي وهرمسية التراث الفكر المشرقي. هذه الملاحقة اتخذت في الغالب طابع إعادة الاعتبار لمفهوم القراءة: «فليس بين مئات شواهد الجابري في تكوين العقل العربي سوى قلة قليلة ما أصابها تحريف أو تزييف أو توظيف بعكس منطوقها».
وكما يوضح طرابيشي أيضاً: «كان عليّ أن أقرأ لا كل ما كتبه الجابري، ولا كل ما قرأه أو صرح بأنه قرأه فحسب، بل كذلك ما لم يصرح بأنه قرأه وما كان يفترض به أنه يقرأه».
لأجل ذلك لم ينفصل شغل طرابيشي على الجابري عن مفهوم الفضيحة، وتماشى ذلك مع بقاء «المناظرة» الافتراضية من جانب واحد على امتداد الأعوام. في الوقت نفسه حرص طرابيشي منذ السطور الأولى لمشروعه، على التسويغ له، بجملة غير تفصيلية، إذ قال، إن «ما يميز الجابري عمن تقدمه من الذين كتبوا عن العقل العربي هو قوة تأسيسه النظري، أو الإبستمولوجي، كما يؤثر أن يقول، لهذا العقل، ورفعه إياه من مستوى اللفظ أو المعنى إلى مستوى المفهوم».
ستبدأ بعدها المغامرة الطرابيشية في التحرّي عن مفهوم العقل لدى الجابري، وسوء فهمه لقسمة لالاند العقل بين «المكوِّن» و»المكوَّن»، وكيف أن «تجاهل الجابري للوظيفة التوحيدية للعقل المُكوَّن قد جعله يبني تحليله للعقل العربي على أساس قسمة هذا العقل، لا على أساس وحدته»، فيعمد من ثم إلى تشطيره إلى ثلاثة أقانيم، البيان والعرفان والبرهان، كل أقنوم مغلق على نفسه، ومن ثم «سيدير بين هذه الكيانات الجوهرية حرب مواقع وخنادق»، وأحياناً «تحالفات – اختراقات» تسمح للعرفان والغنوصية استعادة «المواقع» التي خسرها بظهور الإسلام . وكما عاب طرابيشي سوء فهم الجابري وحدة العقل المكوَّن، عاب عليه عدم فهمه الوظيفة الحيوية الحركية للعقل المكوِّن، عقل «استحداث الأزمات»، العقل عندما يراجع ذاته أو ينتفض ضدها، ما انتهى بالجابري لأحكام تشاؤمية، من قبيل أن العقل العربي منذ الغزالي إلى اليوم هو «عقل ميت أو هو بالميت أشبه»، وانحطاط متواصل منذ القرن الخامس الهجري.
كانت هذه هي نقطة البدء النظرية لمشروع «نقد نقد العقل العربي»، النقطة التي يفترض بالقارئ استعادتها من فصل إلى فصل، ومن مجلد إلى مجلد، لكثرة الجبهات والأرشيفات التي جرى استدعاؤها، في هذه الورشة الشيّقة، الماكرة، التي سيبقى لها جيل من القراء – ليس بمستطاع تحديد مداه، وإذا كان له مدى، مدين له بالتعرّف على مناحي مهمة من التراث: مثلاً كتاب «الفلاحة النبطية» لابن وحشية، الذي لم يجد فيه الجابري سوى سحر وشعوذة وهرمسية وإفساد للعلم الزراعي، في حين تعامل معه الطرابيشي كمنجم إثنوغرافي، وكمحطة في تاريخ العلم وتاريخ الزراعة وتاريخ الجماعات الدينية السابقة على الإسلام، المستمرة في كنفه، المعتمدة لسانه، والمستعينة بالتورية، والمهمومة بحفظ هويتها، وتراثها ونقله، هي الأخرى.
أكمل الجابري مشروعه وتبعه بمحاولة في تجديد علم التفسير ومضى. أكمل طرابيشي مشروعه في «تهافت العقلانية الجابرية» وكثف خلاصاته في الإسلاميات التي جناها في غمار هذا المشروع، في كتاب صدر له قبل خمس سنوات «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث»، ناهيك عن كتابه حول «المعجزة أو سبات العقل في الإسلام» و»هرطقات»، وأصيب لسانه بعقدة بعد الثورة السورية، رغم أسبقيته في نقد الممانعة كمفهوم، ثم مضى.
ثنائية الجابري – طرابيشي لن تعمّر كثيراً بعد رحيل العلمين. لكن الإيجابي أننا أمام فرصة الآن لتفكر هذه الثنائية نفسها كمشترك لما كان يسميه الرجلان، «العقلانية العربية» أو «العقلانيين العرب»، رغم أن أحدهما (الجابري) كان يرى أن التراث الإسلامي مصاب بمشكلة «لاعقلانية» عميقة في قسمه المشرقي، في حين يرى الثاني أن هذه القسمة نفسها، وما بني عليها غير عقلانية.
رغم كل ما استجمعه طرابيشي، وكل ما كشفه في عمل الجابري، فإن تواضع عدّته المنطقية، لم يمكنه من الذهاب بعيداً على الصعيد النظري من لحظة التدشين الأولى لمشروعه. فإذا كان نقد الجابري للتراث في شطره المشرقي أنه سمح بتسلل الغنوصية والهرمسية كتشويهات مقوضة للعقل البرهاني، فإن جهد طرابيشي انصب إلى حد كبير على نفي تهمة الغنوصية والهرمسية عن معظم ما وصفه الجابري بهما، أو عن التفتيش عما هو «تاريخي في ساعته» و»علمي في ساعته»، في هذه الغنوصية والهرمسية، ولا يبدو أن طرابيشي قد انتيه مثلاً إلى أن ما قام به الجابري من إغارة على مواقع الغنوصية والهرمسية في التراث الإسلامي، قام به أريك فوغلين وفي ما يتصل بمكانة الغنوصية والهرمسية في الفكر الغربي الحديث، أي أن الجابري ليس وحده في العالم من يرد مشكلة بنيوية
في منظومة معرفية معينة إلى الغنوص، وهذا أيضاً ليس بتفصيل، ولا يمكن أن يكون الرد مكتفياً بأن «هذا ليس غنوصاً فقط» (منطق طرابيشي) أو بأن «كل شيء غنوص» (منطق هنري كوربان). بمعنى آخر، استخف طرابيشي أكثر من اللازم بأهمية العرفان في التراث الفكري للمجتمعات الإسلامية، وعمل على نفي عرفانية العرفان حين استطاع، أو بدا له ذلك، ولم يجد نفسه محتاجاً إلى التكشيف عن تسلّل العرفان إلى البرهان: فهذا سيبقى بحكم غير المفكر به في معشر «العقلانية العربية». ولعلّ متابعة جهد الجابري وطرابيشي تكمن في نقدهما معاً في نقطة التقائهما، نقد العقلانية العربية من حيث هي عقلانية، نقد كل تفكير بإمكانية «مستوى برهاني» معقم من العرفان.

 

 

 

صومعة الفكر المنيعة/ بدرالدين عرودكي
لا أزال أذكر حكاية جورج طرابيشي مع اسمه الأول، تلك التي رواها لي ذات يوم في باريس في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، والتي جرت وقائعها خلال المرة الأولى التي كان يزور فيها المغرب، لحضور اجتماع هيئة تحرير مجلة «الوحدة»، وكان يعمل فيها، في مدينة الرباط. ففي المطار، قدم جواز سفره السوري لموظف الجوازات المغربي، فتأمل هذا الأخير فيه ملياً مقارناً بين الصورة على الجواز وصاحبها أمامه تارة أو محدقاً في الاسم مكتوباً بالعربية وبالأحرف اللاتينية تارة أخرى: جورج طرابيشي. سأله عما إذا كان واثقاً من أن هذا جواز سفره! أكد له جورج ذلك بالطبع. فكان الجواب: هذا غير معقول! كيف يمكن أن تكون من سوريا واسمك جورج!
وعلى أن جورج حاول أن يشرح أن في سورية يتعايش المسلمون والمسيحيون، وأن هناك فيها محمد وجورج والياس وعبد الستار.. إلا أنه اضطر إلى أن ينتظر ما ينيف عن ساعات ثلاث جرى التحقيق خلالها في صحة الاسم والجواز وفي جنسية صاحبه.
روى جورج طرابيشي بعد ذلك في بعض أحاديثه المنشورة قصته الأخرى والأولى مع اسمه، الذي لم يتصالح معه إلا حين اكتشف شاباً أصل الاسم اليوناني ثم استخدامه العربي: ابن جريج. لكنه لم يسلم في سنوات حياته كلها من أن يواجه ما كان اسمه يطرحه لدى الجهلة أو المغرضين من مشكلات حول انتمائه العربي خصوصاً.
وقد كان في سن الشباب الأول حين انضم إلى حزب البعث في سوريا عند انطلاقه حزباً قومياً وجماهيرياً، كأنما أراد أن يؤكد لنفسه انتماءه العربي مادام أحد مؤسسي الحزب يحمل هو الآخر اسم ميشيل! وقبل أن يبدأ بالنهل من معين الثقافة الغربية في جوانبها الماركسية والوجودية والتحليل النفسي عن طريق الترجمة، التي اتخذها حرفته الأولى، والتي قادته إلى حرفة الكتابة عبر مقالات يعرض فيها ما كان يقرؤه من كتب أجنبية خصوصاً، ومنها إلى النقد الأدبي مستفيداً من معطيات التحليل النفسي الذي ترجم عدداً من مؤلفات رواده، فإلى المشروع الكبير الذي شغل ربع قرن من حياته، والذي أعاده إلى التراث العربي الإسلامي، وغير الإسلامي، بعد أن عزم على أن يباشر مشروع نقد شامل لنقد مشروع «العقل العربي» كما وضعه محمد عابد الجابري.
كانت بداية العمل في هذا المشروع إيذاناً بضرب من حياة رهبنة داخل صومعة الفكر ومن أجله حصراً، بعد تقلب في المهن وفي المدن العربية، أدى به أخيراً إلى مدينة كانت نفسه تهفو إليها: باريس. على أنه ما كان لهذه الصومعة الفكرية إلا أن تكون منيعة ومانعة في آن. منيعة في حمايته من إغراءات الحياة ومتاعبها، بما يصرفه حصراً إلى التفكير والعمل الفكري، ومانعة في الآن نفسه من سماع الأصوات الأخرى، وقد كانت شديدة القوة، لا سيما منذ خمس سنوات في بلده الأساس، سوريا. ما كان له مع هذا أن يتأثر مما قيل أو ما سيقال في ذلك، وهو الذي لا يمكن أن يوضَع لحياته من عنوان لو شئنا غير كلمة الصدق، مع ذاته، ومع الآخرين. وهذا الصدق الذي لا ينفي الخطأ أو ينكره يتجلى في مساره الفكري كله: محاولة في الفهم، من خلال الترجمة حيناً على ما يعتري الترجمة من خيانة يقترفها المترجم واعياً أو غير واع ـ كما قال هو نفسه عنها، ومن خلال التحليل النقدي حيناً آخر لما يمسّ العرب المعاصرين خصوصاً: الإبداع الأدبي الذي يقول حياتهم وعُقدَهم ومشكلاتهم، اليوم، نساء ورجالاً؛ والتراث الذي لم يخرجوا حتى اليوم من عباءته أو من ظله نصاً ونقلاً.
من المؤكد أن عمل جورج طرابيشي النقدي سيحتاج إلى نقد لا يقل دقة ورصانة وأمانة عن نقده هو نفسه لمشروع نقد العقل الذي قام به محمد عابد الجابري. وهو نقد لن يطال في نظري صحة المراجع أو دقة الاستشهادات بقدر ما يمكن أن يطال سؤالاً أساساً يكون هو البدء: هل يمكن للعقل أن يكون إسلامياً كما قال محمد أركون، أو عربياً كما قال الجابري ولم يخالفه في ذلك طرابيشي، أم أن العقل يستعصي على كل تصنيف، إثنيأ كان أم تاريخياً؟

 
رائد العقلانية العربية/ الطيب تيزيني
في هذه الأيام الصعبة في عالمنا العربي، نبدو كما لو أننا نعيش في العصر الأول للحضارة السورية الذي أنتج أبجدية اللغة.. أي معرفة كيف يصوغ الإنسان أدوات المعرفة لذاته وللذوات الأخرى.
يرحل اليوم الصديق جورج طرابيشي الذي كان ظاهرة في مشروعه الفكري، وكان من الداعين إلى تعميق أدواتنا المعرفية القائمة للدخول في قلب التحولات الجديدة التي يشهدها العالم. والعمل بشكل جدي لفهم تنظيم «داعش»، ومن انتجه وصاغه وعممه.
لقد ألح الراحل طرابيشي على ضرورة تفسير الأصوليات الجديدة بامتلاك أدوات لغوية أكثر عمقا، كي يتاح لنا امتلاك ما هو قريب ولكنه بعيد، أعني خصوصيات الإنسان. من هنا لعله من المطلوب الآن أن نستنبط منظومات منهجية أكثر حداثة.
هناك سؤال: أين نضع ذكرى فقد جورج طرابيشي اليوم وفي أي سياق، لنقترب من موضوع بحثنا ومواضيع أخرى جديدة. لقد اهتز عرش الفكر العربي والعالمي في مواقع مهمة بخسارة محمد عابد الجابري سابقا، وجورج طرابيشي راهنا. كتب جورج طرابيشي عن الجابري وأفاض به في كتابته، وكان نقد الطرابيشي ساحقا في التاريخ العربي، بحيث ان الأمر ظهر وكأنه يمثل حالة فريدة، والسؤال الأكثر شرعية اليوم، هل الأدوات المعرفية والنقدية التي اتبعها الجابري والطرابيشي معا ما زالت فاعلة؟ هذا بالطبع إذا كانت قد أنجزت مهماتها بالكيفية المناسبة.
استمدت العقلانية الجابرية كثير من ادواتها من الغرب، وكذلك الأمر عند الصديق طرابيشي، خصوصا حول ما طرحه عن العقلانية عند فرويد والغرب وما تعرض له بعد ذلك في إطار العقلانية العربية ودراسة تحرير المرأة في ضوئها. لأنه يبدو أن ثمة ما لم يعرض لنا سابقا ويحتاج الآن منا إلى تدقيق رؤية المعرض وتعميقه.
لقد شكلت وفاة المفكر جورج طرابيشي مأساة للأهل والأصدقاء، وأزمة للباحثين في ما أنتجه هو والرعيل الذي انتمى إليه، لهذا علينا فهم جورج ونتاجه لأن هذا يوفر نقلة تاريخية في فتح الممكنات المنهجية والمعرفية.
أكاديمي ومفكر سوري

 

 

محطات في حياة جورج طرابيشي
لندن ـ «القدس العربي»: رحل في فرنسا المفكر السوري جورج طرابيشي (77 عاما)، الذي يعد من أهم الوجوه المؤثرة في الحياة الثقافية العربية خلال العقود الماضية، حيث خاض فيها سجالات إشكالية عديدة، كان من أبرزها وأكثرها تعريفا، مشروعه الضخم الذي انكب من خلاله على التدقيق في كل شاهد من شواهد مشروع المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري «نقد العقل العربي» الذي خصصه الأخير لإعادة قراءة التراث الأخلاقي والسياسي الإسلامي.
وقد أصدر طرابيشي في هذا السياق خمسة مجلدات في «نقد نقد العقل العربي» وكان آخرها الجزء الخامس «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث». وكان طرابيشي قد كتب في مقاله الأخير «ست محطات في حياتي» سردا أشبه ما يكون بسيرة ذاتية، للتحولات التي شهدتها حياته، والتي كان لها دور حاسم في كل ما كتبه وترجمه.
تمثلت المحطة الأولى في المرحلة الأعدادية، عندما أدرك طرابيشي أن الله الذي حدثه عنه الكاهن، والذي لا ينجيه من عذابات النار بسبب اشتهائه لجاراته الإيطاليات في مدينة حلب، لا يمكن أن يكون موجودا، ولذلك كف من يومها أن يكون مسيحيا.
المحطة الثانية كانت في الثانوية، عندما أصر على حضور درس للتربية الدينية الإسلامية، وقد حضره يومها عند شيخ كتب على اللوح بالطبشور «كل من هو ليس بمسلم فهو عدو للإسلام». ابتداء من تلك اللحظة يقول طرابيشي «وعيتُ أن مهمّة كبيرة جدّاً لا تزال تنتظرنا في مجتمعاتنا، وأن القضية ليست قضية تغيير سياسة ولا وزارة، بل هي أولاً وربما أخيراً قضية تغيير على صعيد العقليات».
المحطّة الثالثة في حياته تمثلت بحادثة مماثلة، ولكن هذه المرة مع رفاق حزبيين مسيحيين من أبناء حوران في سورية. يومها دخل طرابيشي السجن كمعارض سياسي. وفي أحد النقاشات بينه وبين هؤلاء السجناء جاء حديث الشرف الجنسي الذي يقضي بوجوب قتل المرأة، إذا أقامت علاقة جنسية غير مشروعة، سواء كانت مسيحية أو مسلمة، وخلال الحديث قال لهم «أنا أرفض مبدأ جريمة الشرف من أساسه، وهذا موقف لا أستطيع احتماله إطلاقا من قبل إنسان يزعم نفسه تقدميا أو اشتراكيا او بعثيا». عندها أخذ الرفاق قرارا بمقاطعته وبعدم الكلام معه. من يومها يقول طرابيشي «تعلمت درسا جديدا وهو أن القضية ليست قضية مسلمين وغير مسلمين، مسيحيين وغير مسيحيين، حتى لو كانوا ينتمون إلى أيديولوجيا واحدة. فالقضية أعمق من ذلك بكثير. قضية تغيير البنية الداخلية للعقل، وليس فقط البنية السطحية السياسية أو الأيديولوجية».
أما المحطة الرابعة، فجاءت عبر ترجمة ثلاثين كتابا لفرويد من الفرنسية. وهو ما دعا طرابيشي إلى أن يقر بأن «المترجم يبقى خائنا» للنص، ولكنه كان خيارا لا بد منه «لأنه لا يوجد في الثقافة العربية، التي تهيمن عليها نتيجة الاستعمار السابق اللغتان الفرنسية والإنكليزية، من يتقن الترجمة عن الألمانية سوى قلة قليلة للغاية. ولو لم أترجم فرويد أو لم يترجمه غيري، سواء عن الفرنسية أو الإنكليزية لبقيت الثقافة العربيّة بدون فرويد وبدون تحليل نفسي، وهذا شيء غير مقبول».
المحطة الخامسة والمحورية في حياة طرابيشي تتعلق بعلاقته بالراحل محمد عابد الجابري، الذي كرس لدراسته ونقده ربع قرن من عمره، حيث يقول طرابيشي في هذا السياق: «إنني لمّا قرأت هذه الرسالة (إخوان الصفا) أصبت بصدمة كبــيرة وبطعنة في كبريائي كمثقف، ومن ذلك اليوم لم أعد أوجّه لومي إلى الجابري، بل إلى نفسي، لأنّني حكمت على كتاب في موضوع لم أكن أملك كلّ مفاتيحه المعرفية. وهكذا انكببت علــى قراءة كتب التراث وعلــــى مطالعة عشرات وعشرات المراجع الّتي ذكرها الجابري»..
أما المحطة السادسة والأخيرة، فيصفها طرابيشي بأنها محطة التوقف والصمت والشلل التام عن الكتابة، التي بدت له بمثابة موت. ولكنه على حد تعبيره «يبقى موتاً صغيراً على هامش ما قد يكونه الموت الكبير الذي هو موت الوطن». وهذا ما ظهر من خلال كتابة طرابيشي لمقالين اثنين فقط منذ عام 2011 وهو العام الذي شهد اندلاع الثورة السورية، حيث توصل طرابيشي في هذين المقالين إلى نتيجة مفادها «الربيع العربي لم يفتح من أبواب أخرى غير أبواب الجحيم والردّة إلى ما قبل الحداثة المأمولة»، وهو ما أثار حفيظة شرائح واسعة من النخب الثقافية السورية والعربية.
يذكر أن طرابيشي هو من مواليد مدينة حلب عام 1939، يحمل إجازة باللغة العربية، كما أنه حاصل على درجة الماجستير في التربية من جامعة دمشق.
عمل طرابيشي مديرا لإذاعة دمشق (1963-1964) ورئيسا لتحرير مجلة «دراسات عربية» (1972-1984)، ومحررا رئيسيا لمجلة «الوحدة» (1984-1989).
من أهم أعماله:
«من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث»، دار الساقي، 2011.
«المعجزة أو سبات العقل في الإسلام»، دار الساقي، 2011.
«هرطقات 1: عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية». دار الساقي، 2011.
«هرطقات 2: العلمانية كإشكالية إسلامية- إسلامية»، دار الساقي،2011.
«نظرية العقل: نقد نقد العقل العربي» (ج1)، الطبعة الرابعة، دار الساقي ،2011.
«إشكاليات العقل العربي: نقد نقد العقل العربي» (ج2) الطبعة الرابعة ، دار الساقي،2011.
«وحدة العقل العربي: نقد نقد العقل العربي» (ج3) ، الطبعة الرابعة دار الساقي،2010.
«العقل المستقيل في الإسلام: نقد نقد العقل العربي» (ج4)، الطبعة الرابعة، دار الساقي 2011
«من النهضة إلى الردّة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة»، دار الساقي، طبعة ثانية، 2009
«المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي»، دار الريس، 1991.
«الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية»، دار الطليعة، 1988.
«عقدة أوديب في الرواية العربية»، دار الطليعة،1987.
«الاستراتيجية الطبقية للثورة»، دار الطليعة 1970.
«الماركسية والمسألة القومية»، دار الآداب ، 1963.

