صفحات الثقافة

وديع سعادة..نشيد لضمير الغائبين


خالدة سعيد

وديع سعادة يكتب الشهاب الذي تتركه الكارثة وراءها، يكتب انتهاك الحميم وقطع المسار ومفاجأة الأحلام؛ وفي ذلك يرسم العالم كوعي مجروح وحضور مسلوب. يقبض على الفظيع الهائل بشفافية الشعر، ويفاجئ التجربة وهي تدخل سيمياء الذاكرة. فالذاكرة، بالنسبة إلى وديع سعادة، هي المنقلب الآخر للتجربة، أو هي تحولاتها الغريبة. ولا يسود هنا، غير الذكرى التي تتمثّل غسقاً لا ينتهي، تتمثّل كحضور مخطوف، شأنَ كلّ مخطوف، عاد كلّيّ الحضور.

يغلب في هذه النصوص شعور العبث عند مفترَق الحياة والموت. تحضر الحيرة؛ ما يدفع إلى التوقف لمساءلة معنى العالم: هل يكتب العالمَ حضورٌ أم غياب؟ هل يكون ذلك المعنى في أبديّة الحضور الغارب، أم في فعل الغروب ذاته؟

هكذا لا ترتسم ذروة التجربة، عند وديع سعاده، في أوان اشتعالها. بل كلمة تجربة تبدو على شيء من الغربة إزاء هذه النصوص. وربما توجب استبدالها بكلمة ” الأثر ” أو رماد التجربة.

[

المجموعة الأولى التي كتبها وديع سعادة بخط اليد ووزعها على أصدقائه عام 1968 وكانت بعنوان ” ليس للمساء إخوة” تُستَهلّ بنصّ له هذه البداية المحيِّرة:

” في هذه القرية التي تستيقظ

لتشرب المطر

انكسرت في يدي زجاجة العالم” (المجموعة الكاملة، دار النهضة العربية، ص. 8)

هذه ليست صورة بل حالة جوهرية أو جوهر حالة. القرية السعيدة، في المألوف الطبيعيّ، هي التي تشرب المطر. فمن أين يجيء الفاجع متمثّلاً في انكسار زجاجة العالم؟ لكن أيضاً من أين يجيء التميّز والجمال المحيّر؟ هل يجيء من تعيين حالة شرب المطر ومكانه؟ هل يجيء من شرب المطر كغاية لليقظة؟ من تعيين القرية بالاسم الموصول “التي”، بحيث يصبح شرب المطر خصوصية هذه القرية، يصبح هويتها وسِمتَها البانية؟ هل يجيء من المقابلة بين بديهية شرب المطر ولغز انكسار زجاجة العالم؟ من تحويل شرب المطر، وهو عام، إلى خبر وعلامة؟ من تحويله إلى غاية اليقظة ورسالة النهار؟ من تحويل العالم الهائل أو الوعي بالعالم إلى زجاجة تنكسر في اليد؟

لكن، هنا في هذه القرى، حيث لا شيء يهيئ لجوهري، وقع الحدث الجوهري ـ الكارثيّ:

“انكسرت في يدي زجاجة العالم”.

يا للبداية التي هي النهاية. ما الذي يقوم بينهما؟ هذا هو السرّ.

ومع أن الشاعر، لكي يميّز “القرية التي تشرب المطر” يعمم، حيث الصيغة تفترض التميّز، فتبقى “القرية التي تشرب المطر” مجهولة، لا نقدر أن نقول إنها نكرة، ما دامت معرَّفة ثلاث مرات (بالإشارة والتعريف والجملة الموصولية). لكن لماذا، فجأةً، تبدو هذه القرية المجهولة صورة عالم كامل. هذه القرية التي تستيقظ، تجيء من نوم لا نعرف مداه ولا ارتحال أحلامه.

” انكسرت في يدي زجاجة العالم”.

“زجاجة العالم” كأنها العالم الذي ينغلق كالزجاجة، أو العالم الذي من فرط هشاشته وهشاشة أسسه يصير من زجاج. لكن العالم ليس زجاجة ولا من زجاج ولا ينكسر. فما هذه الزجاجة الجوهرية التي كانت “يدي” تقبض عليها وتحسبها العالم فإذا بها تنكسر؟

أم أنّ شيئاً ما في قلب العالم انكسر؟ هل هو العالم الذي في القلب؟ العالم الذي في الحلم؟ الذي حسبناه العالم؟ الذي أودعناه الأضواء الأخيرة؟ هل “زجاجة العالم” هي ما كان يُفتَرَض أن يضيء، أن يحفظ الماء، أو يخزن العطر، أن يصون الجوهر، أن يهتك السرّ، أن يكشف العلة، أن يروي العطش، أن يشفّ أو يُنبتَ العشب؟ هذا العالم الذي من زجاج كيف يقيم فيه العالم؟ والآن، كيف نكتشف السرّ وقد انكسر؟