 
جورج طرابيشي: مغامرة تحرير العقل العربي/ شوقي بن حسن
هل يمكن أن نتصوّر لغة معاصرة لا تحتوي على مؤلفات فرويد مثلاً أو هيغل؟ العجيب أن هذه المؤلفات لم تصل إلى العربية حتى سبعينيات القرن الماضي، كان ذلك بفضل مبادرة الناقد والمترجم والمفكّر السوري جورج طرابيشي (حلب 1939 – باريس 2016)، الذي رحل عن عالمنا أول أمس. لم تكن تلكَ المساهمةَ الفارقةَ الوحيدة له، فقد اتخذ موقعاً تتقاطع فيه مجالات عدة.
الناظر في مشوار طرابيشي يعثر على مفارقة، إذ يبدو له كاتباً لا يقول ما عنده مباشرة، أو بعبارة أدق لا يقول ما عنده إلا استناداً إلى غيره، ولعله طوّع الأمرَ وصولاً إلى الإدلاء بما يريده ضمن فسيفساء مشروع متشعّب نعثر عليه هنا وهناك؛ من خلال الترجمة أو من خلال تفكيك مركّبات الثقافة العربية عبر نقد رواياتها ثم مفكّريها، ما تجلى خصوصاً مع المراجعة التي خصّصها لمؤلَّف محمد عابد الجابري “نقد العقل العربي”، وأخيراً، ربّما، عبر الصمت الإرادي الذي فرضه على نفسه منذ أفسح “الربيع العربي” عن نصفه المظلم، وفي بلده بالذات.
تبدو هذه المستويات من سيرته مثل طبقات تراكمت بعضها فوق بعض، لتُفضي كل طبقة إلى ما يليها في ما يشبه الدوائر التي تتوسّع وتحتوي بعضها. فدراسة الأدب العربي في الجامعة السورية أدّت به إلى الوظيفة العمومية، حيث عمل في إذاعة دمشق ثم أدارها لسنتين، قبل أن تُكرهه تضييقات السياسة وضرورة اتخاذ مسافة لحرية الفكر، إلى التوجّه إلى بيروت حيث حرّر مجلات فكرية، وانصهر في الحياة الثقافية العربية ملامساً قضاياها ومشاغلها، وقد نشر بعض المؤلفات السياسية، ثم أجبرته الحرب الأهلية اللبنانية على الهجرة إلى باريس.
لعل مهامه التحريرية أتاحت له أن يرى نواقص “المكتبة العربية”. وفي مستقرّه الجديد، ازداد احتكاك طرابيشي بالفكر الغربي، كما أتاحت له المسافة الجديدة أن يرى المشهد العربي بوضوح أكبر. كثيراً ما يفسّر طرابيشي خياراته بتفاصيل شخصية، وكذلك هو الأمر حين قرّر استقدام أدوات التحليل النفسي إلى مكتسباته ونقلها إلى العربية، حيث واظب على ترجمة أعمال سيغموند فرويد. لكن طرابيشي فعل أكثر من ذلك، حيث جعل لفرويد أسلوباً خاصاً به في العربية.
على مستوى الترجمة أيضاً، آمن طرابيشي بضرورة نقل تاريخِ فلسفةٍ حديث إلى العربية، فخصّص سنوات لترجمة الأجزاء الثمانية من آخر تأريخٍ فلسفي شهدته الساحة الفرنسية (إميل بريهييه). كما وفّر للعربية مرجعاً آخر حين ترجم “موسوعة علم الجمال الهيغلي”.
الشوط الفلسفي والتحليل – نفسي الذي قطعه طرابيشي تمخّض عن قراءات في الأدب العربي المعاصر، كمستوى أول لدراسة الخطاب الذي تنتجه الثقافة العربية، كانت هذه الخطوة أشبه باستئناف لاختصاصه الأصلي. لعل ثقافة التحليل النفسي تسرّبت إلى العالم العربي عن طريق النقد الأدبي المواظب الذي خاضه طرابيشي أكثر من أي قناة أخرى، وخصوصاً أنه اشتغل على أكثر الأعمال الأدبية شعبية، كمؤلفات نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن منيف.
سرعان ما سيعمّم طرابيشي اشتغاله على الرواية مُكرّساً زوايا نظر جديدة للإشكاليات الفكرية المطروحة ثم مطوّراً لإجابات مختلفة حولها. عند هذا المنعطف، والذي بدأ بكتاب “المثقفون العرب والتراث: تحليل عصاب جماعي” (1991)، حرص وهو ينتقل إلى وضع أعمال المفكرين على أريكة التحليل النفسي أن لا تكون أدواته مجرّد تطبيق لقواعد جاهزة.
قاده تشخيص هذا “العصاب الجماعي” إلى “مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة” (1993)، حيث يبيّن أن حرب الإيديولوجيات التي ظهرت في الستينيات على الساحة السياسية باتت تدور حول التراث بعد ذلك، حيث تقصّى ما تأخذ مختلف التيارات الفكرية منه وما تترك، مفسّراً التشويهات التي باتت تطاله.
كان الجابري نموذجاً لأحد مقدّمي القراءات في التراث، وسيخصّص المفكر السوري أكثر من عقدين لنقد عمله “نقد العقل العربي”، ما سيتضمّن – إضافة إلى قراءة مستفيضة في التراث العربي الإسلامي – تقديم رؤية لمسار تاريخ الحضارة العربية وتقييماً له، ثم وضع نظريات حول ميكانيزمات إنتاج لنفسه.
لم تحظ الثقافة العربية بأعمال موسوعية تتجاوز البعد التجميعي، غير أن العقدين الأخيرين من القرن العشرين سيشهدان عملين من هذا المستوى، وهما إلى جانب موسوعة أحمد أمين عن تاريخ الإسلام، الموسوعات العربية الثلاث الوحيدة في العصر الحديث، كما يقول بذلك عبد الرزاق عيد.
وقوف طرابيشي على نتائج أطروحة الجابري، وخصوصاً على مَراجِعه، قادته إلى مغامرة تدقيقية في التراث القديم، ليس العربي فحسب بل كل المؤثرات التي تداخلت معه، وهو مشروع اعتبر طرابيشي أنه قاده إلى إعادة بناء ثقافته، مشيراً إلى مديونيّته بذلك إلى الجابري رغم الوقوف معه على طرفي نقيض في تمثّل “العقل العربي”.
إذا كان الجابري قد ذهب إلى تفصيل أجزاء من هذا العقل (بياني، برهاني، عرفاني من جهة، وعقل مشرقي وآخر مغربي من جهة أخرى)، فإن طرابيشي اشتغل على إعادة بناء وحدة هذه العقول. وإذا كان الأول يُرجع خروج العقل العربي من عملية البناء التاريخي إلى عوامل خارجية، فإن الثاني يُحمّل العقل العربي مسؤولية “استقالته من التاريخ”. تحميل المسؤولية هذا يرى فيه طرابيشي الرهان الذي يقود إلى انتفاضة هذا العقل على نفسه وإعادة تأسيس مشروعه الحضاري.
ينتهي نقد طرابيشي به إلى تقديم أبرز أطروحاته، حيث تبيّن له المنعرج التاريخي الذي توقّف فيه العقل العربي، وهو الانتقال/ الانقلاب “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث” (2010)، حين جرى تجميد كل إمكانيات التحرّك بتضخيم المرجعيات الثابتة في الإسلام، بعد أن كانت منحصرة في القرآن وحده، لتصبح النصوص مسيّرة لكل شؤون الحياة ومتعالية عليها، وتُدخل الحضارة العربية الإسلامية في حالة تكرار لا ينتهي.
أطروحة أخرى تضمّنها كتاب “المعجزة أو سبات العقل في الإسلام” (2008)، حيث يشرّح طرابيشي آلية ديمومة استقالة العقل العربي حتى اليوم. يشير هنا إلى أن الإسلام تخلّى عمّا ميّزه عن الديانات الأخرى بغياب المعجزة النبوية، ليفرضها لاحقاً الفقهاء على الأمة. تحوّلُ الإسلامِ إلى دين معجزات أفقده الطاقة التي كان يحرّك بها تاريخه ويدفعه إلى الأمام.
المخرج بالنسبة لطرابيشي هو “ثورة كوبرنيكية” تقوم على “الانقلاب على منطق المعجزة” التي توهم بعدم الحاجة إلى المعرفة للسيطرة على الطبيعة والتاريخ، غير أنه يلاحظ أنه في الوقت نفسه الذي تطلق فيه هذه الدعوة، تظهر دعوة مضادة تنكر ضرورة هذه الثورة. إنه المشهد الختامي لمدوّنة جورج طرابيشي، وهو شبيه بالمشهد التاريخي الذي تعيشه المنطقة العربية، وقد أغمض عينيه عليه إلى الأبد قبل أن تلوح نتائج هذه الجدلية المتوترة. لعله سوء حظ التاريخ العربي.
العربي الجديد

 
عمارة جورج طرابيشي/ معن البياري
الحجر ثقيلٌ هذه المرّة. إنه رحيل جورج طرابيشي. أَسأَل في هذا المقام: هل من أطروحةٍ أو نظريةٍ أو مقولةٍ، في الفكر والمعرفة والثقافة والفلسفة، لم يكتب أو يترجم فيها هذا الرجل النادر، أو لم يُحاججها ويساجلها، أو لم يبسط فيها رأياً أو موقفاً أو اجتهاداً؟ أجيب: لا. إنه “حرَثَ في حقولٍ معرفيةٍ شتّى”، على ما وصفه الصديق صقر أبو فخر، في تحيّةٍ إليه في “العربي الجديد”، أخيراً. ليست وحدها غزارةُ ما أنجز من مؤلفاتٍ وترجماتٍ، تنوّعت في النقد الأدبي والتحليل النفسي والتفكيك الفكري، وغير هذا كله، في نحو مئتي كتاب، تُدهشك في العمارة التي شادَها جورج طرابيشي في الثقافة العربية، وإنما أيضاً تلكما المسؤولية والجديّة الباهرتان في كل ما كتب وترجم وحاضر وناقش وقال، وإن اختلفتَ معه في مطرحٍ هنا أو هناك، فقد كان يُزاول الكتابة والتأليف والاشتباك مع أسئلة الديمقراطية والحرية وقضايا التراث العربي وإشكاليات قراءة الموروث الإسلامي بإخلاصٍ استثنائي، وبتبتّلٍ خاص.
ظلّ أنيقاً في كتابته، أي رفيع العبارة، كما في مناوشته من خاصم اجتهاداتهم ومنظوراتهم (حسن حنفي مثلاً)، وحضر كبيراً في مناورته مع الأفكار التي أخذ وأعطى معها بروحيّة ناقدٍ (ومنتقدٍ) عارفٍ، متحمسٍّ لرؤيته. وأزعم، هنا، بلا مجازفةٍ، أن مقالة جورج طرابيشي التي نعى فيها محمد عابد الجابري كانت نصاً ثميناً جداً في لوحة الثقافة العربية في طورها الراهن المعتل. لم تكن المناقبيةُ العالية فيها وحدَها ما منحتها سمتَها هذا، بل أيضاً جلالُ العلم حين يُقيم في مثقفٍ من قماشة طرابيشي الذي اشتُهر كتابُه، ثقيلُ القيمة، في نقد مشروع الجابري بشأن العقل العربي. ولمّا كان قد أنفق سنواتٍ غير قليلة في اشتغاله على هذا المشروع، فإنه عدّها سنوات المرحلة الخامسة من مراحل حياته الست، كما أوضحها، أخيراً، وأكّد، مجدداً، أنه يدين بالكثير للجابري، لأنه “أرغمه” على إعادة بناء ثقافته التراثية. ولولا مصادفةٌ بشأن “إخوان الصفا” وقع عليها طرابيشي، مرّة، لما تيسّرت للجدل الفكري العربي المعاصر محاججته الثريّة هذه.
يُظلم العالم الراحل، عندما يُضاءُ كثيراً على مجهوده بشأن الجابري، ولا يُنتبه بمقدارٍ لازم (وواجب) إلى رياداته، في كتبه عن أدب نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ونوال السعداوي وغيرهم، متسلحاً بمنهج التحليل النفسي، بينما كان يكدح في ترجمة كتب فرويد العديدة إلى العربية (عن الفرنسية). وكان يترجم رواية “زوربا”، وأعمالاً تأصيلية لماركوز وهيغل وغارودي وسيمون دي بوفوار، ولسارتر الذي كان أول مؤلفات طرابيشي في 1964 عنه. وفي تلك الغضون، وبعدها، كان طرابيشي يخوض في الوجودية والماركسية والقومية والديمقراطية، تأليفاً وسجالاً، وهو الذي كان قد أقام على “بعثيةٍ” طفيفةٍ في يفاعته، ثم ارتحل إلى خياراتٍ مغايرةٍ في الفكر والثقافة والسياسة، كان فيها قلقاً ومقلقاً، لكنه أبداً لم يكن مرتبكاً، إذ حافظ، وبإفراطٍ يبعث على الإعجاب، على انحيازه إلى الديمقراطية والحرية والعقلانية، وأهل الاختصاص في هذا كله أدرى بالقيمة الباقية التي خلفها الراحل، إرثاً مكيناً في هذه القضايا، موصولاً بمؤلفاته التالية في التراث العربي والإسلام والحداثة.
طالعنا، نحن طلاب الجامعات في النصف الأول من الثمانينيات، بعض جورج طرابيشي في تلك السنوات وما بعدها، ثم ذهبت بشخصٍ مثلي شواغل الحياة إلى مطالعاتٍ أقلّ ثقلاً مما انصرف إليه الراحل الكبير، تأليفاً وأسئلةً ومخالفة واتفاقاً، وإنْ تعرّفتُ إلى منتوجه بشأن حسن حنفي والجابري، غير أنني واظبت على ملاحقة مقالاته، وهي وفيرة، وفيها الأناةُ والأناقة، والتواضع البديع. كتب مقالاً وحيداً بشأن بلده سورية، في الشهر الثالث لثورتها، أبدى فيه خوفاً من “جحيم حرب أهلية” تقع فيه سورية، “ما لم يُبادر النظام إلى إصلاح نفسه بإلغاء نفسه بنفسه”. ثم صمت، ثم كتب مقالتين عن محطاتٍ ست في حياته، وعن أربعة عشر فشلاً فيها، ثم باغتنا برحيله، أول من أمس، من دون أن ينال التقدير الذي يستحق.
العربي الجديد

 
حيرة المثقّف وخيبته/ ممدوح عزام
من الصعب على أي كاتب أن يؤبّن جورج طرابيشي بقول واحد محدّد؛ فالرجل الذي بدأ منذ الخمسينيات ناقداً أدبياً، رحل عن عالمنا وقد وضع الرواية والقصة، وهما الحقلان الأدبيان اللذان اشتغل عليهما في نشاطه الأدبي، وراء ظهره، ليتفرّغ في العقود الأخيرة من القرن العشرين، ومن عمره، للتفكير في التاريخ العربي، أو الذهنية العربية، منذ فجر الإسلام حتى اليوم.
قد لا يكون هذا الانتقال، من حقل فكري إلى حقل فكري آخر، سمة تخصّ طرابيشي وحده، بل تشمل معظم النقّاد السوريين. وبهذا المعنى، فهي سمة سورية محضة، قد تحتاج إلى التأمّل والمتابعة في ما بعد. إذ بدأ معظم المشتغلين بالفكر في سورية، نقاداً أدبيين، ثم انتقلوا إلى ساحة الأفكار، حيث يحلو التنظير عن الوضع العربي، والذهنية العربية، والتاريخ العربي، وعن عصر النهضة، والأسئلة المجهضة، أو الأجوبة المستحيلة.
وهذا ما حدث مع طرابيشي، فقد تخلّى عن الاشتغال في النقد الأدبي، الذي قدّم فيه عدداً من الكتب الهامة في النظر إلى الرواية العربية، وإلى شخصياتها الروائية من منظور التحليل النفسي، بعد أن سلّط أضواء جديدة على عدد من الشخصيات التي باتت تشكّل علامة في الثقافة العربية، مثل رجب بطل رواية عبد الرحمن منيف “شرق المتوسّط” ومصطفى سعيد بطل رواية الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال”، وغيرها من الشخصيات الروائية التي منحتها دراسات جورج طرابيشي حضوراً مستقلّاً عن خالقيها من الروائيين العرب، في الثقافة والحياة العربية، بحيث بات الكثير من القرّاء، يستطيعون التعرّف إلى رجب آخر مستلق على سرير التحليل النفسي المعدّ من قبل الناقد، غير رجب الرواية المعروفة.
استند في ذلك كله إلى مرجعية نقدية أوجزها في مقدّمة كتابه “عقدة أوديب في الرواية العربية” بالقول إن دراسته لم تنس أنها دراسة في النقد الأدبي، لا في علم النفس، وهذه ضمانة ضد اختزال النص الأدبي، كما فعل فرويد في دراسته عن دوستويفسكي، حين لم ير إلا العصابي.
انتقل من تحليل الرواية العربية، إلى تحليل التاريخ العربي، والثقافة العربية، وفق المنهج ذاته، وقد بدا في هذا الحقل من الكتابة غاضباً، وجافّاً، افتقرت كتابته فيه إلى ذلك الهدوء، وإلى تلك اللدانة التي وسمت أعماله النقدية الأدبية. وقد يكون للطابع السجالي الذي أخذ شكل الشجار المعرفي بينه وبين عدد من الباحثين العرب، دور في إذكاء روح السخط التي تسربت إلى كتاباته البحثية. وهو أمر لم يكن ممكناً ملاحظته حين كان يستنطق الشخصيات الروائية، التي لم تكن تعاركه في الكتابة.
لكن ما سر صمته في السنوات الماضية؟ هل شعر المفكّر بالخيبة تجاه لا جدوى الرسالة التي اضطلع بها؟ ربما. فهو يعترف في شهادته الأخيرة، بفشله، منذ هزيمة حزيران. بل بفشل جيله كله، أو بفشل الأمة كلها. وهو أمر محبط للغاية، إذ يشعر الكاتب أخيراً، أن رسالته لم تصل، وأن التخلّف في العالم العربي ما يزال أقوى بكثير من رسائل التنوير التي اضطلع بها.
العربي الجديد

 

 

خزّان من الطاقة… جعل قلبه في خدمة عقله/ ريتا فرج
في موسوعته «أعلام العرب المبدعين في القرن العشرين»، يقول خليل أحمد خليل في بطاقة تعريفية موجزة عن جورج طرابيشي (مواليد حلب 1939 – 2016) إنه «خلّف وراءه إرثاً نوعياً كبيراً، لم يتميز به سواه من المكثرين. فهو خزان طاقة، يجعل قلبه في خدمة عقله، وهذا في خدمة حضورنا الجديد في عالمٍ معياره الصراع والتغالب. ربما نظلمه إذا صنفناه تصنيفاً ثلاثياً: مُعرِّب، ناقد أدبي ومفكر (متفلسف). فهو هؤلاء جميعاً وأكثر بقليل، حيث هذا القليل ينطوي على شخصية جورج طرابيشي الصلبة، الصبورة صبر العقل، لا صبر المنهزمين».
أمضى ابن مدينة حلب وأحد أعمدة العقلانيين العرب عمره باحثاً في اتجاهات عدة بين الترجمة والتأليف والنقد الأدبي للرواية العربية. وضع عدداً كبيراً من المؤلفات، منها «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث»، و«المعجزة أو سبات العقل في الإسلام»، و«هرطقات» بجزءيه الاثنين…
رسم طرابيشي مسيرته الفكرية في مرحلتين: تبنى الأيديولوجيات الغربية الحديثة من ماركسية إلى قومية، مع قطيعة تامة مع التراث، وبعدها دفعه مساره العقلاني باتجاه اكتشاف التراث.
سار في اتجاهات تصاعدية، بدءاً من الفكر القومي والثوري، مروراً بالوجودية والماركسية والتحليل النفسي، وصولاً إلى الإبستمولوجيا المطبقة على التراث العربي الإسلامي. تشكل النزعة النقدية الجذرية عنده منهجاً عقلانياً صارماً رأى أنها الموقف الوحيد الذي يمكن أن يصدر عنه المفكر، ولا سيما في الوضعية العربية الراهنة التي يتجاذبها قطبان: «الرؤية المؤمثلة للماضي والرؤية المؤدلجة للحاضر». وفي رحلته مع الترجمة، بدأ من الفلسفة إلى علم النفس. نقل إلى العربية كتباً عدة؛ منها موسوعة «تاريخ الفلسفة» في سبعة أجزاء، «المدخل إلى علم الجمال: فكرة الجمال» (هيغل)… إلى جانب تعريبه غالبية مؤلفات فرويد.
ينهض مشروعه الفكري الضخم على ثلاثة أركان رئيسية: ترجمة أهم الأعمال الغربية في الفلسفة وعلم النفس، ونقد الفكر العربي ــ الإسلامي الحديث والمعاصر، ودراسة مشروع المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري «نقد العقل العربي» حيث أصدر سلسلته المضادة «نقد نقد العقل العربي» في أجزائها الأربعة.
لم يقف طرابيشي فقط عند كتب الجابري ــ المشروع الذي استغرق منه حوالى ربع قرن ــ بل تجاوزها بالعودة إلى التراث الواسع، لأن الإشكاليات التي صاغها الجابري كانت تتعلق بمستويات ثلاثة أساسية: الفكر الفلسفي اليوناني، الفكر العربي الإسلامي والفكر الغربي الحديث كما يوضح طرابيشي.
منهجياً، يعتمد طرابيشي ـــ كما يلفت الباحث المصري سمير أبو زيد في مقالة طويلة عنه ــ «على نوعين أو مستويين للمناهج: الأول، خاص بمعالجة المشكلات المعاصرة لقضايا النهضة والحداثة، والثاني خاص بقضايا التراث ومشروع «نقد نقد العقل العربي». بالنسبة إلى القضايا المعاصرة، يستخدم منهج التحليل النفسي من أجل نقد الواقع الفكري والثقافي العربي (…) إضافة إلى ذلك يعتمد على إعادة تأويل النصوص من خلال فهمها في إطارها التاريخي وسياقها الاجتماعي (…). أما بالنسبة إلى التعامل مع التراث من خلال مشروع «نقد نقد العقل العربي»، فيستخدم المنهج التفكيكي من أجل إعادة النظر في الأسس المعرفية «الإبستيمولوجية» للنص الجابري، ثم منهجي الحفر الأركيولوجي، والنقد التاريخي من أجل الوصول إلى الأصول التراثية للمفاهيم والمقولات الواردة في هذا النص، ثم أخيراً منهج التركيب من أجل إعادة بناء هذه المفاهيم والمقولات في صورتها الصحيحة بناءً على نتائج النقد».
أثار «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث» سجالاً في الأوساط الثقافية العربية. وقد وظف طرابيشي المفهوم الخلدوني عن النشأة المستأنفة، بما تنطوي عليه من معنى القطيعة والاستمرارية في آن معاً، مسلطاً الضوء على عملية إعادة تأسيس الإسلام القرآني في إسلام حديثي، وذلك طرداً مع التحول الموازي من إسلام الرسالة إلى إسلام التاريخ، ومن إسلام «أم القرى» إلى إسلام الفتوحات. رصد في الكتاب الآليات الداخلية لإقالة العقل في الإسلام، مختتماً مشروعه «نقد نقدِ العقل العربي».
دافع طرابيشي عن العلمانية ورأى أنها القاطرة للخروج من حالة التردي والصراع الطائفي والمذهبي. في إحدى المقابلات التي أجريت معه يقول: «من الأسلحة الفتاكة التي حوربت بها العَلمانية (بفتح العين نسبة إلى العالم) في العالم العربي، وفي العالم الإسلامي معاً القول إن العلمانية اختراع مسيحي، أو استقراء لأوروبا المسيحية التي أوجدت العلمانية حلاً للصراع الكبير الذي امتد أكثر من مئة عام بين الكاثوليك والبروتستانت، وجاء عمل الاستشراق ليؤكد أن العلمانية هي بالفعل من وجهة نظر استشراقية ابتكار مسيحي لا يمكن أن يطبق على التاريخ الإسلامي؛ لأن العلمانية موجودة في النص التأسيسي للمسيحيين الذي هو الإنجيل، ولا وجود لها في النصين التأسيسيين للإسلام اللذين هما القرآن والسنة معاً. ولكن عَلامَ يستند هؤلاء المستشرقون في دعواهم؟ إنهم يستشهدون بآية واحدة وجدت في الإنجيل، وهي قول المسيح (…) «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، واعتبروا أن هذه الجملة الوحيدة في الإنجيل ميزت بين حكم الدنيا وحكم الآخرة، وبين الدولة والدين، وبالتالي أمكن لأوروبا المسيحية أن تنجز العلمانية. ما وجدته في تاريخ الإسلام يعادل، بل يزيد بكثير عن هذه الجملة الإنجيلية المميزة بين الله وقيصر، ففي حديث الرسول؛ والمعروف بحديث تأبير النخل، كان الرسول ماراً بحي من أحياء المدينة، فسمع أزيزاً فاستغربه، فقال: «ما هذا؟» فقالوا: «النخل يؤبرونه» أي يلقحونه، فقال وهو الذي لم تكن له خبرة في الزراعة: «لو لم يفعلوا لصلح»، فأمسكوا عن التلقيح، فجاء النخل شيصاً، أي لم يثمر، فلما ارتدّوا إليه يسألونه، قال قولته المشهورة: «أنتم أعلم بأمور دنياكم (…) هناك حوالى 15 رواية تؤكد على هذا المنحى التمييزي بين الدنيا والآخرة، بين شؤون الدنيا التي يعلمها الناس، وشؤون الآخرة التي هي علم إلهي عند الله، وما أتى به الرسول فهو تركيز على الجانب الأخروي، وهذا في نص الحديث».
«العقل لا يكون عقلاً إلا إذا كان نقدياً» هذا ما أوصانا به جورج طرابيشي. لقد خسرت النخب الثقافية العربية برحيله علماً من أعلامها المبدعين العقلانيين.
الأخبار

 
داعية الفكر النهضوي في مواجهة «فقهاء الظلام/ خليل صويلح
فيما كان الآخرون يتزاحمون حول موقد الربيع العربي، كفّ جورج طرابيشي، يدّه مبتعداً عن هذه الوليمة المسمومة. أدرك الرجل باكراً، أن السفينة المبحرة بكل بيارقها على وشك الغرق. التفاؤل الذي أبداه مع هبوب الانتفاضات العربية بوصفها ثورات كبرى أنهاه بخشيته من خيبة كبرى، كأن تنزلق هذه الانتفاضات إلى إيديولوجيا دينية.
وهو ما ستكشفه الوقائع اللاحقة «فالربيع العربي لم يفتح من أبواب أخرى غير أبواب الجحيم والردّة إلى ما قبل الحداثة المأمولة والغرق من جديد في مستنقع القرون الوسطى الصليبية/ الهلالية»، كما سيشير في مقالٍ أخير له إلى أن ما يحدث في بلاده هو حرب أهليّة محمولة على غزو «هولاكي» جديد، لكن صبيان الميديا ودهماء الثقافة سيرجمونه بحجارتهم، مما اضطره إلى الصمت. مفكر نقدي بمقام جورج طرابيشي لا مكان له وسط لحظة لا عقلانية، كأنه لم يقرع جرس الإنذار مراراً بضرورة استعادة العقل في مواجهة «فقه القتل».
هكذا اتكأ على إحدى مقولات شكسبير باعتبارها جداراً استنادياً لأطروحاته العقلانية «ليس الهرطوقي من يحترق بالنار، بل الهرطوقي من يشعل المحرقة». مساجلاته مع أطروحة محمد عابد الجابري حول «نقد العقل العربي» مثال ساطع على رؤيته العميقة للتراث الإسلامي وتقليب التربة بمعولٍ حاد لنبشه وتصحيحه، طوال ربع قرن من النقاش والمراجعة، والإعجاب والتصويب، بإزاحة ما هو مزيّف. امتياز صاحب «اشكاليات العقل العربي» أنه لم يتوقّف في محطة فكرية أو ايديولوجية واحدة ويستأنس بها، فقد شهدت حياته انقلابات متعاقبة، من التعصّب الديني في صباه إلى نبذ المسيحية، ثمّ الالتحاق بالايديولوجيا القومية، مروراً بالوجودية، والماركسية، والتحليل النفسي، وانتهاءً بالليبرالية، ليصل ـــ في نهاية المطاف ــ إلى خيمياء معرفية، ورؤية موسوعيّة مركّبة، هي مزيج من هيغل وفرويد وسارتر وماركس، سوف يستثمرها مجتمعةً في سجالاته وأبحاثه التي ستنقله من نقد الرواية إلى نقد التراث العربي الإسلامي، وفي مقدمته الظاهرة الأصولية، بما يمكن أن نسميه الاجتهاد في مجابهة الجهاد. في «هرطقاته»، غاص عميقاً في ضرورة تجذير العلمانية والحداثة والديمقراطية في مختبر عربي صرف، معتبراً عدم وجود وصفة جاهزة لتحقيق الحداثة العربية، ومنبّهاً إلى خطورة الانزلاق إلى الطائفية والمذهبية والإسلاموية التي تعمل على «تهييج العاطفة بدلاً من استفزاز العقل». فقد كان على الدوام «داعية للفكر النهضوي» وذلك بمدّ الخيوط المقطوعة مع النهضويين العرب الأوائل، بقصد مواجهة «فقهاء الظلام»، واستئناف المشروع التنويري عن طريق العلمانية وحدها كعلاج لاختراق الطوائف والانعتاق من ميراثها الثقيل، كما أن شقّ الطريق نحو الديمقراطية يمرّ بـ «صندوق الرأس» لا صندوق الاقتراع. عنوان مثل «من النهضة إلى الردة» يختزل أحوال العقل العربي اليوم، أو ما أطلق عليه هذا المفكّر السوري مصطلح «العقل المستقيل» استجابة للتحديات الكبرى التي يواجهها التفكير في صراعه مع التكفير.
سنأسف كثيراً بإهمال مكتبة جورج طرابيشي الموسوعية بإشراقاتها المتفرّدة التي تربو على نحو 200 كتاب، في حقولٍ مختلفة، كان آخرها «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث»، لتتفوّق عليها فتاوى الكتب الصفراء، وغبار دعاة الفتنة، وانقلاب بعض العلمانيين القدامى على تاريخهم القديم، لمصلحة دفء حضن الطائفة، وفوائد الزبائنية السياسية في احتلال الواجهة.
رحل المهرطق الأخير حزيناً، وهو يشهد المذبحة العمومية لجغرافيا ممزّقة وتاريخ منهوب، وعقل نائم، وقد تيقّن بأن إخفاق الحداثة التي نافح عنها طويلاً هو محصلة واقعية لغياب الفلاسفة. فاختتم حياته بقوله «إن شللي عن الكتابة، أنا الذي لم أفعل شيئاً آخر في حياتي سوى أن أكتب، هو بمثابة موت، ولكنه يبقى على كل حال موتاً صغيراً على هامش ما قد يكونه الموت الكبير الذي هو موت الوطن».
الأخبار

 
طرابيشي/ الجابري: نقد القسمة لصالح الوحدة/ حسن نصور
ليس في مقدورنا، بطبيعة الحال، أن نشمل مفكّراً وناقداً ومترجماً عربياً بحجم جورج طرابيشي (مواليد حلب 1939-2016) في عجالة، يُلزمنا إياها حدثُ موته. من نافل القول إنّ هذا المفكّر هو، بوجه من الوجوه، من المؤسّسين في تكريس وعيّ نقديّ، فارق على الصعيد المنهجيّ، فيما يتصل بالرؤية إلى التراث أو البنى التفكيرية العربية.
تلك الرؤية التي تشعبت مسالكها في عقود ما بعد حقبة «النهضة» ربطاً ــ في الغالب ــ بإشكالية الحاجة إلى الحفر في مسألة الهوية العربية الاسلامية، واتصالاً بتيارات فكريّة أكاديمية غربية داهمة لم يعد بالامكان إغفال أدواتها وتصوراتها المنهجية في التعامل مع مدونات حضارية مؤسّسة، فكيف بحضارة تأسست على النصّ، نعني «حضارة النصّ».
يتحدث طرابيشي في دوافعه الأساسية للنقد، ابتداءً من محمد عابد الجابري (1936-2010) في مشروعه نقد العقل العربي، عما يشبه ملاحظات أولية على أساليب الجابري في ليّ عنق المتون التراثية، بتراً أو إغفالاً، في سبيل تقرير استنتاج ذهنيّ مسبق فيما يشكل، في العمق، ومن وجهة نظر منهجية، افتئاتاً على المتن. هذا الدافع صار في المقبل من السنين معارضة بحثية عميقة للمباني التي تأسست عليها أفكار الجابري في مشروع «نقد نقد العقل العربي» (صدر في أربعة مجلدات منذ 1980).
يتمحور نقد طربيشي للجابري في قسم وازن منه أو نقول النقد على الثيمة الجوهرية في تصوّر الجابريّ، على تلك الاستخدامات النصيّة التي تسمح للجابري في إقامة ذلك التمفصل الفلسفيّ/ التفكيريّ الحاد ربطاً ببنية العقل العربي بين مشرق ومغرب أو لاعقلانية مشرقية/ عقلانية مغربية. هذا التمفصل هو، في الجوهر، نقد اللاعقلانية المشرقية التي ــ بحسب الجابري ــ ليست من التكوينات البنيوية في العقل العربي بل هي، بوجه من الوجوه، عمليات دخيلة بتأثيرات من دوائر فكرية (غنوصية/ إشراقية). دوائر تبلورت وشكلت تماسات مع بنية هذا العقل في حقبات معروفة وتحديداً في القرنين الرابع والخامس الهجريين. نزع العقلانية عن المشرق لصالح المغرب العربي (ابن باجة/ ابن الطفيل/ ابن رشد) سوف يكون متكئاً، بحسب طرابيشي، على ابتسارات جابرية تصيب متوناً نصيّة تراثية، لا حصر لها، في سبيل القيام بانتزاع فلاسفة العقل التراثيين المشرقيين من تأسيساتهم الثقافية والفكرية المشرقية لصالح دمجهم في ما يلائم تصوراته للبنية العقلية العربية.
ينجز صاحب «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث» (2010)، منهجيته النقدية المعارضة على فكرة تأصيل سمات بنيوية عقلانية عند فلاسفة مشرقيين مركزيين (ابن سينا) لا يمكن حجبها، وعلى تظهير تهافت استخدام الجابري لمسانيدَ وحجج نصيّة أو منطقية. نتكلم عن براعة نادرة في استحضار كم هائل من النصوص وفي مقابلتها، ومن ثم إنجاز عمليات تدقيقية تسلط الضوء على مفاصلها فيما يشبه تفكيكاً للتأصيلات الجابرية ونقداً لتقسيماته المركزية. تقسيمات، تصير في الغالب مكشوفة لناحية تلك الآليات المتهافتة التي يجيّر بها الجابري التراث من دون الانتباه إلى أن التراث النصيّ نفسه بطبقاته المتعددة ومساحاته المتداخلة، زمانياً ومكانياً، وتماساته وشروحاته على النص الاصليّ المؤسس، لا يمكن أن يكون محصوراً في تكويناتٍ بنيوية تغفل تلك التلاقحات والتمازجات المفهومية الحديثة بين ما هو «عقلاني» وما هو «لاعقلانيّ» في الزمان والمكان ضمن حضارة تحيل، مراراً وتكراراً، الى حقيقة نصّية سوف تظل قابلة للتجلي في التاريخ بوجوه متعدّدة. (نشير مثالاً لا حصراً إلى اللقاء الشهير بين ابن رشد وابن عربي والسؤال الوصول إلى الحقيقة).
يقترف الجابري، كما يفند طرابيشي إزاحات ساطعة بحق التاريخ خدمة للقسمة المركزية، إذ يسعى إلى إقامتها نفياً لوحدة العقل العربي الاسلامي. ولعل المثال الفارق في هذا الحيز وربطاً بتظهير بنية الادلجة المذهبيّة في المشروع هو الشق المتعلق بدلالة أو بـ «تعبيرية» المنافسة العلمية المغربية – المشرقية. تعبيرية عن الصراع التاريخي للدولة العباسية السنية مع خصومها الباطنيين اللاعقلانيين تحديداً في الحقبة البويهية. نتكلم عن أخطاء منهجية يخيل أنها مقصودة، في الغالب، تتصل بالازاحة التاريخية للعصر البويهيّ في النصف الثاني من القرن الرابع إلى العصر السلجوقي في النصف الثاني من القرن الخامس أي بمسافة لا تقل عن قرن، فضلاً عن إزاحة «الشيخ الرئيس» المتوفّى سنة 428 للهجرة من موقعه الفعلي في الثلث الاول من القرن الخامس إلى موقع متوهّم هو الثلث الثالث من القرن نفسه. كل ذلك بحسب طرابيشي، ليصير ابن سينا ناطقاً ايديولوجياً بلسان الباطنية الذين كانت الدولة العباسية بعد انتقالها من الهيمنة البويهية الشيعية إلى الهيمنة السلجوقية السنية قد دخلت فعلاً في صراع حياة أو موت معهم.
بطبيعة الحال، تقف مجمل النتاجات، على تفاوتاتها المنهجية ومنابتها المصدرية المتنوعة، في النقد ونقد النقد على أرضية كونها تجابه تيارات القراءات السلفية للتراث لصالح قراءت تاريخانية/علميّة تحيل في الراهن إلى القدرة على الانخراط والاجابة عن أسئلة الهوية والدولة العلمانية والمدنية (أركون، نصر ابو زيد، علي حرب…) بهذا المعنى، لا يمكن، بحال من الأحوال، تجاوز منهجية طرابيشيّ العامة، لناحية قدرته، خلال الحفر التقادمي في المتون، على تظهير الممارسات والاكراهات التاريخية/ السياسية (وتأثيراتها الثقافية)، بشكل مفصل، على هذه المتون. إكراهات تسمح ــ إذ تكون مظهّرة على هذا النحو ــ في استيعاب راهنية الطرائق في إنتاج دلالات اعتباطية للنصوص في سبيل إحالتها على مجمل الصراعات الراهنة وتحديداً الصراعات التي تتصل بمسألة الهوية. طرائق يدفع البحث الاكاديمي الرصين الذي يفترض أن يستجيب للشرائط والمناهج والموضوعية ثمنها الاول. في هذا الحيز، نفهم، في العمق، بعد استيعاب نقد النقد لطربيشي، سياقات الادلجة السياسية المذهبية والثقافية الصراعية قديماً في الحقبة البويهية في الخلافة العباسية، وراهناً في حقبة الثمانينيات لكون بنية العقل العربيّ الجابرية كمشروع تأسيسيّ تأصيليّ سوف يحيل بالضرورة على تفريعات والتواءات عملية الادلجة.
الأحبار

 
ماذا تعلّمت منه؟/ علي الديري
في شباط (فبراير) 2011، كنت رشحت كتاب «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة» ليكون كتاب جلستنا الثقافية الشهرية في مقهى الصديق كريم المدحوب (بيستاشيو) في المنامة. كنت متحمساً كثيراً للكتاب، وأردت من خلاله أن أثير جدلاً فكرياً ودينياً حول التوظيف السياسي لمدونات الحديث، وكيف لعبت دوراً كبيراً في صناعة المذاهب الدينية، والاحترابات الطائفية.
كان الكتاب ممنوعاً في بيروت والخليج، وحصلت على نسخة منه عبر الصديق محمد المبارك الذي تكفل بإحضاره لي من الخارج.
لقد سبقنا حدث «14 فبراير» في البحرين، ودخلت قوات الجيش السعودي في 16 آذار (مارس) 2011 فصرنا خارج الحلقة الثقافية. حدث ما يشبه الشلل الثقافي أو الموت الذي أوقف كل شيء. ولعل جملة جورج طرابيشي الذي ختم بها شهادته حول محطات تحوله الست معبرة تماماً عن لحظتنا: «يبقى أن أختم فأقول إن شللي عن الكتابة، أنا الذي لم أفعل شيئاً آخر في حياتي سوى أن أكتب، هو بمثابة موت. ولكنه يبقى على كل حال موتاً صغيراً على هامش ما قد يكونه الموت الكبير الذي هو موت الوطن».
بالنسبة إليّ، لم يكن رحيل طرابيشي موتاً صغيراً، فمساحة كبيرة من حياتي الفكرية مدينة له. تعلمت من كتبه ما فتح لي مغاليق الفلسفة ونصوص التراث وتاريخ المعرفة. كان مشروع «نقد نقد العقل العربي» بمثابة الفتح المعرفي. فبقدر ما كان خطاب محمد عابد الجابري آسراً، فقد كاد أن يغلق باستنتاجاته إشكالات فهم تراثنا وحاضرنا. وشخصياً، ما كان لي أن أذهب في أطروحتي للدكتوراه في المجاز الفلسفي والصوفي (التفكير عبر المماثلة) عند إخوان الصفا وابن عربي، لولا الثقة التي اكتسبتها من خطاب طرابيشي في نقده للجابري الذي وقف موقفاً حاداً من كل معرفة غير مؤسسة على المنطق الأرسطي، واعتبارها عقلاً مستقيلاً أو تفكيراً خارج العقلانية، وعزو أسباب تخلفنا لها.
في مقابل هذا الموقف الحاد من المماثلة وممثليها عند الجابري، وقف جورج طرابيشي على الضد من ذلك، وأعاد للمماثلة اعتبارها المعرفي، واعتبر ممثليها في الثقافة العربية نموذجاً من نماذج الاستنارة التي أعطت لحضارتنا خصوبتها المعرفية.
أحد أبرز ممثليها طبعاً هو ابن عربي من جانب ما، وإخوان الصفا، وهؤلاء أيضاً ما كنت أتجرأ على دراسة خطابهم الفلسفي باعتبار تفكيرهم الفلسفي عبر المجاز أحد أشكال الإبداع والاستنارة والمعرفة العقلانية، لولا طرابيشي. وكم كنت فرحاً بقراءة المحطة الخامسة المتعلقة بإخوان الصفا في شهادة طرابيشي على تجربته. فقد بدأ مشروع نقده للجابري من هامش صغير يحيل إليهم، فأخذ هذا الهامش يكبر ويكبر حتى صار مشروعاً كبيراً اسمه «نقد نقد العقل العربي».
عبر «نقد النقد» هذا، أدركت الأبعاد المعرفية لمجاز إخوان الصفا (العالم إنسان كبير) ومجاز الفيض. كان الجابري يعتبر هذه المجازات دليلاً على الغنوصية وغياب العقل وضياع الفلسفة، بل الجابري هرمس، كل من استخدم المجازات التي تمثل الكون كلاً واحداً متصلاً متبادل التأثير، كما هو الأمر مع جابر بن حيان الذي قال: «إن في الأشياء كلها وجوداً للأشياء كلها». وكما فعل مع صاحب كتاب الفلاحة النبطية الذي قال: «الإنسان شجرة مقلوبة، والشجرة إنسان مقلوب»، إضافة إلى ابن سيناء.
مع طرابيشي، عرفت أن مجاز «العالم إنسان كبير» كانت مشاعاً عاماً في الفلسفة اليونانية والثقافة الهلنستية. كذلك كانت ملقاة في الطريق العام للثقافة العربية الإسلامية، من دون أن تكون علامة خاصة على التهرمس. وقد استعملها الكندي، وابن باجة، والجاحظ، والتوحيدي. وهي تعبر عن آلية من آليات التفكير الفلسفي والعقلاني.
ربما يكون الأهم من كل ذلك، أنني مدين لطرابيشي بفهم مصطلح فلسفي صعب جداً ورد في نص أرسطو واستخدمه إخوان الصفا بغزارة، كما استخدم في نصوص تراثنا الفلسفي والصوفي، وهو «العقل الفعّال». قدّم طرابيشي مراجعة نقدية لإشكالات مفهوم العقل الفعّال في نص أرسطو نفسه، ونصوص الشرّاح والفلاسفة بعده. وقد أفدت من هذه المراجعة إفادة كبيرة في فهم مجازات إخوان الصفاء المتعلقة بفيض العقل الفعّال.
إن لهذا الفهم أهمية كبيرة، في تقييم تراثنا. فقد وضع الجابري في مشروعه نصوص التصوف والفلاسفة المشرقيين كابن سيناء في خانة اللاعقل واعتبرها مسؤولة عن غياب العقلانية والتخلف وعدم قدرتنا على الوصول إلى عصر النهضة.
سيظل طرابيشي عالماً كبيراً، وستضرب شجرته بجذورها في فضاء ثقافتنا (الإنسان شجرة مقلوبة) وستثمر يوماً وتحيل هذا الموات نشأة مستأنفة أخرى.
* كاتب من البحرين.