بلى نعرف. نعرف أنّ هناك جرحاً ما لا يلتئم؛ جرح ينشر وجعه على العالم. نعرف أنّ هناك غياباً لا يُردم، وهناك ما انكسر بلا شفاء. وسيقول وديع سعادة في كتاب لاحق:

“كان الموت يرقص / وفي الساحات كانوا

يمتزجون بالإسفلت / والمنحنون على الزهور تحملهم

الطلقات إلى فوق / ويصيرون في الفضاء زنابق”

(من “بسبب غيمة على الأرجح”)

دائماً هم، لكن من هم هؤلاء الحاضرون في نصوص وديع سعادة؟ يموتون كأنهم يرقصون؛ هم، الذين يأخذون كلّ شكل، يسكنون أيّ حلم.

“هم” دائماً. “هم” بلا اسم، بلا شكل، بلا عناوين. “هم”، دائماً. يحضرون بضمير الغائبين. “هم” الغائبون الحاضرون. لا نعرفهم. نحن قراء هذا الشعر، نعرف أحلامَهم وحكاياتهم. نعرف البلبل الذي غنّى على شباكهم، نعرف الكنز “تحت وسادتهم إذا ناموا”. نعرف شكلهم الغائب وحضورهم الغارب، ولن نقدر أن ننساهم. فقد أودعوا الحضور حسرات الغياب وتركوا المفاتيح لعودة لن تكون.

هذا نشيد الغائبين، نشيد الرحيل والانفصال. وأيضاً نشيد الأماكن التي ظلّوا فيها لمّا تركوها، وربما لأنهم تركوها. فالبقاء هو لما يحتضن الذكرى، حيث الذكرى أشدّ حضوراً من الحدث.

من هذا العالم الذي انكسر، من هذه القرى التي تبقى ظامئة وهي تشرب المطر، يولد الفاجع في شعر وديع سعادة. هذا الفاجع الذي ظلّ غامضاً في كتابه أو مخطوطه الأول “ليس للمساء إخوة”، سيرسم خطوطه وينشر غموضه ومواجعه على هذا الشعر، وفي شكل أخصّ على مجموعة “بسبب غيمة على الأرجح” (1992)، وصولاً إلى المجموعة الأخيرة التي نشرها عبر الإنترنت (2011) بعنوان “من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب”.

[

في كل كتابة صراع مع المضيّ والخراب، انتزاع للشعور من قدَر الانطفاء، وللحدَث من حتم العبور وخطر التحوّل؛ لأنّ الماضي مقرُّ الوقائع ومصبُّها الذي فيه تستريح، مع ذلك، تتحوّل فيه وتصير خيالاً يراودنا، تصير خرائب أو تُبنى على هوى فجيعتنا وقد تعود إلينا أساطير.

في كلّ كتابة، وفي كتابة وديع سعادة خاصّة، مواجهة مع الخراب. مع خرابٍ له في بعض أعماله، ولا سيما مجموعة “بسبب غيمة على الأرجح” مرادف أساسيّ لا يصرَّح بلفظه: القتل. وكأنه يسأل: هل الموت لعبة الحياة أم الحياة لعبة الموت؟ ومن هو الراقص الكبير ومخرج المسرحية الكونية؟ وأين نضع الحد بين مُوقد النار ووقودها؟

لكن بقدر ما يتميز شعر وديع سعادة بالصفاء والتأمّل في الحضور القتيل وفي أحوال الغياب، وعلى الرغم من الاقتصاد واللمح والإرهاف، يبقى بعيداً عن التجريد. فالمكان في شعر وديع سعادة حاضر بغيابه، حيث المسافة تستحضر القرب الممتنع، وعبر الصمت ينكشف حديث الدواخل. إنه، ويا لدهشتنا، فنّ الاستحضار بالتغييب. ذلك أنّ وديع سعاده يفاجئ الأحوال عند حافة وجودها، لحظة يُسْلمها الحاضر إلى الماضي، وعند ذلك المنعطف يلتقطها في شباك الخيال فلا تطولها نهائية، بل تواصل في نصوصه حضورها وحياتها، ولو كـخرائب أو كبوارق واحتمال رجوع. ففي هذا الشعر، كل ماض، مهما كان صرحَ أنقاض، يضمر احتمالات حياة ثانية أو مستوى آخر للوجود. بل توحي نصوص وديع سعادة، أنّ حياة القلب وحديثَ الحلم يُستأنَفان لحظة الدخول في رواق الماضي. وفي الماضيات تنطلق عنده صور الممكنات والرغائب التي لم ترتوِ، فيما يفقد الواقع سلطته والاعتبارات.