 
جورج طرابيشي آخر المفكرين التنويريين العرب!/ بول شاوول
رحيل جورج طرابيشي في منفاه الباريسي كأنه وداع طويل لآخر المفكرين العقلانيين العرب في القرن العشرين. إنه التنويري بكل ما تحمل الكلمة من معنى: تنويري حداثي عنيد، في زمن محاولات طمس التنويرية، والحداثة والحضارة العربية، بنوافذها الفلسفية والفكرية (من المعتزلة إلى ابن رشد…)، رافق كل ما صنع القرن العشرون، تماهى به أحياناً كالفكر القومي، ثم الماركسية، ثم الهيغلية، من دون أن ننسى الفرويدية وصولاً إلى نقد العولمة. لكن، إذا كان جورج طرابيشي قد غَزُر في عطاءاته ونوّع في آفاقه، وتداخل في العديد من الانتاجات الفلسفية، والتراثية، والإيديولوجية، فإن مساره في كل هذه «الأدغال» تميز بالنقد العقلاني. فالفلسفة عنده نقد وليست لعبة مفاهيميات مجردة، وكذلك التحليل النفسي، بل إنه وضع توجهاً طموحاً «نقد نقد العقل العربي» بموسوعته الشاملة رداً على الجابري وسواه. فهو العقلاني وما عقلانية بلا مهمة نقدية، تحليلية أو تفكيكية، صارمة. والمهم أن جورج طرابيشي لم يكتف بوصف هذه الظواهر الفكرية والفلسفية والنفسية في القرن العشرين وممثليها (سارتر، سيمون دو بوفوار، ماركوز..) بل إنه استمد بعض مناهجها وقارب بها المجتمع العربي والعقل العربي… ومارس سمات الفرويدية ليعالج بها بعض القضايا العربية، الراهنة والتراثية. وهذا منحى جديد. لكن إذا كان جورج طرابيشي تعدد في مرجعياته وإحالاته بين ماركسية أيديولوجية، وفرويدية مكرسة، وهيغلية تحت المجهر، فإنه، وبحيوية فكرية فائقة، وبثقافة تراثية قديمة، وغربية متفتحة (خاضعة للحس النقدي)، تمكن من استخلاص منهجية مشرعة (غير مغلقة) لمقاربة التراثين العربي والإسلامي، بذهنية البحث في إنجازاته الفلسفية، والنفسية، والأدبية. فهو لم ينف التراث كما فعل العديد من الحداثيين «الأصوليين»، ولم يستسلم للمعطيات الجديدة، كما فعل بعض المفكرين، لكنه وقبل كل شيء، اعتبر أن العقل العربي تجاوز تلك التحديات الأفقية و»الحتمية» بصفتهم عاجزاً عن استيعاب الفكر والفلسفة والعلم. دافع عن التراث العربي بمخزونه التنويري، والعقلاني، سواء في العصر العباسي أو الأندلسي… لكن ذلك دفعه أيضاً إلى ممارسة نقدية على مجمل مطارحات القرن العشرين العربي، بأدوات عقلانية، بعيداً من التخريف، والأسطرة، أو النفي أو التعظيم.
إنه جورج طرابيشي المفكر الفيلسوف، والمحلل النفسي، والمتبحر التراثي، والمتعمق في ثقافات عصره، وإذا كان ذلك واضحاً في كتاباته النقدية في مستوياتها المختلفة، فإن ترجماته الوعرة التي خاض بها أصعب النصوص التحليل-نفسية والفرويدية والهيغلية والماركسية، أثرت المكتبة العربية، وملأت فراغاتها. فمن ترجماته الفلسفية «تاريخ الفلسفة» لإميل برهييه (8 مجلدات) و»الإنسان ذو البعد الواحد» لهربرت ماركوز و»الفوضى والعبقرية» لسارتر، و»المدخل إلى علم الجمال» لهيغل… ومن الكتب النفسية «الحلم وتأويله» و»مستقبل وهم» و»النظرية العامة للأمراض العصابية» و»نظرية الأحلام» و»موسى والتوحيد» و»الطوطم والحرام» وكلها لفرويد…
برحيل جورج طرابيشي (1939 2016) تخسر الثقافة العربية أحد أركانها التنويريين والتقدميين والعقلانيين… والمنفتحين بقوة المعادلة بين التراث والحداثة، وبين الـ»نحن» و»الآخر»… إنه آخر المفكرين التنويريين الكبار.
المستقبل

 
جورج طرابيشي: رحيل “شغّيل الفكر”
توفي مساء الثلاثاء 16 آذار/مارس 2016 المفكر والناقد والمترجم السوري البارز جورج طرابيشي في مكان إقامته في العاصمة الفرنسية باريس عن عمر ناهز 77 عاماً مخلفاً عشرات الكتابات والترجمات متعددة المجالات المعرفية.
نقرأ في سيرته الذاتية أنه ولد في حلب عام 1939 لأسرة “عادية”. انتقل إلى دمشق حيث درس الأدب العربي وحصل على الإجازة في التربية من جامعتها ثم عمل مديراً للإذاعة الوطنية في العاصمة بين 1963 و1964 وقت كانت البلاد تشهد تحولات سياسية واجتماعية هامة تمثلت في وصول حزب البعث إلى السلطة عبر انقلاب آذار/مارس من العام نفسه.
ترأس تحرير مجلة “دراسات عربية” بين 1972 و1984 ثم عمل محرراً رئيسياً في مجلة الوحدة بين 1984 و1989 عاش خلالها فترة في لبنان ثم اضطر لمغادرته، بسبب من ظروف الحرب الأهلية، إلى مستقره الأخير في فرنسا متفرغاً للبحث والتأليف مقلاً في الظهور الإعلامي. ساهم في تأسيس “رابطة العقلانيين العرب” في باريس مطلع الألفية الثالثة وشغل منصب أمينها العام.
من الاشتراكية العربية إلى الماركسية إلى التحليل النفسي إلى “محمد عابد الجابري”، خط جورج طرابيشي لنفسه طريقاً فريداً تميز خاصة بالتنقلات العقائدية المتنوعة والتي لم تكن مراحلها المتتابعة في حقيقتها سوى تراكمات على صعيد الفكر وتطوره لدى قامة كبرى بحجم طرابيشي. من بعثي قومي عربي اشتراكي (سجن لاحقاً في سجون البعث) إلى ماركسي راديكالي حتى مطلع الثمانينات (أثمرت على الخصوص كتابات “الاستراتيجية الطبقية للثورة” 1972 حتى “النظرية القومية والدولة القطرية” 1982) إلى قارئ نهم ومؤلف بارع في التحليل النفسي وناقد فائق البراعة لأعلام الأدب العربي الحديث.
“صداقة لدودة” جمعته بالفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري بدأت مع قراءته كتاب الأخير المؤسس “نقد العقل العربي” (1982-2001)… الكتاب الذي “لا يثقّف فقط بل يغيّر” والذي أظهر نحوه طرابيشي حماساً منقطع النظير ما لبث أن تحول شكاً ثم تدقيقاً ثم مقاربة نقدية ظهرت في خمسة مجلدات في تسعينات القرن الماضي لم يجد لها طرابيشي عنواناً أكثر مباشرةً ووضوحاً من “نقد نقد العقل العربي”.
رغم أن عقدين ونصف من حياة طرابيشي الثقافية تميزت بتقارب الفكري والسياسي، النظري والتطبيقي، الفكرة والبراكسيس، عبر انتماءاته الحزبية ومقارباته التغييرية، إلا أنه ومنذ بداية اهتمامه بمناهج التحليل النفسي ثم عمله الضخم حول الجابري وبعده كتاباته حول الإسلام والعلمانية، كان واضحاً أن طرابيشي بات يولي أهمية كبرى، أولية، مركزية، مؤسّسة لما عداها لـ”تغيير العقليات، تغيير البنية الداخلية للعقل، وليس فقط البنية السطحية السياسية أو الايديولوجية”. هذا الانتقال من أولوية الظرف الاجتماعي في صناعة الكيانية الفكرية للأفراد (بنية فوقية وتحتية) إلى التوكيد على أولوية “تغيير العقلية في المجتمع” العربي المسببة للانحطاط والتأخر قوبلت بالنقد في بعض الأوساط الفكرية وبالترحاب الفائق في بعضها الآخر.
وتجلى هذا الانقسام إلى معسكرين في أوساط نخبة الكتاب العرب خصوصاً بعد “الربيع العربي”. ففي الوقت الذي أيد فيه الجميع (بما فيهم طرابيشي الذي كان سيرفض حتماً تصنيفه في أي من المعسكرين) الاحتجاج الشعبي، تراوحت آراء أصحاب مقولة “تغيير العقليات” بين الذم الشديد، بعد فترة وجيزة على قاعدة أن الشعوب غير جاهزة، الديمقراطية والإسلام غير متوافقين، الثورة الثقافية أولاً… وغيرها، وبين الصمت وانتظار ما ستؤول إليه الأوضاع بالتوازي مع الانكفاء واليأس والانسحاب من المشهد أو “الشلل” كما عبر طرابيشي نفسه.
يبقى أن جورج طرابيشي كان “معلماً” بالمعنى الذي يقدمه جاك رانسيير في كتابه “المعلم الجاهل”: دالاً على مناهج مشيراً إلى مفاتيح دون تلقين أو تحفيظ ودونما رغبة في أن يترك وراءه “مشروعه الخاص” الذي سينير الدرب… الخ. المعلم المعترف على الدوام بنقصه (فضيلته الوحيدة هي الجهل!) والمؤمن، كما يقول رانسيير، بأن “التعلم كما الحرية لا يعطى بل يؤخذ”. هو “شغّيل الفكر”، كما يوحي اسم “جورج” اليوناني الأصل والذي يعني “شغّيل الأرض”.
أفضل الطرق على الإطلاق لتقديم جورج طرابيشي هي دعوة مفتوحة إلى قراءة مؤلفاته التي ناهزت 30 كتاباً والتعرف على ترجماته (أكثر من 100 كتاب) للإحاطة بجوانب فكره والتعلم معه في سبيل تجاوزه وإنتاج الجديد.

 

 

 

جورج طرابيشي… شرق وغرب وما تبقى من الخراب/ رامي أبو شهاب
الكتابة فعل لإلغاء الفناء، أو محاولة لإدراك شيء من هذا العالم، وكنه الوجود، كما عمقه وغموضه، وفي معظم الأحيان ضآلته وسطحيته، ولعل هذا يكاد يقترب بصورة أو بأخرى من منجز جورج طرابيشي، الذي كان من أشد المفكرين العرب إحساساً بما ينطوي عليه العالم عامة، وعالمنا العربي خاصة، من إشكاليات عميقة، بدءاً من أزمة العقل العربي، مروراً بأزماته الحضارية والفكرية المستعصية، وانتهاء بكتل الهزائم التي ما فتئت تتوارد واحدة تلو الأخرى. طرابيشي كان من العقول العربية التي سعت جاهدة إلى توصيف، أو تحليل هذه النواتج عبر الحفر المعرفي في تكوين الإنسان العربي، وهذا ما جعل الرجل متعدد القلق، أو متأملاً كما ناقداً، ومترجماً، وباحثاً، وفيلسوفاً، وأكاديمياً، وما إلى ذلك، فالرجل كان أشبه بمن يضرب في كل اتجاه للتخلص من فائض القلق والتساؤلات التي على ما يبدو قد ثقلت عليه، فسعى بكل من أوتي من قوة لاكتناه طبقات وحقول معرفية متعددة كما يتضح من إنتاجه الضخم.
لا شك أن طرابيشي ينتمي إلى ذلك الجيل الذي بدأ كبيراً، كما كان مؤمناً بأن هذا العالم ينطوي على قيم حقة، بالتوازي مع إيمان بمعنى العروبة التي يمكن أن تسير قدماً، إنه تفاؤل غير مكتمل، لكون المعطيات المتوفرة بدت في عصره غير مجدية، غير أن التفاؤل كان مرده الإيمان بأن الثقافة، يمكن أن تقود إلى المثالية المطلقة، حيث الحرية والعدالة والمساواة. وكي نتمكن من المضي، كان لا بد من البحث في طبقات من العقم الفكري، ومحاولة إذكاء القدرات العقلية الكامنة في الوعي العربي الذي سكنه العديد من الإرهاقات النفسية والعصبية، ولهذا شرع طرابيشي في مشروع فكري، يهدف إلى مقاربة العقل العربي، وما طاله من نقد، ولا سيما كتابات محمد عابد الجابري، وعلى الرغم من أن هذه المشروع كان محورياً، غير أن طرابيشي كان فاعلاً ومميزا في عدد من أعماله التي شكلت وعياً جديدا من خلال مقاربات في مجال النقد الأدبي، ما يجعلنا نعدّ عمله «شرق وغرب ـ رجولة وأنوثة» من المتون التي أثرت الثقافة العربية، بل إنها تركت كل الأثر على مشهدية النقد العربي عبر مقاربة تستند إلى تلمس أدوات الدراسات الثقافية، والخطاب ما بعد الكولونيالي، حتى قبل أن تتبلور هذه التيارات في البيئة النقدية العربية. وعلى الرغم من أن مقاربة طرابيشي بدت ذات منحى نفسي- اجتماعي في هذا العمل النقدي المركزي، غير أنها استندت إلى قدرة مدهشة على تطبيق مناهج معرفية متعددة، وهذا ينم عن قدرات في استثمار المخزون المعرفي الهائل في الذات العربية، وتكونها، فضلاً عن صوغ وعيها، ولكن في ضوء الآخر.
لقد شرع طرابيشي الباحث الموسوعي في قراءة نقدية عربية لعدد من الروايات العربية في ضوء ثنائية الشرق والغرب، أي تلك النزعة الذكورية في مجال تأنيث الآخر بالاستناد إلى موروث ذكوري لا يخضع فقط للمنطق الشرقي، بل يتعداه إلى حدود الكوني، كما يتبدى في مقدمة الكتاب، غير أن طرابيشي سرعان ما قاد وجهة بحثه نحو اكتناه الغربي في مجال حيوي، يتصدره الشرقي في محاولة من تأنيث الغرب، بالإضافة إلى محاولة الاقتصاص منه عبر انتهاكه جنسياً، غير أن هذا لا ينتج بفعل تكوين نفسي ثقافي جيني، كما أنه ليس نتاج تماثل عصابي خاص بالشرق فحسب، إنما ثمة عناصر مضافة إلى ما سبق، وتتمثل بالماضي، أي الانطلاق من ذلك الموروث لمتخيل الذات الذكورية الشرقية التي فقدت قواها، بالتوازي مع ذلك الصدام الحضاري بين الشرق والغرب، ممثلاً بالتركة الاستعمارية، ما أنتج مركبات نقص عانت منها الذات الشرقية في مواجهتها للآخر الغربي غير البريء من عين الداء.
إن التّنازع على القيمة الذكورية أساس الانهيار القيمي الذي يعاني منه عالمنا المعاصر، لقد استجاب طرابيشي إلى فهم متبصّر حين استعان بمقولة فرانز فانون حول قيم الانتهاك الممارسة والعنف من قبل الذّات المستعمِرة على الذات المستعمَرة، والعكس بالعكس، ولكن ثمة فارقا واحدا، ونعني مجال التنازع على مركزية الذكورة، ومحاولة تحييدها عن الطرف الآخر، إنه فعل استعلاء عرقي، وطبقي وثقافي. هذا المجال لفهم هذه النتائج لما يكن ليتأتى لولا اختبار واكتناه النص، ولا سيما الرواية التي عبرت عن ذلك بجلاء. إن أداة التحليل النفسي تبدو فاعلة حين نوجه منظوراتنا النقدية إلى هذه الوجهة، فإنها بلا شك لن تخيب، ولن تكون ضرباً من التأويل؛ ولهذا بدت كتابات جورج طرابيشي باعتبارها نسقاً متكاملاً من الفهم للذات، وقدرة متبصرة، وصلدة في تأسيس تحليل ذلك النموذج العصابي للذات العربية التي ترتهن إلى الرغبة بالانتقام، أو إلى استعادة فعل التحكم، أو السلطة، وإلى يومنا هذا، ما زال عالمنا يحتكم إلى هذا التنازع على قيم الذكورة بوصفها سلطة، تسمح بأن تكون قائداً لا منقاداً، مهيمناً لا مهيمناً عليه، هكذا توصل طرابيشي عبر عدد من الروايات لكل من عبد الرحمن منيف، وتوفيق الحكيم، وسهيل إدريس والطيب صالح، وغيرهم. هذه الأعمال التي عدت مراكز قوى في المدونة السردية العربي لكونها قاربت ما لم ندركه إلا عبر الأدب بوصفه مرآة لذواتنا، وهذا يحيلنا إلى أثر التكوين السردي، وقدرته على حمل التمثيلات، وتشخيص مراكز العطب في الوعي الثقافي لأمة ما، فالكتابة في حدود الإبداع تبدو أكثر ديمومة من كافة المدونات الفكرية والنقدية، وغيرها، وهو ما شكل حسرة لدى كاتب ومفكر بارز كرولان بارت الذي أدرك محدودية النقد وديمومته.
إن مقاربة طرابيشي لهذه الروايات لم يكن إلا رغبة في إماطة اللثام عن طبقات من قدرة العقل العربي على التوازن، والذي ما زلنا نعاني منه أشد ما يكون في السنوات الأخيرة، إن الماضي السلطوي سواء أكان ناتجاً بفعل الاستعمار، أو بفعل السلطة الوطنية، والطبقة، والنخب، ومحتكري الخطاب سوف يؤدي لا محالة إلى إنتاج أفعال من الانتقام، ربما يرتد جزء منها إلى الذات الجمعية، ولنقرأ شيئاً من هذا التوصيف في عبارات لطرابيشي يقول فيها: «وزوال الاستعمار بشكله الاستيطاني والاحتلالي المباشر، لا يغير كثيراً من طبيعة العلاقات بين المستعمر السابق والمستعمر السابق، فالذكريات ما تبرح حية، دامية محرقة، والمشاعر ما تزال متأججة، والاستغلال الاقتصادي الإمبريالي الجديد وغير المباشر ما يفتأ يقوم بدور الاسترقاق الكولونيالي المباشر نفسه، ثم إن الأمة المستعمرة سابقاً ما تزال، بفعل عملية المثاقفة، أي استرداد ثقافة المتروبول، تحس إحساسا ساحقاً بدونيتها « المؤنثة» إزاء «الرجولة» ثقافة الغرب وفحولتها». إن إشكالية العقل العربي لو أردنا أن نضيف جملة تفسيرية في كتاب جورج طرابيشي، تكمن في أن الشرق لا يرغب في أن يغادر الماضي المتصل بذهنية الذكورة، وهنا لا نقصد تلك القيمة المعرفية الممثلة للخطاب بتكوينه التاريخي، إنما نعاني الماضي بوصفه ذاتاً، تكويناً يحيل إلى معنى بذاته، فنظرتنا للماضي يشوبها اختلال نفسي عميق، فهي بمثابة ذاكرة تسكن جسداً، غير أن هذا الجسد كان قائماً أو مميزاً بذكورية مفرطة، أو حتى بناء ذهنيا استيهامياً عميقاً، يهدف إلى إنهاء الآخر، حتى لو كان هذا الآخر بمعنى المخالف بمفهومه المطلق، ومن هنا، فقد تحولت الذات بتكوينها العصابي إلى نزعة لتدمير الذات التي بدأت تتشظى عربياً، فالإشكالية لم تعد تقصر على ذات مستعمِرة أو مستعمَرة، إنما بدأت تنحو، وتطال كل شيء، فالذات العربية بدأت تأكل ذاتها، وهذا ما سوف يقود إلى تلاشيها حضارياً، ولكن شيئا فشيئاً.
ما زال الشرق شرقا، وما زال الغرب غرباً، بل إن الشرق أضحى أكثر شرقية، والغرب أكثر غربية، حيث الكل يتنازع الذكورة الزائفة، والعالم بات مجالاً لتأنيث المقابل، الآخر، ولعل طرابيشي لم يغادر الحقيقة حين أدرك، وهو يضع كتابه «شرق وغرب» قبل أكثر من (39) عاماً إلى أن المثاقفة قادت إلى المزيد من العنف نتيجة الإحساس بالعنة الثقافية، كون التثاقف قد كشف عن ضعف المستعمَر، فكان لا بد من استجلاب ذكورة الماضي، غير أن مثاقفة يومنا هذا، تبدو أشد وطأة وجنوناً، إذ لم تعد مثاقفة، إنما أمست عالما تقوضت جدرانه، لا حدود فيه سوى ببناء جدران إسمنتية كما يرغب دونالد ترامب، وكما تفعل إسرائيل، لقد تضاءلت المسافات الفاصلة، مما أحدث تسارعاً بفعل قوى العولمة التي بدت ساحة لتسويق الأفكار، وإعادة نقلها وتداولها، وهكذا باتت العوالم الافتراضية لاعباً منتجاً في تكريس وفهم تلك النزعات العصابية، وتداول معنى الذكورة، ولكن على مستوى دول، أو ثقافات، أو أمم، إنها أمراض على مستوى الدول.. كما يقول فرانز فانون، لقد بات هذا مجالا حيوياً لأي جماعة، تفترض أنها تمتلك منظورا لتصدير الذكورة، وتأنيث الآخر، أو بعبارى أخرى أن أكون ليموت الآخر.
حين وضع طرابيشي كتابه كان يحلل نصوصاً، حملت مواجهات مبكرة مع الغرب، فالذات الشرقية أدركت حدودها بوصفها ذات فاعلة أصابت جزءاً من الحضارة، إذ هي راحت لتكتشف الحضارة، فتلقت صدمة تتمثل بتفوق الآخر، واستعلائه، لقد كان هذا متحققا تبعاً لبدء صدور تلك الأعمال قبيل منتصف القرن العشرين، حيث كانت المواجهة الحضارية بين الشرق والغرب تحتكم إلى منظور قريب قوامه تجربة استعمارية دافئة، ووعي شرقي متزامن بمجال نهضوي طارئ وجديد، غير أن المواجهة الحضارية لم تعد تحتكم إلى سياقات واختبار، إنما بدت أشبه بحالة من السيولة، أو تلك الكتل الشمعية التي احترقت، وتداخلت مكوناتها لتنتج عالما أشبه بتشكيل غير متعين، مخلوق مشوه، لقد بات حرمان شخوص روائيين كتوفيق الحكيم، والطيب صالح، وسهيل إدريس، وعبد السّلام العجيلي، وعبد الرحمن منيف ما هو إلا فعل هامشي مقابل ما نشهده اليوم من حرمان لا جنسي فحسب، إنما حرمان سلطوي مدمر، أو مزمن. ومما يلاحظ أن المقاربة الأخيرة لطرابيشي في كتابه قد وجهت لرواية عبد الرحمن منيف «الأشجار واغتيال مرزوق» التي تؤرخ لما بعد الحقبة الاستعمارية، أي أنها إحالة للشرق، أو الذات العربية التي تعدّ نتاج هزيمة 1967 … ما أوجد نموذجاً لشرق مستقل، ولكنه مستبد جداً. لقد رحل جورج طرابيشي بعد أن ترك إرثاً كبيراً، ولكنه رحل، وما زال في نفسه شيء من رغبة لفهم هذا العالم، وتناقضاته، ولكنه رحل أيضاً مع الكثير من المرارة لأوطان طالها الخراب.
٭ كاتب فلسطيني ـ أردني
القدس العربي

 

 
جورج طرابيشي.. رؤية لما بعد الرحيل/ سيّار الجميل
توفي الصديق المفكّر والناقد والمترجم العربي المعروف، جورج طرابيشي، يوم الاربعاء 16 مارس/ آذار 2016 في باريس عن عمرٍ ناهز 77 عاماً. ولد في حلب عام 1939، ودرس في سورية، وحمل الليسانس في اللغة العربية والماجستير في التربية، متخرجاً في جامعة دمشق. عمل مديراً لإذاعة دمشق (1963-1964)، ورئيساً لتحرير مجلة دراسات عربية (1972-1984)، ومحرّراً رئيسياً لمجلة الوحدة (1984-1989). أقام ردحاً في لبنان، لكنه غادره، إثر اندلاع الحرب الأهلية، إلى فرنسا التي بقي فيها حتى وفاته متفرغاً للكتابة والتأليف. اتصف، منذ صغره، بشغفه الشديد بالكتابة والترجمة، بحيث كان ينعزل أياماً حتى يترجم كتاباً عن الفرنسية التي خبرها منذ تكوينه الأول، اذ ترجم لفرويد وهيغل وسارتر وبرهييه وغارودي وسيمون دي بوفوار وآخرين، في موضوعات مختلفة وميادين متنوعة في الفلسفة والأيديولوجيا والتحليل النفسي والرواية.
كتب الكثير في الماركسيّة والنظريّة القوميّة وفي النقد الأدبي للرواية العربية. وكان سبّاقاً في تطبيق مناهج التحليل النفسي في نقداته وكتاباته. وعدّ مصنفا بارعا في مؤلفّه “معجم الفلاسفة”، وغدا كاتبا نهضوياً في مؤلفه “من النهضة إلى الردة”، وفي “هرطقات 1 و2″، وعدّ ناقداً قويّاً في مشروعه الضخم الذي عمل عليه سنوات طوال، وصدر منه خمسة مجلدات بعنوان “نقد نقد العقل العربي” كان آخرها مجلده الخامس “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث” (2010)، وكان قد انطلق فيه من خلال نقده مشروع المفكّر المغربي محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي، فكان ندّا حقيقيّا له، إذ وضع طرابيشي النقاط فوق الحروف التي لم يدركها الجابري، وكان طرابيشي أذكى من الجابري في توغّله بموسوعيّةٍ كبيرةٍ باحتوائه على قراءةٍ ومراجعةٍ دقيقةٍ للتراث اليوناني وللتراث الأوروبي الفلسفي وللتراث العربي الإسلامي بمختلف تخصصّاته، وليس الفلسفي فحسب، بل أيضاً في ما يخص علم الكلام والفقه والتصوّف واللغة.. اذ عالجها طرابيشي معالجةً علميةً أرقى بكثير من الجابري الذي استلهم نظريات غيره، ولم يكن ذكياً في تطبيقاته لها، فكان أن تصدّى له طرابيشي، وأفحمه في جنباتٍ كثيرة، أخفق فيها الجابري، وخصوصاً عندما دعا الأخير إلى تمفصل المشرق العربي عن المغرب العربي، وادّعى بأن لا فلسفة ولا فكر إلا في المغرب! وكنت بدوري قد انتقدت خطابه ذاك في كتابي “الرؤية المختلفة: قراءة نقدية في منهج محمد عابد الجابري” (1999).
قلت لطرابيشي يوماً: ما ضرّك لو صرفت السنوات التي قضيّتها في نقد الجابري بتقديم مشروع فلسفي مضاد إلى ثقافتنا العربية؟ انتبه وقال: لم أكن اتوّقع أنه سيأخذني كلّ هذا المطال. سألته: وهل للعقل (العربي) هويّة قوميّة، حتى نميّزه عن العقل البشري؟ ابتسم لمثل هذا السؤال الساخر، وقال: اسأل صاحبك الجابري. أعتقد أن جورج كان الأقدر عربياً في اقتحام مشروع الجابري ونقده وترميم أحجاره، فهو يمتلك الأداة النقديّة ومبضع الجرّاح، لكي يعتكف سنوات طوال في عمله، كما اعتقد أن جورج لن تكون له القدرة، منذ بداياته الأولى وحتى نهاياته، كي يكتب مشروعاً فكرياً عربياً، إذ كان يردّد دوما أنه من الهواة الذين أقحموا أنفسهم في عالم الفلسفة، إذ لم يكن من جماعة المتخصصّين.. وعليه، فقد برع في نقد الجابري براعة قويّة، وفشل الجابري نفسه في أن يردّ عليه ردّاً شاملاً بحجم ما كتب جورج في نقد نقد العقل (العربي)، سواء في تكوينه أو بنيته، أو ما ألحق الجابري بذلك من ملحقات.
لعل أبرز الإجابات التي قدمها طرابيشي على سؤال أساسي: هل جاءت استقالة العقل في
“سيبقى اسم جورج طرابيشي علامة بارزة، ووضيئة في الثقافة العربية الحديثة” الإسلام نتيجةً لعامل خارجي، وقابلة للتعليق على مشجب الغير؟ أم هي مأساة داخلية ومحكومة بآليات ذاتية، يتحمل فيها العقل العربي الإسلامي مسؤولية إقالة نفسه بنفسه؟ وهكذا، وجدتني معه في حواراتٍ جمعتنا معا عند لقاءاتنا المتباعدة، فكان الرجل يشاركني القول إن العقل في تاريخنا ووجودنا قد ضاع منذ زمن طويل، وكان ذلك “العقل” مجبراً أن يقيل نفسه جرّاء ما أصاب الوعي والتفكير من جمود وانحطاط وانغلاق في دوامات التصوّف والخرافات.. لقد استقال العقل (العربي الإسلامي) عن أداء دوره منذ زمن بعيد جداً، وكان على موعد أن يحيا من جديد على أيدي نخبةٍ مستنيرةٍ عربيةٍ عليا مخضرمة بين القرنين التاسع عشر والعشرين. ولكن، ضاعت الفرصة التاريخية ممثلة بهجمة الأيديولوجيات التي قطعت الطريق على المعرفة والعقل والتفكير العلمي .
أهم المحطات الفكرية في مسار طرابيشي انتقاله من الفكر القومي والنزعة الثورية إلى التنظير في الماركسية، ثم جاء التحوّل نحو الفلسفة الوجوديّة التي غمر نفسه فيها زمناً، إذ كان، منذ بدايات الستينيات، قد أعجب بسارتر وأفكاره، ثم انتقل اهتمامه إلى التحليل النفسي، وأعجب بسيغموند فرويد إعجاباً بالغاً، حتى بدأ يفسر حركة الجماعات والتراث بالعصابية وتحجّر التفكير من خلال التعصّب، ثم تحوّل، أخيراً، إلى تبني نزعة نقدية جذرية، فوجد فيها الموقف الوحيد الذي يمكن أن يصدر عنه المفكر، ولا سيما في الوضعيّة العربية الراهنة التي يتجاذبها قطبان: الرؤية المؤسطرة للماضي والرؤية المؤدلجة للحاضر.
التقيت الرجل عدة مرات في بيروت وعمّان وباريس، وفي كلّ مرة أجده إنساناً متواضعاُ. في بيروت، كان لقاء عابراً، وكنت في مطلع الشباب، وعبّر وقت ذاك بالتوأمة التاريخية لكل من حلب والموصل، حيث يمتد انتماؤنا هو وانا، لكن جلساتي معه في عمّان عند منتصف التسعينيات كانت غنيّة جدا، فقد توفّرت لكلينا فرصة التلاقي والحوار، وأذكر أنه وقف معي في ردّي على الكاتب المصري، محمد عمارة، الذي كان يصرّ على ترديد أخطاء بحق تقييم تاريخ جمال الدين الأفغاني، فكنت قاسياً على عمارة، وجاء رد طرابيشي الأقسى عليه، فاتهمنا بالعلمنة والمروق، وكأن الأفغاني عنده من الآلهة المقدّسة. وفي باريس، التقيت مع جورج طرابيشي عدة مرات في زياراتي لها، وقد وجدته غير ذلك المفكر الثوري الذي عرفناه إبّان الستينيات، إذ بدا لي وقد تخلّى نهائياً عن افكاره القديمة، ولمّا ذكّرته بما كان يكتبه وينشره في “دراسات عربية” التي تنشرها دار الطليعة ببيروت، أجاب: العقل الذي طردناه من الشبابيك رحبنا به اليوم من الأبواب .. تغير الزمن بغير الزمن، وقد كشفت لنا التسعينيات عند نهايات القرن العشرين حقائق فاضحة عن الأوهام التي آمنا بها زمناً طويلاً. انتقدت استخدامه عنوان “مذبحة التراث”، وأذكر أنني قلت له، في حوار تجاذبناه طويلاً، إنّ مجتمعاتنا تزحف بجهالة نحو عصر الظلمات.
في السنوات الأخيرة، كنا على اتصال دائم، وكنت أشعر كم كان الرجل يعيش مرارة وأحزاناً على سورية التي مزقّها الأغبياء والأشقياء، كان محبطاً جداً، إذ لم يتخيّل يوماً حجم الكارثة التي مني بها كل من سورية والعراق.
لا أدري، إن رحل من تبقوا من آخر العنقود في ثقافتنا العربية الحديثة، فمن سيأتي ليحلّ محلهم. .في كل سنة تمر علينا، يرحل فيها من تبقى من مفكرين ومبدعين ومترجمين. في كل سنة، يزداد حجم الفتق كبيراً على رقعتنا العربية، وتبرز للعيان هياكل عارية، تكشف لنا أزمة الفكر في عالمنا العربي، ويشغلنا ذهنياً التأثير المخيف من إشكالية الفكر العربي الذي بات لا يعبر تعبيراً حقيقياً عن قضايا المجتمع العربي ومشكلاته المستعصية، وهي إشكالية متأزمة ومزمنة، مقارنة بما كان عليه الحال في كل من القرنين السابقين، التاسع عشر والعشرين، حيث كان الفكر العربي الحديث مستنيراً، وغدا مبدعاً في القرن العشرين، حيث صارت عناصره معبرة عن ضرورات المجتمع، ومنتجة للحياة الحديثة.
أخيراً: ستبقى ذكرى الصديق جورج طرابيشي حيّة في القلوب، وسيبقى اسمه علامة بارزة، ووضيئة في الثقافة العربية الحديثة.
العربي الجديد

 

 

طرابيشي.. مثقف المروءة/ د.خالد الحروب
إذن هو الرحيل الحزين لمن استحق يوماً وصف «مثقف المروءة»، إنه رحيل المفكر جورج طرابيشي. دماثته على المستوى الإنساني ورهافة حسه، زادت دوماً من تقديره الكبير الذي ظل يتسع في وجدان من تابعوا عمقه الفكري ومشروعه الإبستمولوجي والنقدي الكبير. أجد لزاماً عليّ وعلى سبيل الوداع والإشادة بالراحل أن أعاود الإشارة إليه بتلك السمة النادرة: «مثقف المروءة»، وهو ما لمسه كل من قرؤوا نعيه لمحمد عابد الجابري قبل سنوات، النعي الخلوق والمُتعالي عن الخصومة الفكرية.
يؤكد طرابيشي على المهمة الكبرى التي قام بها الجابري وتمثلت في نقل الفكر العربي في أواخر القرن العشرين من أسر الأيديولوجيا إلى رحاب الإبستمولوجيا، وهي النقلة التي انتقلها طرابيشي أيضاً مسافراً في أول تحرره الأخير من الأيديولوجيا على مركب «نقد العقل العربي». في بداية تأثره بالجابري يقول طرابيشي في مقالة النعي إن الرحلة الأيديولوجية الطويلة التي بدأها بالقومية العربية ثم الماركسية، وإلى حد ما التحليل النفسي الفرويدي، كانت مزدحمة بـ«آباء فكريين أيديولوجيين «مؤمثلين». وبعبوره إلى ضفة الإبستمولوجيا قارئاً ومندهشاً ومستبطناً «نقد العقل العربي» صار الجابري هو «الأب الفكري المؤمثل» بعد عبور بوابة الإبتسمولوجيا.
ولكن رحلة التأثير والانبهار بالجابري إبستمولوجياً انتهت سريعاً وقادت طرابيشي إلى اكتشاف محدودية إبستمولوجيا الجابري وترسباتها الأيديولوجية، وطبيعة إشكاليتها التي تفتح النقاش من جهة ولكنها تعيد تعليبه من جهة أخرى في عدد من المقولات أو الثنائيات (أو الثلاثيات)، مثل العرب والغرب، الحداثة والتراث، العقل العرفاني والعقل البرهاني والعقل البياني، وهكذا. هذا فضلًا عن موقف الجابري الملتبس من العلمانية والغزل الخفي مع الإسلاميين في مراحل متأخرة! والمهم هنا هو أن اكتشافات طرابيشي وخيبة أمله دفعتاه معاً إلى إطلاق مشروع نقدي مواز لمشروع الجابري تمثل في سلسلة كتبه «نقد نقد العقل العربي»، التي فتحت آفاقاً في الفكر العربي المعاصر وسجالاته ربما تفوقت على الآفاق التي جاء بها المشروع الأصلي للجابري في نقده للعقل العربي.
وانتبه طرابيشي لكثير من مسْحات الجوهرانية التي تسربت إلى مشروع الجابري، وهي درجات متفاوتة من التمثل الداخلي لعدد من المقاربات الاستشراقية، وقد نقدها وفككها. كما رفض الوقوع في أسر الإشكاليات التي كان الجابري يطرحها وتبدو في ظاهرها بادية الإحكام وجامعة للأسئلة الكبرى. فجوهر الاستخدام نفسه لوصف «العقل العربي»، مثلاً، يقع في قلب الجدل والخلافية الإبستمولوجية، ويجوهر بشكل ما ماهية هذا العقل، إذ بماذا يختلف «العقل العربي» عن «العقل غير العربي»؟
ودرس مروءة المثقف الذي يقدمه طرابيشي في مقالته الاحترامية والاحترافية في حق الجابري مهم وبالغ العمق. إنه يقول أولًا إن الفكر لا يُصقل إلا بالفكر، وإنه لا مجاملة في صراع الأفكار وتنافسها. وكثير من المثقفين والمفكرين تستهويهم فكرة عدم إغضاب الآخرين فكرياً، وتفادي التعبير الصريح والموجع أحياناً عن الفكرة والقناعة، بحثاً عن الدفء الخادع بالوقوف في الوسط. بيد أن هذا التردد والاستحياء عن نقض الفكرة كلياً إن كانت تلك هي قناعة المثقف أو الناقد لا ينتج فكراً ولا يخدم ثقافة. والصرامة والحسم في التعبير عن الفكرة ومصادمة الآخرين بها لا تعني الإقصاء، ولا الشطب الكلي للمختلف معه فكرياً وشخصياً. والدرس نفسه يقول، ثانياً، إن موضوعية المُفكر وتقديره للأفكار والأشخاص والقضايا بالحجم الذي تستحقه، والإقرار بها وبهم، يضاعف من التقدير والاحترام له. ولا يخسر المثقف عندما يقدر منافساً له ويعطيه حقاً من دون أن يجامله فكرياً. بل على العكس تماماً يتبدى ذلك المثقف ظافراً وواثقاً بنفسه وجديراً بالاحترام. وهذا كله يرقي حقل الثقافة ويُضفي عليه تحضراً مفقوداً في سجالات ثقافية كثيرة تنحط بالمنخرطين فيها بسبب شخصنتها البالغة، وتفاقم الاغتيال الفكري والثقافي فيها كواحد من أبرز مكوناتها.
كما يقول ذلك الدرس، ثالثاً، إن سجالات الفكر وطروحاته تقوم كلها في المنطقة الرمادية لإدراك البشر، على رغم دفوع المفكرين وشراستهم في التشبث بأفكارهم. وتلك المنطقة يختفي أو يجب أن يختفي فيها ادعاء الوضوح والحسم بالأبيض والأسود. فهنا وفي هذه المساحة الرمادية يزدهر العقل باحثاً عن الإجابات المُحتملة، ويقارن ويفاضل بينها بالنسب والدرجات، وليس بالمطلق أو القياس الصفري. وكل فكرة من الأفكار حتى لو نُقضت ودمرت تماماً فإنها تكون قد قدمت خدمة كبرى للمعمار الفكري والفلسفي الأكبر بكونها استفزت فكرة أخرى لتقومها وتقوضها وتحتل مكانها. أبدع الجابري في التقاط موروث المروءة كواحد من مكونات العقل الأخلاقي العربي، وأبدع طرابيشي في تمثل هذا الموروث وتطبيقه بأمانة في علاقته مع الجابري أكبر خصومه الفكريين.
أكاديمي عربي- كامبريدج
الاتحاد

 
مالم يقله جورج طرابيشي!/ تركي الدخيل
بساعة متأخرة من ليل الخميس، غادر دنيانا الإنسان والمفكر الاستثناء، جورج طرابيشي. بعد أن أمد المكتبة العربية، بترجمات ومؤلفات أدبية وفلسفية وفكرية شملت الفنون والعلوم. ذهب تاركاً وراءه إرثاً يعادل جهد أكاديمية كاملة.
كانت حياة الراحل، ثرية ثقافيا، فالجميع يعرفون عناوينه والخطوط التي تداخل فيها سجالياً مع زملائه المفكرين والفلاسفة والباحثين. كان صارماً صادقاً في إبداء رأيه، وتبني مواقفه. وعندما تناول التراث بالبحث، أراد التثبّت قبل التسرّع، وعرضه لأدوات البحث العلمي بتأنٍّ وتؤدة.
حظيتُ بلقائه وكنت آخر ناشر تعامل معه، فألفيته إنساناً قبل أن يكون مفكّراً. لوّعته الأزمة السورية، ولم يكن إلا مع شعبه وحقّه في الحريّة، غير أنه كان لم يتخل عن التساؤل عند الحديث عن مستقبل بلاده، فطرح أسئلة صادقة عن موقع الديموقراطية والمرأة والأصولية في ظلّ كل هذا اليباب السوري.
كان يكتب شهادةً للتاريخ أبعد مما هو الموقف السياسي عبر مقالةٍ تُنسى، لئلا يشهد عليه الجيل القادم بالتقاعس، أو الغشّ في الحلم المبالغ فيه وبيع الكلام عليهم حول أفق أخضر يتلو كل هذه الأزمة المؤلمة.
حين كتب مقالته الأخيرة عن محطّات حياته، لكأنه يرثي نفسه، اتصلت به، تمنيتُ عليه كتابة مذكراته، غير أن مشروعاً لايزال يلوح في ذهنه المتوقّد المقبل على بحر الثمانين من العمر، إنه مشروع حول «تفسير القرآن» مشروع لم يتم، ولو أكمله فإن الصدفة ستجمع منقوده الأكبر محمد عابد الجابري، الذي ختم مشواره العلمي بمشروعٍ عن القرآن وتفسير القرآن أيضاً.
تصدّعت مدرسة عربية كبرى، وعزاؤنا بإرثه وتركته العلمية، وداعاً أستاذ جورج، وتعازينا لرفيقتك الأستاذة هنرييت عبودي، وكريمتيك، وأحبابك، وتلاميذ فكرك، ومؤلفاتك.
عكاظ السعودية

 

الإصلاح الديني والثقافويّة ونقّاد طرابيشي/ ثائر ديب
لا تحيل مشكلة الإسلام السياسي إلى مشكلةٍ في الإسلام ذاته ونصوصه، بقدر ما تشير إلى سيادة التفسير الجامد الذي أضفاه التيار المذكور على هذه النصوص أو انتزعه منها. لكنَّ نصوصاً يمكن لأحد أن ينتزع منها كلّ هذا التأويل الجامد، وكلّ هذا الإرهاب، لا بدّ أنها تعاني مشكلة من النوع الذي عادةً ما وجد حلّه في الإصلاح الديني.
يعني الإصلاح حركةً داخل الدين المعني تناوئ تأويلاته السائدة والمصالح الواقفة وراءها، وتطرح تأويلات جديدة ترمي إلى ملاءمة هذا الدين مع العصر. لكن الإصلاح في هذه التجارب كان جزءاً من تغيير تاريخي شامل (اسمه الرأسمالية، باختصار) هو الذي دفع إليه. وبخلاف ما رآه ماكس فيبر من أنَّ البروتستانتية هي روح الرأسمالية، فإنَّ الرأسمالية المتنامية هي روح البروتستانتية التي لم تكن، برغم جرأتها وأثرها، سوى عنصر واحد، دفاعيّ في جوهره، بين أمواج ذلك الانقلاب الجوهري المتلاطمة.
بتغيير الواقع يتشجّع الدين على التغيّر. وبالركود وقمع محاولات التغيير يجمد الدين ويزداد عنفاً. ولنا أن نتوقع عندئذٍ أن تتراجع البرامج الراديكالية إلى مواقع خلفية، فيزداد تركيزها على نقد الفكر الديني وغيره من صنوف الفكر التي تمثّل وعياً زائفاً، خصوصاً في مجتمعات لا يقتصر نقد الدين فيها على أنّه غير ناجز بل يتعدّاه إلى كونه ممنوعاً، بخلاف ما تشير إليه جملة ماركس الشهيرة: «بالنسبة إلى ألمانيا، نقدُ الدين ناجز على الأغلب، ونقد الدين منطلق لكلّ نقد».
تمكن في هذا الضوء قراءة قدر كبير من الفكر العربي الحديث الناقد للتراث والتيارات الفكرية والسياسية الدينية، فضلاً عن نقده الاتجاهات الفكرية المختلفة التي تناولت كلّ ذلك. هكذا انتقل جورج طرابيشي، مثلاً، من كتابته «الاستراتيجية الطبقية للثورة» (1970) وترجمته «في التنظيم الثوري» (1972) إلى «من النهضة إلى الردّة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة (2000) و «العقل المستقيل في الإسلام» (2004) و «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث» (2010).
ترى، ما علاقة هذا بـ «الثقافوية» التي يرمي بها بعضهم طرابيشي؟ لا علاقة. فالثقافوية هي الرؤية التي ترد جميع الظواهر إلى تقاليد ثقافية معينة، ربما ترجعها إلى دين بعينه يُرى على أنّه القوة المحركة الأساس التي تفسّر التاريخ والاجتماع بدل أن تتفسّر بهما. وطرابيشي ليس هنا قطّ. بل هو جزء من تقليد فكري نقدي عريق ديدنه كشف الوعي الزائف الذي يساهم في انسداد أفق التغيير.
والحال، أنّ اتهام طرابيشي بالثقافوية يأتي، بالأخص، من محاكمة سياسية لمواقفه النقديه حيال الثورة السورية برغم موقفه النقدي من النظام السوري. وهو يأتي غالباً من جهات لم يُسمع لها صوت في نقد من قال: «إننا في المجلس الوطني لم نعلن لا تصريحًا ولا تلميحًا ضد «جبهة النصرة» أو غيرها، وقد دافعنا في اجتماعنا مع الأميركان دفاعًا قويًا عن «النصرة»، كما لم تدافع هي عن نفسها»، أو من قال: «داعش وغيرها هم إخوة لنا، نتحاور معهم ونتفاهم على كثير من الأمور ولا مشكلة لدينا معهم».
ويبقى اتهام طرابيشي بـ «العلمانية المتشددة» نكتة غير مضحكة. لكن الخشية أن يكون رحيل طرابيشي، بجهده العميق والهائل، وتسيّد «فكر» نقّاده، بخفته كمّاً ونوعاً، ضرباً من التحذير أنَّ هذه النكتة تحتلّ كامل المشهد.