[

هل نحتاج إلى القول إنّ تجربة الحرب والهجرة تركت حرائقها البليغة في الروح؟ لكننا لسنا أبداً في مألوف المراثي وتاريخ الحنين وخطاب الاستعادة الذي ميّز شعراء الهجرة. ففي هذه الأشعار يحضر الغياب الفاجع، تحضر الأجساد التي صارت رماداً. تحضر الأحلام والأماني المودَعة في الأشياء المهجورة. يحضر الموت، بل يحضر القتل، معرّى من الطقوس، مجانيّاً مكشوفاً، عبثياً، ومجرَّداً من جميع الميثولوجيات والمراثي والتسويغ وكلّ التصعيد، بل التمويه الاستشهادي الذي زيّنه به المتقاتلون من الممالك والأحزاب وأهل الأديان الأرضية والسماوية عبر العصور:

“قالوا إنَّ الموتَ وصلَ فجأةً وهم نيام، وإنَّ الموتَ وصلَ فجأةً بثيابِ أصدقاء، وإنَّ الموتَ وصلَ فجأةً من سماءٍ كانت قبلَ يومٍ تمطرُ عليهم وعلى حقولهم. وقالوا إنَّ ناسًا كثيرينَ سقطوا بعدَ خطوةٍ، وناسًا كثيرين سقطوا من دونِ خطوةٍ”، (بسبب غيمة على الأرجح، 1992)

هنا لا يحضر القتلى كأساطير و”شهداء” برَرَة، لا يحضرون كأولياء أو قديسين، بل يحضرون في العراء الإيديولوجي الكامل، بوصفهم “جثثاً”، ويحضر العالم كمسرح لتراجيديات الخراب العبثيّ:

“كَمْ بَقِيَ منهم هؤلاءِ الَّذينَ أخذوا أسرارَ الرياح وكانوا يعرفونَ نوايا الغيوم؟ عشراتُ الآلافِ هاجروا مُذ بدأتْ تلكَ المذيعةُ تنقلُ أسماءَ الجثث (التسويد حيثما ورد هو للكاتبة). ولا رَيْبَ آلافٌ من الَّذينَ كانت أصابعهم تُدَلِّلُ الأشجارَ لمسوا جلدَ الحقائبِ لأوَّلِ مرَّةٍ وحملوها بحسرةٍ إلى بلدانٍ قاسيةٍ ومجهولة. وضعوا فيها صُوَرَهُم مُبْتَسِمِينَ بجانبِ البابِ وقُرْبَ حوضِ الحَبَق، وحَمَّلوها بعضَ أنفاسِ الغُرَفِ، وأرسلوا نظرةً أخيرةً ومَضَوْا”، (بسبب غيمة على الأرجح).

في النص الأخير من مجموعة “بسبب غيمة على الأرجح” وهو بعنوان “لحظات ميتة” رؤية للعالم المكسور الذي فارقه الشاعر. رؤية ترتسم فيها شذرات من ذلك العبث المصيريّ، من عالم الهذيان الذي يقدّس الموت، عالم الجثث المسمّاة “شهداء”. وها هو الشاعر يعيد لهم الاسم العاري، مع لمحة سخرية في الختام، كطريقة لتعرية الموت الهذيانيّ:

صوتُ المذيعة ينقلُ أسماءَ قتلى وجرحى. “إنَّهم يحصدونَ بعضَهم في الشمال، ويحصدونَ بعضَهم في الجنوب، ويحصدونَ بعضَهم في الجبال، ويحصدونَ بعضَهم في المُدُن. قبلَ أيَّامٍ كانوا رفاقًا. زاروا بعضَهُمْ بعضًا وشرِبوا القهوةَ وتواعدوا للقاءِ الأحد المقبل، وفجأةً يتلاقونَ مدجَّجينَ بالسلاح. يتقابلونَ أعداء وجُثثاً. المذيعةُ تنقلُ أسماءَ جثثهم، وتُنهي بأغنية”.

نحن هنا خارج الميثولوجيا، بل ضدّها. وإن كنّا في مملكة الظلال، حيث الأشياء التي ذهب بها الماضي أو ذهبت بها الأحداث لا تذهب، وحيث الأماكن التي بُتِروا ـ هم ـ عنها يبقى رمادُها فيهم مُحرِقاً، ولا تكفّ عن رسم خطواتهم. هي النار الباقية في الرماد، لا تحته، هي الاشتعال الذي لا يتوقف لجروح حضنت ألمَها وخلّفت نارها. هذا مهاجر مذ وصل إلى المنفى استوطن الذكريات:

كانوا يُخْبرونَ أطفالَهم / عن الملاكِ الحارسِ والزرع /

والبلبلِ الذي جاءَ هذا الصباح

وغنَّى في شجرةِ التوت، على شبَّاكهم

يُخبرونهم عن عِنَبٍ / سيبيعونه ويشترون / لهم ثياباً