السفير

 

 

 

المتعلم والمعلم/ عباس بيضون
عاش جورج طرابيشي حياته كلها يتعلم ويعلّم، كان هكذا نموذج المثقف الذي لا يتوقف عن الدرس، المثقف الذي يهاجر من مجال إلى مجال من حقل إلى حقل ومن موضوع إلى موضوع. حتى أننا ونحن نلاحظه لا نعرف أنه اقتصر على جانب أو انحصر في رقعة، ما يفعله طرابيشي هو أنه حين يباشر علماً أو موضوعاً يبدأ من الأول، من البدايات والمقدمات والجذور، ينقّب ويحفر ويباشر من الأحرف الأولى. ثمة هنا ثقافة لا تكتفي بالعناوين ولا تكتفي بالخطوط العريضة ولا تكتفي بالعام والدارج ولا تبقى عند المصطلح والخلاصات، وإنما تبدأ كل شخصية من حيث انطلقت من مسالكها الأولى وتكوينها المبكر لتتغلغل في دقائقها وثوانيها ومتفرعاتها ومضائقها. هكذا فعل جورج طرابيشي حينما تناول الماركسية، تعلم الماركسية وعلّمها وشملها بالدرس والتنقيب والتحقيق، هكذا فعل عندما عكف على التحليل النفسي الفرويدي، بدا وكأنه يلتهم الفرويدية ويتابعها فصلاً فصلاً وكتاباً كتاباً، هكذا فعل حينما عكف على نقد عابد الجابري، بدا الأثر الجابري تحت عين دقيقة فاحصة تتناوله عبارة عبارة وفقرة فقرة وتعود عند كل عبارة إلى مصادرها ويدقق في هذه المصادر ويدقق في منطلقاتها ويعرضها على ما صدرت عنه ويدقق في حقيقتها، وفي نسبتها، وفي أصولها، وفي مرجعها. هكذا تجري مطاردة حقيقية وتقصٍ فعلي، بل نحن وخاصة في المجلدات الأولى من نقده للجابري، نحن أمام ما يشبه التحقيق البوليسي الذي يقلب العبارة ظهراً لبطن ويبحث في صدقيتها وفي أصولها. هكذا كان يبدو أن الجابري يمد يده إلى مراجع غير موثوقة، ويزعم انه ينقل من مصادر لم يقرأها ويلقي أحكاماً لم يمحصّها وإنما ألقيت ارتجالاً وعلى نحو عشوائي، وبدرجة من الخفة والاستهتار بالقارئ، يكشف عبارة عبارة كيف أن الجابري لم يدرس المصادر وإنما استعار أفكاره من معلقين غير موثوقين لا ينسى ان يسميهم وأن يعود إلى مؤلفاتهم وأن يشير إلى ما فيها من زغل، هكذا نحن أمام تحقيق يكشف الأسرار ويكشف المواربات ويكشف الانتحارات كما يكشف الادّعاءات، يتم ذلك بدرجة من الفضح وبأدلة صادقة وبتحر تفصيلي وبنوع من التدقيق يخرج به طرابيشي من مؤلف إلى مؤلف، ومن دليل إلى دليل، إنه نوع من التقصي والإيغال يكاد يشبه من هذا الجانب ما تحفل به الروايات البوليسية من حبكة وتحرٍ.
المتعلم يعلِّم. لم يؤسس طرابيشي نظاماً فكرياً أو فلسفياً، وبرغم تعدد معارفه وحقوله ومجالاته، على أنه لم يركب من هذه الأنظمة الفكرية من تقاطعها وإحالتها إلى بعضها بعضاً، والتوليد منها. لم يركب منها نظاماً خاصاً، لقد بقي المتعلم الذي لا يزال يختم علماً وموضوعاً ليباشر علماً وموضوعاً آخرين. يتعلم من الأوليات حتى النهايات والاستنتاجات، من الألف إلى الياء، وإذا كان الطرابيشي يتعلم ويبقى على الدوام متعلماً فهو يفعل ذلك ليعلّم وأثره هو من هنا وهناك مدرسة كاملة، لم يترجم فرويد ويقرأ مع طلابه الأثر الفرويدي وإنما سعى إلى أن يستغل التحليل النفسي الفرويدي في النقد الأدبي، هكذا أضاف إلى النقد المقترب النفساني، ولا بد أن ما فعله في هذا الحقل جدير بأن يُدرّس وجدير بأن يعكف عليه المدرّسون وأن يعكف عليه التلامذة والطلاب والمتعلمون. أضاف طرابيشي بذلك إلى النقد الأدبي آلة فهم وتحليل، وأضاف مساراً جديداً للنقد الأدبي.
في رده على الجابري، كان طرابيشي المتواضع يقول فكره وتحليلاته وخلاصاته واستنتاجاته عن طريق محاورته المستطيلة المتقصية للجابري، وفي نقده للجابري كان يكشف بالدرجة الأولى ضحالة عقلانية الجابري ودغمائيتها، وبالمقابل كان يرسي وجهة أخرى في قراءة الغرب وفهم الغرب بدل وجهة النظر الجابرية التي لا تفعل سوى عرض يتسم بالدارجية والتسطيح للغرب. ينتقد النمط الغربي الذي نمْذَجه الجابري ويشرح كيف ان هذا النمط مبسّط وسطحي وأحياناً زائف، وأن الغرب الحقيقي أمر آخر وينبغي قراءته ورؤيته من الداخل لا من الهوامش والمصطلحات الدارجة، وأن عقلانية الجابري التي يحاكم بها التراث، ليست عقلانية الغرب الحقيقية، لكن الأهم في بحث طرابيشي هو نقده لتراثية الجابري فمعايير الجابري في قراءة التراث، هي مثل قراءته للغرب، معايير زائفة وجاهلة أحياناً، هنا يجد طرابيشي فرصة لقراءة التراث مجدداً ولو عبر نقد الجابري، هكذا يطالعنا طرابيشي بفرادة رائعة وتمحيصه للتراث قد تكون أهم ما أنتجه العرب بهذا الصدد ويمكن أن يقف نداً للقراءة الغربية لتراثنا.

السفير

 

 

عقلنة التراث/ احمد زين الدين
ليس بوسع المرء الإحاطة بمجمل ما كتبه الراحل جورج طرابيشي الموسوعي والعقلاني التنويري الذي أثرى المكتبة العربية بمؤلفاته وترجماته. فهذا الكاتب والمفكر الطليعي لم يقف عند حد، بل انتقل من طور إلى طور، ومن مرحلة إلى أخرى، ليتوّج مسيرة حياته بالعمارة الفكرية «نقد نقد العقل العربي» في مواجهة العمارة الأخرى الرباعية التي بناها المفكر المغربي محمد عابد الجابري «بنية العقل العربي» و «تكوين العقل العربي» و «العقل السياسي العربي» و «العقل الأخلاقي العربي». وأسهم من قبل في كتابة مصنفات في النقد الروائي والنقد السياسي والفكر الديني، التي لا يمكن وضعها في سوية واحدة، أو أن نحصرها ونحدها بموضوع أو ميدان من الميادين. فهو الناقد والمفكر والمترجم (ترجم ما يربو على مئتي كتاب، ثلاثون منها لفرويد) وهو الماركسي والقومي والليبرالي والعلماني، ومن مؤسسي رابطة العقلانيين العرب. دون أن ننسى سجالاته مع المثقفين العرب حول التراث والحداثة، ولا سيما نقضه لأطروحة الجابري. وهي الطفرة العقلية الهامة في إنتاجه التي أعادتنا إلى العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية. بيد انه كان في كل مرحلة أو خطوة كاتباً ومثقفاً عصامياً، إذا جازت العبارة، فهو يكتب ويناقش ويحاور بعد أن يتعلم ويستفيد ممن يجادله أو يترجم له. وهو يستوعب بعمق الموضوع الذي يقاربه بأدوات وأساليب نقدية تتجدد وتتلوّن باختلاف الموضوعات المطروحة وإمكانياتها. لذا أعقبت ترجماته الفرويدية الغزيرة والأساسية في التحليل النفسي، توظيفه لها في تفسير النصوص السردية، كثمرة من ثمار ترجماته حتى يضيء على الأبعاد السيكولوجية والحضارية لهذه الروايات. وحتى يتمكن من تحليل أمراض بعض المثقفين العرب الذين اتهمهم في كتابه «المرض بالغرب…» بأنهم يعانون من عوارض عُصابية محتذياً فيه المنهجية التحليلية النفسية.
واضطُر للرد على شبهات محمد عابد الجابري أن يكرّس أعواماً طويلة من عمره للاطلاع على أعداد هائلة من أمهات الكتب مدققاً ومتفحصاً ومستقرئاً. إذ كان من المفترض أن يقرأ ما قرأه الجابري، أو صرّح أو لم يصرّح به، أي التراث اليوناني والأوروبي الفلسفي والعقلي في طوريه الكلاسيكي والحديث، علاوة على التراث العربي الإسلامي الفلسفي، ليكون نقداً للجابري، وتفنيداً لأحكامه، وتمحيصاً لشواهده، واكتشاف العسف والتزوير والغلط في الأحكام المبنية عليه، وتفكيك الإشكاليات نفسها قبل مناقشة نتائجها. وقد أفضت هذه الحركة العقلية الدينامكية إلى بناء مداميك عمارته الفكرية المضادة للعمارة الجابرية، رغم إقراره بفضل الجابري الذي نقله من الإيديولوجيا إلى الإبستمولوجيا، أي من الأفكار إلى علم معرفة المعرفة. كما دفعه عن غير قصد إلى إعادة بناء ثقافته التراثية.
دار الحوار الفكري من طرف وحيد هو من طرف طرابيشي. وكان من المنطقي أن يرد الجابري على مشروع طرابيشي النقيض، لكنه تغاضى عنه، وصمت دون أن يعلّق بكلمة، إما استعلاء، أو إقراراً ضمنياً بقصوره، أو لحزازات شخصية دفينة، ونُمي أنه اتهم طرابيشي بعدم جدارته بالكتابة عن التراث الإسلامي لأنه مسيحي!! وفي كل الأحوال كان حظ المتلقي العربي أن يقرأ في المشروعين تأصيلاً نظرياً راقياً. وإن كان يمنّي النفس بحوار مجد بين الاثنين تعثّر نصابه، وسماه طرابيشي حواراً بلا حوار. لكن الجابري أكمله مع المفكرين علي حرب وفتحي التريكي.

هاجس الحداثة
ينتقد طرابيشي الأسس النظرية التي قامت عليها كتب محمد عابد الجابري، لا سيما كتابيه «تكوين العقل العربي» و «بنية العقل العربي» الذي اشتغل عليهما وفككهما، وأظهر تناقضهما، واتهم خصمه بأنه في تقسيماته النظرية للعقل الإسلامي العربي وتعداد مستوياته المعرفية والايديولوجية والجغرافية، إنما اعتمد على الفيلسوف الفرنسي اندريه لالاند في تفريقه بين العقل المكوّن (بكسر الواو) والعقل المكوّن (بفتح الواو) من دون ان يرجع مباشرة إلى كتابه «العقل والمعايير» بل رجع إلى معجم بول فوكيه، فأخطأ في الترجمة وفي الشاهد، وأضاف غموضاً عليه. وعدم اطلاعه الكافي على الوظيفة التوحيدية للعقل ككل عند لالاند، جعله يتبنى هذه التقسيمات العقلية التي أفضت إلى تحلل العقل العربي وتجزئته إلى مكونات متناقضة. كذلك أخطأ الجابري في استخدامه البنية اللاشعورية التي استعملها ليفي ستروس في دراسة المجتمعات البدائية الشفهية، حين طبق هذا المفهوم على مجتمع متقدم مثل المجتمع العربي الإسلامي.
ومن مآخذ طرابيشي على الجابري أنه رفع مكانة الحضارة اليونانية على كل ما عداها من حضارات عقلية منتجة لمنطق ما قبل أرسطي، مثل الحضارات الهندية والفينقية والصينية. في حين أن العقل الهلليني لم يكن عقلاً خالصاً، بل كان اليونانيون يمارسون أيضاً الشعوذة والسحر ويصنعون التمائم، أي كل ما يُنسب إلى دائرة اللامعقول. كما يقتبس الجابري مفهوم عصر التدوين من أحمد أمين في «ضحى الإسلام» من دون أن يسميه.
حمل طرابيشي في كتاباته وسجالاته جميعاً هاجس الحداثة وعلاقتها بالموروث، ورفض كل حديث عن الإصلاح السياسي مع الإبقاء على المنظومة المعرفية القديمة والمفاهيم التقليدية. ووصف حركة الإصلاح المزعومة بالنقش على الماء. وأخذ على الذين تناولوا التراث بأنهم قاربوه بطريقة انتقائية ومنفصلة عن سياقه التاريخي والاجتماعي. واعتبر أزمة العقل العربي من داخله لا من خارجه، وتحوّله إلى عقل غير قادر على نقد ذاته. لذا كان الانفتاح على الحداثة هو الذي مكّن من طرح أسئلة جديدة على التراث واستنطاقه، ومن أن يعيد صياغته في إشكاليات جديدة. وإذا كانت ثقافتنا هي الانغلاق على مفاهيم العصور السابقة، فإنها كانت فعالة آنذاك، لكنها اليوم معطّلة يهيمن عليها الخرافي والأسطوري والحدسي بدل الرؤية العقلية المنطقية.
وطرابيشي لا يأخذ بمقولة الديموقراطية كجوهر مستقل، لا سيما إذا ما اختُصرت بصندوق الاقتراع، واعتُبرت بمثابة خلاص نهائي وحاسم، أو اقتصرت على السياسة دون الفكر أو الدين. وقبل ان تكون الديموقراطية مفتاحاً للنقلة من واقع التخلف والتأخر إلى واقع التقدم، يجب أن تتمتع في نظره بشرط لتحقيقها وديمومتها، هو شرط وجود الحامل الاجتماعي للديموقراطية، وهو الأكثر غياباً عن الوعي العربي.

الإنسان الآلي
في كتابه من «النهضة إلى الردة» دعا طرابيشي المفكرين الحداثويين إلى ضرورة التخلي عن استراتيجية البحث عن البدائل الفكرية، والتوجّه إلى آليات العمل. والعرب في رأيه يعانون من تبعات رهاناتهم الخاسرة على كل جبهة. ففي مطلع الخمسينيات كان التقدم يقتضي منا التحرر من الاستعمار فحسب. فكان رهاننا التخلص من الاستعمار لتحقيق النهضة المنشودة. ثم وقعت رهانات جديدة مثل الوحدة العربية، ثم سقوط الوحدة، والرهان على الاشتراكية التي كشفت عن خيبة أمل كبيرة. وآخر رهاناتنا اليوم على الديموقراطية كباب للخلاص والنجاة، ويُخشى ان يكون رهاننا خاسراً بدوره، لأن الديموقراطية هي تحوّل في عقلية المجتمع، وليست في عدد الأصوات الناخبة. وجاء الرهان على الإسلام السياسي نتيجة إخفاق هذه البدائل. والإسلام ليس حلاً قبل أن نغير نظرتنا إليه، كما غيرت أوروبا نظرتها الى الدين وأحدثت الإصلاح الديني. فهذا الإسلام الموروث منذ عصر الانحطاط أفرز ظواهر تعصب، وتيارات عنفية مثل طالبان وداعش وسواهما. بينما ما نحتاجه اليوم هو إسلام حديث منفتح على العصر آخذ بمقاييسه وأدواته، قادر على نقد تجربته الماضية على ضوء حاجات المستقبل. ولدينا شاهد من التاريخ الحديث بأن الانفتاح هو المعبر إلى التقدم. فالحضارة الغربية المعاصرة باتت اليوم حضارة متفوقة بعدما غيرت نظرتها إلى الدين ودوره. بل هي الحضارة العالمية الوحيدة في العالم مطلقاً، بعدما شهدت عملية تحوّل هائل انتصر فيها الانسان الصانع الدنيوي على الانسان الساحر الديني.
في كتابه «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث» يعتقد طرابيشي ان تغييب الإسلام القرآني وتغييب العقل وتغييب التعددية في الإيديولوجيا الحديثية المنتصرة التي أتاح لها تأطيرها الإلهي، أن تهيمن على الفضاء العربي الإسلامي، وأن تتحوّل إلى نص مقدس إلى جانب النص القرآني. يعتقد أنها المسؤولة الأولى عن أفول العقلانية العربية الإسلامية، وما استتبعه من انغلاق ذهني وحضاري أنهى العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، ومن حروب طائفية ومذهبية متأججة. وقد تمخّض التدامج بين الحديث والفقه عن تسييد ايديولوجيا شمولية تتدخل في الجزئيات كما في الكليات، وفي الحياة الخاصة كما في الحياة العامة، حيث تحوّل المسلم «المكلّف» حسب العبارة الفقهية إلى إنسان آلي.
في «هرطقات» سيعرض بإسهاب إشكالية الصراع بين السنة والشيعة، بعد ما رأى ما حدث في العراق من احتراب مذهبي غداة رحيل القوات الاميركية عنه.

البؤس الطائفي
ويجد طرابيشي أن هذا ناجم عن بؤس الفكر الديني الذي ينتشر ويسود في صفوف شرائح شعبية كثيرة أوصلته إلى حرب قولية بين المذهبين، وهو الذي مهّد لهذه الصراعات الدامية، وتحوّل بعامل التراكم الزمني إلى حرب تصاعدية. وقد لعبت كتابات ابن تيمية دوراً خطيراً في التعبئة النيووهابية ضد الشيعة، لا سيما في كتابه «منهاج السنة». وفي تأسيس سلفية جديدة تميّزت بمنزع جهادي متجه إلى الداخل لا إلى الخارج، أي إلى الإسلام المخالف. وأسهم في انبعاث الفتاوى الاستئصالية نشوب الحرب العثمانية ـ الصفوية.
ووجد طرابيشي بعد استعراضه لمؤلفات تراثية عند السنة والشيعة انها تكفّر بعضها البعض. وبحسب رأيه فإن النصوص المرقونة على شبكة الانترنت حالياً جاءت لخدمة السياسات والأهداف الايديولوجية الطائفية، حيث يخوض الطرفان ما يسميه «حرب شوارع إلكترونية حقيقية». وعلى هذا النحو فإن ثقافة الفتنة غدت مباحة لأي كان.
وكان من أهداف العرض التاريخي المطوّل للاجتهادات والأحكام المضادة ان استدلّ طرابيشي على ان الطائفية في الإسلام ليست حدثاً طارئاً ولا مصطنعاً بعامل خارجي. بل هي راسخة وقديمة قدم الإسلام نفسه، وهي ثابتة من ثوابته. فكيف السبيل الى عقلنة الصراع. والعقلنة مفهوم يحرص عليه طرابيشي باعتباره المسار الإلزامي لعبورنا إلى العصر الحديث والرؤية الحديثة للإنسان والدين. لذلك يدعو طرابيشي إلى بيداغوجيا طويلة النفس تقوم على علمنة المجتمع وإعادة تربية ذاته، وقبوله بشرعية تعدد الأديان والطوائف. وإعادة اكتشاف العلمانية وتطويرها بما يتناسب وتكييفها مع الظروف العربية الاسلامية. وإذا كانت العلمانية في الغرب قامت على أساس التحييد الديني للدولة، فإن العلمانية في المجال العربي الإسلامي لا بد أن تقوم على التحييد الطائفي والمذهبي للدين نفسه في النفوس والعقول والمؤسسات، قبل أن تتعلمن الدولة.

السفير

 

 

 

 

النقاء الثقافي.. شرفةُ العقلانيين/ ياسر اسكيف
آخر العقلانيين العرب. وصفهُ البعض بهذا. وربّما كان هذا البعض يقصد بذلك آخر المثقفين العقلانيين الذين تركوا أثرا لا يمكن إغماض العين عنه في ثقافتنا العربية. إنه المُفكر السوري الحلبي (المسيحي) جورج طرابيشي (1939ـ2016) الذي بدأ، كما بات الجميع يعرف، بعثيّاً، ثمّ وجوديّاً، فماركسيّاً، وانتهى مُثقفاً خالصاً، يضع بينه وبين الأيديولوجيا مساحة أمان كافية لعدم الوقوع في فخ الدوغمائية والبراغماتية الذي وقع فيه أغلب المثقفين العرب.
من نقد الرواية، مُستخدماً منهج علم النفس، إلى سلسلة «نقد نقد العقل العربي» التي جاءت في أربعة أجزاء بدأت بـ «نظرية العقل العربي» وانتهت بـ «العقل المستقيل في الإسلام» مسيرة امتدّت لأربعة عقود، وأثمرت مئات الكتب، تأليفاً وترجمةً، دأب (طرابيشي) على ترك مساحة الأمان تلك. وهو يرى في انتقالاته تلك نوعاً من التراكم والتجاوز إذ (كان تراكماً معرفيّا ونقديا في آن واحد. حوار مع حسين بن حمزة 2009) وكان عندما يشعر بأن الفكر الذي يتبناه لم يعد يعطيه القدرة على تفسير ما نحن عليه فإنه يتجاوزه.
غير أن الحذر من الوقوع في فخ الأيديولوجيا، هو بحدّ ذاته نوع خاص من الأيديولوجيا، فالثقافة المحضة، مهما كانت مُصانة بالعقلانية، هي أيضا في النهاية موقف، أو مواقف من العالم. ولا يغيّر في هذا الأمر شيئا أن تكون المعركة ثقافية بالنسبة للمثقف. ذلك أن (طرابيشي) كأنما يختصر الأيديولوجيا بالموقف السياسي: «أنا لست مناضلا على الصعيد السياسي أو الحزبي. بالنسبة لي المعركة ثقافية» ويكرّر: «معركتي ليست مع الجمهور العريض. أنا أعمل على مستوى النخبة الثقافية وأتوجه إليها» وهذا ما جعل الإجابة عن الأسئلة التي يؤسس عليها دراساته وأبحاثه شبه غائبة. ليس لأنه لا يمتلك إجابات على الكثير من المسائل التي تثيره كأسئلة، بل حفاظاً على مساحة الحذر. وحتى في حواره النقدي مع مشروع «محمد عابد الجابري» كان حذره واضحاً حينما يتوقف دوما عند التصويب وإعادة الحفر بالطريقة التي يراها أكثر أمانةً ودقة، وهو بهذا يستخدم قانون نفي النفي (نقد النقد) ليشير إلى المغالطات الجوهرية التي يرى أن الجابري قد وقع بها. وأهمها على الإطلاق، إذ كانت سبب الطلاق بينهما، التزوير وانتزاع النصوص من السياق، التي قام بها (الجابري) في ما يخص «رسائل إخوان الصفا» ليؤكد رفضهم للمنطق.

لقاء ثقافي
لقد وجد (طرابيشي) مأمنه الذي يبقي على نقائه الثقافي، وعدم انحراف مشروعة نحو الأدلجة في البحث التراثي، محاولا إيجاد إجابة عن السؤال القديم الجديد: «لماذا تقدّم الغرب وتخلّف العرب؟» وكأنما قد وجد جوابا عن هذا السؤال المُعضلة يفيد بأن عطالة العقل العربي الإسلامي لم تكن بسبب غزوة خارجية من قبل الغنوصية والهرمسية والأفلاطونية المُحدثة بطبعتها المشرقيّة، كما علّل (الجابري)، إنما يعود السبب إلى الانقلاب السني (من سُنّة) الذي تمثّل بتحوّل الحديث النبوي إلى قرآن بعد القرآن، بل حتى قرآنا قبل القرآن في بعض الحالات المُتطرفة. كما يؤكد في حواره مع رشا الأطرش (صحيفة السفير 23-7-2010) وهو بهذا حدّد موقفاً واضحاً في رفضه للإسلام التاريخي وانحيازه إلى إسلام النص. فهذا الإسلام التاريخي هو الذي جعل من النص نصوصاً عبر إحلاله الحديث كنصّ مواز، أو بديلا لدى بعض الفقهاء ومؤسسي المذاهب.
ولأن مجموعة هذه النصوص هي التي تشكّل التراث الإسلامي، إضافة إلى القرآن والحديث، فكيف يُفهم تأكيد (طرابيشي) رفض الانتقائية في النظر إلى التراث، واعتباره كلاً واحداً يجب الأخذ به، إذ لا يجوز برأيه «تقسيم التراث إلى قسم قابل للإحياء، وآخر ينبغي أن يموت. أو تراث تقدمي وآخر رجعي»؟! وقوله هذا يستحض إلى الأذهان عدداً من الكتب التي تصدّت لدراسة التراث «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلاميّة» لحسين مروّة، و «اليمين واليسار في الإسلام» لأحمد عبّاس صالح، وأهمها على الإطلاق «الثابت والمتحوّل» لأدونيس. حيث انطوت هذه الأعمال، عبر جهدها البحثي، على رأي مختلف ومغاير، وبيّنت أن الكثير من التراث الإسلامي يحمل موته في بنيته، ولا مجال لإحيائه أبدا.
غير أن طرابيشي، رغم إقراره في أكثر من مكان، بأن الإسلام المعيش هو الإسلام التاريخي الفقهي، وان الحروب الإسلامية – إسلامية هي نتيجة هذه التاريخيّة، فإنه يصرّ على عدم الانتقائية في التعاطي مع التراث. الأمر الذي يبدو كأنه تناقض ما في المنهج البحثي الذي عمل به طوال عقدين من الزمن. لكن نظرة الشك هذه ستزول مباشرة عند من يطلع على المرتكز البحثي الأساس لديه، ألا وهو الثقافي المحض، بل التشخيصي الوصفي، الذي يتجلى في الحفر والتنقيب، ومن ثمّ العرض. شأنه في ذلك شأن المُنقّب الأثري. فالتعاطي اللا إنتقائي مع التراث لا يصح ولا يستقيم عند من يبحث في هذا التراث من موقع الباحث عن التغيير وفق نظريات مُسبقة، أي الباحث القادم من ناحية فكرية انقلابية، أو تغييرية. إنما فقط مع الباحث الذي لا يعني في بحثه سوى الإضافة الثقافية، ومراكمة تراث على التراث.
وفي الانتقال إلى الراهن العربي تتأكد عقلانية (جورج طرابيشي) وتتعزّز، منطلقاً في موقفه هذا من أن الأيديولوجي ليس لديه قدرة على حوار حقيقي. وبأن الثقافي أسمى من المُقايضة على الجماهيرية والشعبية. وبالتالي لم يحذ حذو المثقفين العرب الآخرين الذين سارعوا، من باب التعطّش إلى الكسب الجماهيري، إلى التشدّد في المواقف الثورجية، وادعاء القطبية في التأثير والقيادة، كما الانقلاب على المواقف، إن لم نقل المبادئ. ولم يُفرّط أبدا بمساحة الأمان النقدية والأخلاقية التي منحها لنفسه ولمشروعه، والتي بدت ممحوّة وملغاة عند أغلب المثقفين العرب.

مراقب
إن (طرابيشي) لم يستكبر على الجماهير العربية حراكها وانتفاضاتها، بل أكّد، وأعاد التأكيد، أن السلطات العربية جميعاً قد أغلقت كلّ منفذ على التغيير، وبات من الطبيعي أن تنتفض هذه الجماهير مُطالبة بحقوقها، وساعية إلى حياة أفضل. لكنّ ريبة ما كانت تساوره، كمُراقب، وليس كفاعل، مثلما ادعى غيره من المثقفين، حول مرجعيات وتوجهات هذه الانتفاضات. فتسميته لما جرى بالانتفاضات بديلاً من الثورات، كما سُمّيت، يمتلك مُبرر الدفاع عن نفسه، حيث إن «الانتفاضات من شأنها أن تسقط أنظمة» كما حدث في أكثر من بلد عربي «أما الثورات فليست مهمتها إسقاط أنظمة فقط، بل بناء أنظمة جديدة تتجاوزها وتتقدّم عليها» (من حواره مع عصام الشيدي – مجلة شرفات العُمانية ـ نيسان 2013) وهذا ما لم يحدث أبداً في أي بلد من البلدان التي سقطت أنظمتها. إذ إن الذي حصل بعد إسقاط الأنظمة هو استرداد أيديولوجي لهذه الانتفاضات. فلأول مرّة، كما يرى (طرابيشي)، تنجح التكنولوجيا في إسقاط الأيديولوجيا، لكنّ هذه التكنولوجيا، عبر قنواتها ذات التأثير الهائل، بدأت تُعيد توريد الأيديولوجيا من جديد، ولكن أيديولوجيا بديلة من أيديولوجيا الأنظمة الساقطة.
ولأنه السوري، والأقرب يوماً إلى علامتين فارقتين في الثقافة السورية هما (ياسين الحافظ) و(الياس مرقص)، ولما لهذا القُرب من إشارة إلى الاختلاف والتميّز، فإن لموقف طرابيشي، الذي لم يُخيّب أمل من اختبر عقلانية مشروعه الفكري، من انتفاضة الشعب السوري أهمية تتأتى من كمّ التبصر العقلاني، أسوة بمواقف مثقفين آخرين هرعوا إلى الاصطفاف مباشرة في غير مواقعهم، وهم في ثياب النوم. إنه في العام يرى الانسداد والانغلاق ذاته في أفق التغيير الذي كرّسته الأنظمة العربية، وفي الخاص يتبنى الموقف الذي يرى بأن (السلطة) قد ابتلعت (الدولة) وباتت السلطة، بطريقة ما، ضد الدولة. وهذا ما يشكل الخطر الأكبر على الداخل السوري، إذ إن التشكيلة الاجتماعية السورية تختلف عن غيرها من التشكيلات في المنطقة العربية. وغياب الدولة سيقود، من دون شك، إلى حروب أهلية. وهذا ما غاب عن مُثقفين آخرين عطّلوا حدسهم وبصيرتهم، وباتوا يتحدثون عن إسقاط النظام على أنه ليس الدولة في الحالة السورية، ومن ثمّ، في حال كان من أسقطه، وهو المؤكد أن سقط، قوى لا ديموقراطية، يبدأون ثورتهم الديموقراطية. وهم من أجل هذا الإسقاط قد غضّوا الطرف، في تحالفاتهم، عن الدم السوري النازف. فيما كان طرابيشي يردّد «بالفعل نبكي فرحاً لسقوط هذه الأنظمة، ولكن قد نبكي حزناً للأنظمة التي ستحلُّ محلّها» (من حواره مع عصام الشيدي).
(كاتب سوري)

السفير

 

 

«الألم يشل القلم»/ صقر ابو فخر
هكذا أجابني جورج طرابيشي في رسائلنا الأخيرة التي تبادلناها في شباط 2016، فباح لي بأن المأساة السورية جعلته لا يستطيع الخروج من صومعة اليأس والألم، وأن «الألم يشل القلم». وكان شديد الأسى لانفكاك أصدقائه، خصوصاً المشارقة، عن التواصل معه في منفاه الباريسي. وكم أفرحتني إحدى رسائله التي تراءى لي منها أنه بدأ يخرج من «صومعة اليأس والألم»، وأنه استعاد القلم وتغلب على الألم، وشرع في لملمة أوراقه، ويستعد لتوريق كتاب جديد. قال لي: «الصديق الصديق صقر، رسالتك بلسم، وهذا بالمعنى الحقيقي لا المجازي. فحال قراءتي لها مثنى وثلاث وجدتني أنفض عني غبار اليأس والألم، وأعود إلى فتح أوراقي التي كنت شرعت بكتابتها قبل أربع سنوات، ومدارها على دعوى الإعجاز العلمي للقرآن، وهي الدعوى التي أخذت في السنوات الأخيرة، كما تعلم، أبعاداً أيديولوجية «موسوعية» غير مسبوقة. وكنت قد حشدت مئات بل آلاف الشواهد، لا أغالي، بدءاً من مأزق المسيحية القروسطية أمام الفتوحات العلمية للعصر الحديث، ومروراً، بعد ذلك، بكل تفاسير القرآن لدى السّنة كما لدى الشيعة، وهو عمل كان سيقتضي مني زمناً لا يقل عن ذاك الذي كرسته لنقد الجابري. وكل ما آمله ألا تعود همتي إلى الخمود، ولا سيما إذا أخذت المأساة السورية أبعاداً أشد مأساوية بعدُ (…). لك دائم صداقتي في هذه الأيام التي انعدم فيها لدى المثقفين العرب ـ وخاصة المشارقة ـ وجود الصداقة (رسالته إليّ في 12/2/2016).

سحقته الآمال المجهضة
اعتقدت أنني فعلت أمراً ثميناً حين حفزت جورج طرابيشي على إمرة قلبه بالتوقف عن الوجيف، وأن يومئ إلى مشاعره بأن توقف الارتعاش المضني، وأن يستعيد القلم الذي يورق دائماً بين أصابعه فكراً ثاقباً ونقداً مدهشاً. لكن الموت دهمه، ودهم خبر رحيله كياني، وأورثني حزناً دامعاً، وكدت أقترب من «صومعة اليأس والألم» بعدما توهمت أن جورج طرابيشي سيهدي إلينا قريباً كتاباً جديداً.
جورج طرابيشي سحقته الآمال المجهضة والأحلام العاصفة، فاعتقد ان كتاباته في النهضة والتقدم والحداثة والتنوير والعلمانية والديموقراطية أوشكت أن تنقف أزهاراً، وبدا له كما لو أن القطاف قد حان، لكن رياح الإرهاب والتكفير ذررت أزهاره كغبار الطلع، وعلم أن ما يجري في بلاده سيؤدي، بلا ريب، إلى استبداد الماعز الخارج من كهوف تورا بورا أو من الصحاري القاحلة، بالمراعي البهية التي سقاها ببصر عينيه ومداد عقله طوال ستين سنة من التفكير والكتابة، وانتظر أن تُخرج هذه الأرض رياحينها، لكنها أخلفت وعدها وأقحلت، فانزوى في صومعته كأنه يردد: «نفسي حزينة حتى الموت».

الفلاسفة
كثيراً ما ردد جورج طرابيشي أن الحداثة الغربية صنعها الفلاسفة. أما إخفاق الحداثة العربية مسببة غياب الفلاسفة، ففي العالم العربي هناك مشتغلون بالفلسفة، ولا يوجد فلاسفة. ومع ذلك تطلع إلى تجديد النهضة العربية على قاعدة الولادة الثانية للنهضة كما حصل في أوروبا التي عاودت الإقلاع نحو الحداثة في القرن السادس عشر بعد سنين من الظلام. وبهذا المعنى فإن جورج طرابيشي كان، بحق، مرحلة فائقة الأهمية في مسيرة طويلة من التنوير والنهضة والتقدم ربما بدأت بشبلي الشميل وفرنسيس المراش وعبد الرحمن الكواكبي، صعوداً إلى منصور فهمي وسلامة موسى وطه حسين وعبد الرحمن الشهبندر وأدونيس. وهو، إلى ذلك، مثل كتاب موسوعي متعدد الأجزاء والفصول، على غرار مفكري عصر التنوير الأوروبي، إذ كتب في الأدب والنقد الأدبي، وفي الفلسفة والتحليل النفسي والدين والتاريخ والتراث والفكر والثقافة والسياسة والترجمة، فكان راهباً في صومعة الفكر التي أبقى جمرة المعرفة مشتعلة بين أصابعه. وجورج طرابيشي كان من ألمع أبناء جيله الذين خاضوا غمار التحولات الفكرية المتعاكسة بعد هزيمة عام 1967، حين راح كثير من القوميين يتحولون أفواجاً إلى الماركسية، وعندما شرع بعض الشيوعيين في التحول إلى القومية أمثال ياسين الحافظ الذي انفتل من الشيوعية إلى البعث ليحاول أن يمركس البعث على منوال صديقه الياس مرقص الماركسي ـ الناصري.
وهذا اليسار الحديث لم يظهر من داخل الأحزاب الشيوعية القديمة، بل من رحم الأحزاب القومية المضطربة. وفي هذا الشوط ساهم جورج طرابيشي في نقل التفكير القومي من الرومانسية والأيديولوجية إلى العقلانية. ولعل سجاله مع محمد عابد الجابري كان من أمتع السجالات الفكرية في مطالع الألفية الثالثة، وتمكن بمهارة صانع السجاد الحلبي من أن «يفصفص» مؤلفات الجابري («تكوين العقل العربي» و «نقد العقل العربي») وينزله عن مكانته المزوّرة كما برهن ذلك في كتابه المهم «نقد نقد العقل العربي»، حتى أن أحد الظرفاء راح يردد أن محمد عابد الجابري عبقري بلا شك، فقد كتب كتباً عدة تشكل معاً موسوعة كبيرة عن شيء غير موجود اسمه العقل العربي.
لم تخدعه قط موجات «الجماهير» التي كان القوميون والشيوعيون «يسلطنون» على هتافاتها، فالجماهير تصبح فاشية من دون مجتمع حداثي ودولة حديثة. وتخوف من تحوّل الطوائف إلى جماعات سياسية، لأن مثل هذه الجماعات لا تستطيع الوقوف على أرجلها إلا بالاغتذاء الدائم على الرثاثة والشعبوية. وأي بقاء لهذه الجماعات لا يعني، في نهاية المطاف، إلا انحلال المجتمع الحديث لمصلحة المجتمع الأهلي وكذلك تضاؤل الدولة. وهذا ما حدث حقاً في سوريا والعراق. فإذا كان جورج طرابيشي تألم كثيراً لأن الحركات السياسية العلمانية العربية لم تتمكن من إقامة جسور متينة مع الكتلة الأكبر من الجمهور الذي بقي مقيداً إلى تقاليده القديمة وعقائده العتيقة، فقد كانت آلامه مضاعفة حين لاحظ أن محاولات النهوض العربي لم ترافقها حركة تنوير شاملة تخرج «الجماهير» من انتماءاتهم القبلية وعقائدهم التقليدية، وأن عصر النهضة العربية الموؤد الذي بدأ في الشام ومصر لم يحمل معه أي نهضة اجتماعية حقيقية. فإذا كان انقلاب المجتمع الأهلي على بقايا الحداثة في سوريا يكاد يقضي على هذا البلد، فإن آلاماً عظيمة كابدها جورج طرابيشي جراء ذلك، وأورثته حزناً لا يطاق، وتغلبت عليه في نهاية المطاف، فغادرنا بلا وداع… فيا لمرارة الأيام.

السفير

 
العلمانية المغدورة/ لؤي ماجد سليمان
حفل تأبين الكتروني فقير على الصفحات الافتراضية ومواقع التواصل الاجتماعي لشخصية سورية بحجم مفكر، لم يذكرني إلا بمدينة تدمر حين دخلتها داعش، هل تموت الأوابد ؟ لا أرغب في تعداد ترجماته أو حصر مؤلفاته والإشادة ببحوثه، إذ يتبادر إلى ذهني بحثه الصادر عن مجلة الآداب اللبنانية عام 2007 الذي جاء ضمن عدة بحوث تتحدث عن «العلمانية في السياق العربي الإسلامي» والذي أهداه المفكر (جورج طرابيشي) للسيدة الراحلة (ليلى فرعون) حرم رئيس الوزراء الأسبق سليم الحص التي بقيت على دينها الأصلي إلى أن حانت ساعة وفاتها، فطلبت أن تعتنق الإسلام، وهذا ما لم تكن مطالبة به من قبل زوجها أو أحد سواه، لكنها عللت رغبتها بأنها لا تريد أن تدفن إلا إلى جانب قبره وليس في مقبرة أخرى، هي إشارة ومساهمة منها لتحول ثقافة الكراهية الدينية، إلى رسالة المحبة العابرة للمذهبية والطائفية، وتنويه من الباحث (طرابيشي) على أهمية تلك الرسالة وما تحمله من مضامين في زمن أهم سماته الادعاء.

الاشكالية
الدراسة ذاتها «العلمانية كإشكالية إسلامية – إسلامية» طرحها في مؤتمر»العلمانية في المشرق العربي» الذي كان من المفترض أن يقام على مدرج جامعة دمشق عام 2007، وتحول بطلب من وزير الثقافة رياض نعسان آغا وقتها إلى ورشة عمل صغيرة بعد اعتذار الجامعة عن استضافته، وتحويله إلى (مائدة عمل مستديرة) في المركز الثقافي الدنماركي بدمشق القديمة، بعيداً عن الجمهور وأعين وسائل الإعلام.!
وقتها طرح (طرابيشي) دراسته وقدمها كفلسفة وآلية لتسوية العلاقات لا بين الأديان المختلفة فحسب، بل كذلك بين طوائف الدين الواحد، موضحاً كيف أن الإسلام العربي بواقعه الديموغرافي يتألف من غالبية سنية، وأقليات شيعية ونصيرية ويزيدية وإسماعيلية ودرزية وغيرها، فمن منظور هذه التعددية يجب عدم اعتبار العلمانية وتصويرها على أنها قضية مسيحية – إسلامية فقط.
كان ذلك بمثابة رد على المنظرين الذين يعتبرون أن الإشكالية الرئيسية في مسألة العلمانية، تتمثل في كونها مفهوماً مستورداً من الغرب ولا يصلح للتطبيق في مجتمعاتنا، وهي مطلب مسيحي وجد لفصل الكنيسة عن الدولة، بينما رآها المفكر الراحل مطلباً للأقليات بغض النظر عن انتمائهم الديني، فالعلمانية تقدم لهم ضمانة للمساواة أمام القانون، مبرّهناً على وجود الصراع الطائفي في الإسلام، أضف إلى ذلك أن هذه الحجج غير كافية لإلغاء تطبيق العلمانية في العالم العربي طالما أنه هناك حاجة وصراع مستمر أشد ضراوة، فهي لا تختلف عن «الديمقراطية» التي صنعها الغرب واستوردها العرب ويدعون تطبيقها.
غير أن (طرابيشي) اعتبر الطائفية ثابتاً دائماً في التاريخ الإسلامي وان كانت استمرت عشرات السنوات بين الكاثوليكية والبروتستانتية وكان من نتائجها تكريس العلمانية، فإن الحروب الإسلامية استمرت مئات السنين بين السنة والشيعة ولم ينتج عنها منذ (صفين) و(الجمل) حتى هذا التاريخ إلا البغض والكره بين السنة وباقي الفرق، وبين السنة والأديان الأخرى، وهذا ما أشار إليه (جورج) لكن بشكل مهذب في المؤتمر ذاته معتبراً أن «الضغائن والأحقاد في المجتمعات ذات البنية القبلية ترفع الثأر إلى مرتبة القانون».
رأى صاحب «من النهضة إلى الردة» أن هناك إشكالاً نظرياً خطيراً تثيره الديمقراطية المفصولة عن توأمها العلمانية، من باب أن فلسفة الديمقراطية وآليتها تقومان على اعتبار الأمة والشعب هما مصدر التشريع، والحقيقة التي لا لبس فيها اليوم على الأقل؛ أن الإسلام اعتمد بشكل أساسي في التشريع على القرآن والسنة، إذ كان (طرابيشي) يطالب بضرورة مزاوجة الديمقراطية والعلمانية.
كما أن إشكالية مصدر التشريع – برأي المفكر السوري – خلقت إشكالات نظرية وعملية، الأولى تتعلق بمسألة المساواة في العلاقة بين الجنسين، والثانية تتصل بنصاب العلاقات الجنسية في قانون العقوبات، إذ أن المساواة باتت من بديهيات الديمقراطية في العالم المعاصر، بينما في الواقع، فإن الشرع الإسلامي لا يقر للمرأة بهذه المساواة، سواء في الزواج والإرث، أو في (الإمامة) التي يحجبها عنها تماماً.
أدرك (طرابيشي) إن لامساواة متعددة الوجوه ترزح تحتها المرأة العربية أبرزها «قانون الأحوال الشخصية» المرتبط بالشرع الإسلامي، إضافة إلى مسألة الإرث التي تناولها في بحوثه -لا من حيث أنها لا مساواة فحسب – بل من حيث الدور الذي تلعبه هذه المسألة في الحراك الطائفي، فموضوع (حق الأنثى) في الإرث يختلف بين الفقه السني والفقه الشيعي الذي يثبت حق الفتاة في الإرث كاملاً إذا لم يكن لديها إخوة ذكور، ولهذا يضطر بعض الآباء للتحول عن مذهبهم السني الأصلي إلى المذهب الشيعي ليضمن حق توريث الإناث في غياب الذكر! ومن مشاهير من فعل ذلك رياض الصلح رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، وسليم الحص رئيس الوزراء السابق.
أما فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية، فإن قانون العقوبات وحسب ما طورته الأنظمة الديمقراطية يميز بين مفهوم الخطيئة ومفهوم الجريمة – برأي طرابيشي – ولا يعتبر العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج أو العلاقات المثلية جريمة يعاقب عليها القانون، بينما في الشرع الإسلامي يعتبر ذلك جرماً يستحق العقاب ويستوجب الجلد والرجم حتى الموت أحياناً، وذلك حسب الدولة أو المملكة. من هنا جزم (طرابيشي) بضرورة علمنة قانون العقوبات وإلا لن يكون هناك «ديمقراطية جنسية» كما يستحيل إلغاء العقوبات الجسدية من قانون العقوبات، وعليه لا ديمقراطية بلا علمانية لأنه في ظل العلمانية يمكن للمرء أن ينعتق من عقليته الدينية الطائفية.
ما يميز صاحب «هرطقات» أنه في بحوثه حول العلمانية وضع يده على الجرح بشكل مباشر ليبين المشكلة الطائفية الحقيقية في الوقت الذي تحاول الحكومات والأنظمة العربية وكثير من الباحثين ورجال الدين تصديرها على أنها مشكلة إسلامية مسيحية مرتبطة بالغرب، بينما الحقيقة أعمق من ذلك بكثير، وما صور التآخي بين رجال الدين المسيحي والإسلامي، وثنائيات المحبة، وعناق الهلال للصليب التي يصدّرها الإعلام العربي إلا حقائق غير كاملة من حيث الطرح، ولعلاج المشكلة الطائفية والتعصب نادى (طرابيشي) بضرورة النظر إليها كإشكالية إسلامية- إسلامية أولا، ثم الخروج للتآخي مع الكنيسة و(الغرب الإفرنجي).

سيف التراث
حروب نقدية عديدة خاضها هذا المفكر العنيد، فبدأها في حقول النقد الأدبي ونقد الرواية، وآخرها في نقد التراث العربي الإسلامي، إذ يقول: «ما من ثورة وما من تغير يدخلاننا العصر من دون الارتباط بالتراث ونقده» ليخوض حروباً بعدها للدفاع عن وحدة التراث بعيداً عن الصراعات الإيديولوجية، ففي كتابه (مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة) هاجم (طرابيشي) توفيق سلوم صاحب (نحو رؤية ماركسية للتراث العربي) وتناول (زكي الأرسوزي) كمعبر عن النموذج القومي العلماني، ومحمد عمارة كممثل للتيار القومي الإسلامي وغيرهم من المفكرين كان أهمهم (الجابري) الذي تصدى لكتابه «نقد العقل العربي» الرحلة النقدية التي استمرت قرابة عقدين من الزمن خصصها (طرابيشي) لكشف الشواهد التي زيّفها المفكر المغربي لتخدم ما صاغه من إشكاليات انطلاقاً من موقف إيديولوجي مسبق، وتوظيفه الابستمولوجيا في خدمة الايدولوجيا، وهي إيديولوجيا متعصبة لما يطلق عليه بالعقلانية المغربية ضد اللاعقلانية المشرقية، وللبيان السني ضد العرفان الشيعي، وللإسلام السياسي ضد الإسلام الروحي.
حياة مليئة عاشها هذا الرجل مفعماً بالمعارف والعلوم والنظريات من هيجل إلى سارتر وكارل ماركس؛ نثر الكثير من الدراسات والأفكار بذوراً له في حقول الوعي العربي وملفاته المعطلة، ناهيك عن الغربة التي عاشها في فرنسا والتي جعلت من التراث وطناً وملاذاً له في المهجر، وسلاحاً وظفه في معركة الحداثة ضد موجة الأصولية من خلال الرجوع إلى المواقع التراثية التي يتحصن بها خصومه ومن ثم نقدها. لقد نبش (طرابيشي) في تاريخ الأسلاف ليؤكد نظريته بأن مشكلة العقل العربي ليست مستوردة وليست وليدة الحاضر، إنما متأصلة فينا كعرب من الماضي، من النصوص القديمة والأصولية الدينية التي يجب أن تكون نقطة البداية في أي مشروع حضاري علماني يحرر الأجيال من التخلف والرجعية والتفكير الإقصائي الذي نسب سببه إلى العقل وطرق التفكير وليس المعتقدات الدينية فقط: «لن نستطيع أن نخوض معركة الحداثة ونحن عراة من النقد الحقيقي».
ما ذكره (طرابيشي) في مجمل بحوثه وحواراته ومؤلفاته لخصه في «ست محطات في حياتي» كانت أولاها هروب الطفل (جورج) من المسيحية بعد تدينه المفرط بسبب خوفه من (الإله الذي ينتقم من طفل لخطيئة ارتكبها ولا يشفى غليله منه إلا بحرقه ملايين السنين)! ومدرس الديانة الإسلامية الذي اعتبر أن (كل من هو غير مسلم عدو للإسلام)، وإصرار رفاقه الحزبيين المسيحيين الذين ادعوا التقدمية على فكرة ثأر الذكورة من الأنثى بحجة الشرف، ليؤكد (طرابيشي) أن قضية الوعي الاجتماعي لا تتعلق بانتماء ديني، أو إيديولوجي، وإنما بقضية العقل البشري وبنيته المرضية الرجعية، ليعتمد المفكر الراحل في ذلك على المكبوت في اللاوعي كنظرية فرويد «التداعي الحر» التي تتمثل في الرغبات المكبوتة والبدائية ولا تحكمها أعراف ولا قوانين ونظرية «الهو» شخصية الطفل الذي يتعامل مع الدنيا بسجيته، و(إنسان الكهف) الذي لم يعرف سوى قانون الغاب.
(كاتب سوري)

السفير

 

 

 

مقاتل من نوع خاص../ انور مغيث
أدرك جورج طرابيشي، في بداية حياته الفكرية، أن فرويد وسارتر وماركيوز ليسوا مجرد مفكرين ذائعي الصيت، ولكنهم كانوا المعبّرين عن إحباطات البشرية وطموحاتها في النصف الثاني من القرن العشرين. ولقد لاقت ترجماته لهم وكتاباته عنهم صدى كبيراً لدى القراء العرب حتى منتصف السبعينيات. فكأنه بتقديمهم لنا قد أراد أن ينتشلنا من واقعنا المتردي وسجالاتنا الفكرية العقيمة ليضعنا في قلب العالم. ونحن بدورنا انطلقنا متحمسين ومتفائلين كي نبني، مع المناضلين في مختلف بقاع العالم، مستقبلاً أفضل للبشرية بأسرها.
لحظة قصيرة عابرة كتلك اللحظات التي عرفها نيتشه في فترة نقاهته حيث تخلص من المرض وامتلأ تفاؤلاً، فمضى يؤلف كتاب «العلم المرح». هكذا كان حال المثقفين العرب مع الأفكار التي كانت تشغلهم في الستينيات. ولكن للأسف لم تستمر هذه اللحظة طويلاً. وجورج طرابيشي نفسه، بعد تلك الانطلاقة الإنسانية والكونية، يعود في ثمانينيات القرن الماضي ليقاوم خفافيش الظلام في القبو المعتم الذي يعيش فيه عالمنا العربي.
لماذا يدير جورج ظهره لجدل الأفكار في العالم ولماذا لم يعد يتابع الفلاسفة الغربيين. هل كفّت البشرية عن أن تطرح مشكلات جديرة باهتمامنا؟ وهل أصيب الفكر العالمي بالجدب؟ أم بالأحرى أننا في العالم العربي قد أخطأنا حين شغلنا أنفسنا بالمشكلات المعاصرة للبشرية وألقينا على عاتق التاريخ مهمة أن يخلصنا من ثقافة الماضي. لقد تصورنا أنه يكفي أن تكون رغبتنا في التقدم محمومة حتى يزول التخلف من تلقاء نفسه.
كان هذا هو حدس طرابيشي، لقد أعفينا أنفسنا إيثاراً للسلامة من مهمة نقد السماء في ثقافتنا، فلم نستطع أن ننتج شيئاً ذا بال فيما يخص تقدم أمتنا. راع طرابيشي، شأنه شأنه الكثير من المثقفين اليساريين، انتشار الثقافة المحافظة في فكرنا العربي بعد هزيمة 1967. وكان من الطبيعي لمفكر مُلمّ بالتحليل النفسي مثله أن يدرك أن الإحباط والخيبة حينما يتملكان الشعب يكونان دائماً دافعين للبحث عن خلاص في العالم الآخر، وأن القهر والاستغلال اللذين تتعرض لهما الشعوب العربية يؤكدان دائماً حقيقة أنه في شقاء الشعب توجد فرصة الكاهن. الظاهرة التي استرعت انتباه طرابيشي في وسط هذا المشهد هي انحياز عدد كبير من المثقفين لهذه الثقافة المحافظة، وانتشار خطاب رجعي محافظ يبرر حرمان الأفراد من حقوقهم وسلب السيادة من الشعب وقمع المرأة، أي بعبارة أخرى خطاب يدير ظهره للحداثة.
هو في نهاية خطاب يصادق على كل ما يطالب به الدعاة السلفيون الشعبويون في زوايا الأحياء العشوائية. لكنه يبدو خطاباً متعالماً مليئاً بالمصطلحات الأجنبية، لا يكف عن ادّعاء الإلمام بآخر منتجات المعرفة ونظريات ما بعد الحداثة. ومن أجل نقد هذا الخطاب تحديداً وتفكيك أساطيره، كرّس طرابيشي معظم جهده الباقي في حياته.

ثلاثة مبررات
استلزمت هذه النقلة الفكرية وهذا التبديل لمركز الهمّ والانشغال ثلاثة مبررات معرفية لدى جورج طرابيشي: أولها أن الرأسمالية باقية وليست على وشك الانهيار كما كان الظن في لحظات الالتزام الماركسي. وأن لهذه الرأسمالية ليس القدرة على تجديد نفسها بل أيضاً القدرة على نقدها واحتواء الدعوات إلى تجاوزها. انتهت إذن ولو مؤقتاً مهمة بناء المستقبل المشترك للبشرية مع مناضلي العالم وصار على كل فرد أن يعود ليعتني ببيته. المبرر الثاني أن تراثنا الإسلامي بكل ما فيه من صراعات وتحيزات هو مرآة لما نراه في حياتنا المعاصرة وما سنراه، فنحن لم نخرج منه بعد، وما جرى فيه سيجرى مراراً لأننا، على خلاف الشعوب الأخرى، لم نحدث أي قطيعة معه من أي نوع. أما ثالثها فلا يوجد أي فارق جوهري بين خطاب الجماعات الدينية المتشددة ذات الأطروحات الفظة التي تثير استهجاننا، وفكر المثقفين الإسلاميين «المعتدلين» من أنصار الهوية وتأكيد الذات في مواجهة الآخر، على الرغم مما في هذا الخطاب من مراوغة وفذلكة وتعقيد. فحد الردة الذي يتمسك به المتشددون دينياً لا يعارضه المفكرون الإسلاميون المعتدلون بل يؤكدونه ويطلقون عليه حد الخيانة العظمى. وكما رفض أهل السنة القدماء علوم الأوائل الخارجة عن الملة رفض المفكرون الإسلاميون المعاصرون علوم الغرب واتهموا كل محاولة للإصلاح بالتغريب. وكما يطلق الإخوان المسلمون والسلفيون في كتاباتهم لطفي السيد وطه حسين وسلامة موسى العملاء الصليبيون يتهمهم المفكرون الإسلاميون المعتدلون بالتبعية للغرب. ليست هذه مجرد زلات فكرية او انحرافات في الخطاب بل هي ممارسات فعلية تعرقل تقدم الأمة: فبعد سنوات من تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان طالب أهل الجنوب بالانفصال، وبعد ضغط دولي جرى الاستفتاء على الانفصال وحين أُعلنت النتيجة: 99%‏ في صف الانفصال، صرح رئيس السودان في أول تعليق له: الآن لم تعد بنا حاجة للعلمانية وسوف نعود إلى تطبيق الشريعة فيما بيننا نحن المسلمين. ولكي لا يكون كلام الرئيس في الهواء، تم القبض في اليوم نفسه على فتاة ترتدي بنطلوناً وتم ضربها بالعصي في ميدان عام بمدينة الخرطوم.

العلمانية
ضد هذا الوهم الذي روّج له الإسلاميون والذي يصور العلمانية على أنها إشكالية تفرص نفسها علينا بسبب وجود المسيحيين بيننا ثار جورج طرابيشي ليبين أولاً أن العلمانية مثلها مثل الحداثة، مطلب إنساني بصرف النظر عن طبيعة الدين؛ وثانياً أنها شرط لا غنى عنه لتحقيق الديموقراطية؛ وثالثاً أن المسلمين على اختلاف مذاهبهم هم أحوج ما يكونون إليها. فكما كان تاريخ المسيحية مليء بالدماء التي سالت بسبب الحروب الدينية بين المذاهب كذلك كان تاريخ الإسلام. وإذا كان تاريخ المسيحية قد توقف منذ قرنين بفضل العلمانية فإن سفك الدماء لا زال مستمراً في العالم الإسلامي بسبب غياب العلمانية.
لقد استعرض طرابيشي التاريخ الطويل للفتن التي حدثت بين الشيعة والسنة. وحينما نجد في القرن الحادي والعشرين وفى التلفزيون على الهواء مباشرة أحد مشايخ السلفية يطالب رئيس الدولة الجالس أمامه بتطهير مصر من الرافضة الأنجاس، وبعدها بيومين نشاهد قتل بعض المصريين الشيعة في ميدان عام ركلاً بالأقدام ويصور العابرون جثثهم بالتليفونات المحمولة، ندرك أن التاريخ الذي استعرضه طرابيشي لم ينته بعد. وها نحن الآن نصطلي بناره.. إن الدولة حينما تقيم العراقيل في وجه العلمانية الصريحة والجذرية وتتمسح بالدين فإن أول ضحاياها هم المسلمون أنفسهم.
كانت الظلامية مخيمة والعنف متربصاً. وكان يشعر أنه في حالة طوارئ لا تحتمل أي تهاون، وأن علينا جميعاً درء الخطر. بل حتى كانت اقتراحاته للترجمة التي كان يطلب مني إنجازها تدور كلها إما حول نقد أساطير العهد القديم أو حول المسكوت عنه من تاريخ الإسلام. هذا المدافع العنيد عن العقلانية كان محركه الدائم عاطفته الجياشة.
(كاتب مصري)
السفير

 

 

 

 

طرابيشي في محطته السابعة/ خيري منصور
لا أعرف كم من أبناء جيلي يشاطرونني العرفان لجورج طرابيشي، بما ترجم ونقد واجترح من آفاق، وإذا كانت هناك انعكاسات لمحطاته الستّ تحدث عنها في مقالة شبه وداعية قبل رحيله، فهي محطات مشابهة لدى من تابعوا طائرته منذ الإقلاع حتى الهبوط الاضطراري، فقد كان المرشد والمترجم معا لأهم ما في الفلسفة الوجودية، حين كانت الموجة الطاغية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، كما كان صاحب الفضل والرّيادة في ترجمة واحد من أعقد المشروعات الثقافية هو سلسلة علم الجمال لهيغل.
وهناك محطتان نعترف فيهما بفضله، نحن الذين استضأنا به في معظم ما كتب، هما إحداث قطيعة مع متواليات تقليدية كانت بمثابة المسلمات، ففي كتابه «شرق وغرب، ذكورة وانوثة»، علّق جرسا لم يُعلّق من قبل، هو افتضاح الهاجس الجنسوي لدى الروائي العربي الذي زار الغرب أو عاش فيه زمنا، بحيث كتبت عدة روايات منها «الحي اللاتيني» لسهيل إدريس و»عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم و»موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، في ضوء فهم شرقي يعاني من قصور في الرؤية، وكأن الضحية هنا تلوذ بأوهام الجنس لتصفية الحسابات مع مستعمرها.
كانت تلك الأطروحة حاسمة وفارقة في سياق كان يمكن له أن يتواصل، إذ سرعان ما أدرك المثقف العربي أن الغرب ليس أنثى وبالمقابل الشرق ليس ذكرا، وهنا ينبغي استذكار الراحل يوسف إدريس في «سيدة من فيينا» حيث فضح بدوره أوهام الشرقي الذي يتصور أنه بمجرد الوصول إلى الغرب سيصبح شهريارا.
والمحطة الأخرى هي ما كتبه مبكرا إلى حدّ ما عن ثنائية الدولة والأمة، وكانت تلك الموضوعة من المسكوت عنها في ثقافة سياسية تتأسس على النشيد والمونولوج والتفكير الرغائبي، وكان علينا أن ننتظر عقودا كي نرى الدولة العربية تخلع نفسها عن كيان الأمة وتحاول الاكتفاء بذاتها، مما أدى إلى دفع أثمان باهظة على صعيد الأمن القومي.
والشق الآخر من هذه المحطة هو ما كتبه عن الصراع الصيني الروسي، رغم السقف الأيديولوجي الواحد، فالأيديولوجيا مهما بلغت من الشمول والهيمنة لا تحذف البعد القومي والنرجسيات العرقية للأمم، وربما لهذا السبب قدم كل من العراق وسوريا نموذجا لذروة الاختلاف، رغم مزاعم الائتلاف الأيديولوجي، بحيث كانت تكفي مباراة رياضية للكشف عن المستور، إقليميا وسياسيا.
أما محطته الفرويدية فهي أيضا إلى حد ما محطة جيلنا الذي بدأ يلتفت إلى أهمية البعد السايكولوجي في الثقافة وبالتحديد في الأدب، خصوصا بعد أن عرفنا أن معظم ما أدرجه فرويد لما يسمى العقد النفسية ،جاء نتيجة استقراء لروايات ونصوص خالدة، إضافة إلى أساطير اليونان وما استخلصه فرويد منها كعقدة أوديب وعقدة ألكترا وجريمة قتل الأب.
وإذا كان الراحل الجابري باعتراف طرابيشي نفسه قد أخذ من عمره ربع قرن، فإن جيلنا أيضا قدم أكثر أو أقل من هذا، من أجل نشاط معرفي غير مسبوق هو نقد النقد، فالنقد كان بالنسبة للكثيرين نهاية المطاف، واتضح أنه قابل ليس فقط للنقد، بل للنقض أيضا. لكن لماذا كتب طرابيشي عن محطاته الستّ على هذا النحو الوداعي، هل استشعر دنوّ الأجل بمعناه العضوي؟ أم الصمت باعتباره موتا آخر؟
يقول إن ما أصابه في المحطة السادسة ولحظة انفجار المكبوت العربي من تفاؤل عاد به إلى أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر، سرعان ما تغير، شأن العديد من المفكرين العرب الذين أدركوا بعد فوات الأوان أنهم يستحمون في السّراب، وأن الحمل كاذب وكذلك الفجر، كانت صدمة طرابيشي كما هو حال معظمنا بانتظار ترشيدها وإعادة وضع النقاط المحذوفة والضالّة إلى الحروف، لكن الموت لم يمهله لهذا فإن ما أعنيه بالمحطة السابعة، التي لم يتحدث عنها جورج طرابيشي، هو الذهاب بالنقد السياسي والاجتماعي إلى أقصاه، كي يصبح الفرز متاحا بين الثورات وما يشبهها من حيث الانفجارات الاجتماعية وما يصاحبها من أعراض جانبية تهددها بالانزلاق نحو الفوضى المدمرة، بحيث تأكل الثورات أبناءها وأحفادها أيضا.
إن طرابيشي شأن معظم المفكرين المعاصرين من ذوي التجارب الحزبية المبكرة لم يستطع أن يبقى داجنا في الشرنقة، وهو يذكّرنا بما كتبه سارتر عن المثقف وافعى البوا، فالحزب يختنق بالمثقف ويضطر إلى لفظه ناعتا إياه بأنه عسير الهضم.
لكن طرابيشي بقي مهجوسا بأشواق قومية تتجاوز الانتماءات الضيّقة لأحزاب وطوائف وجماعات وله رؤى سياسية تنفرد عن رؤى معظم أبناء جيله بأنها من إفراز تكوين معرفي بالغ الثراء، فالسايكولوجي أو السوسيولوجي وكذلك الأنثروبولوجي من صميم قراءاته للواقع لهذا لم يقع أسير بُعد واحد.
إن المحطة السابعة في حياة هذا المفكر والمثقف التنويري الرائد، هي إعادة قراءة منجزاته المعرفية في مختلف الحقول، ومن واجب جيلنا اعترافا وعرفانا ألا يحرم الأجيال القادمة من هذه المُنجزات.
كاتب أردني
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى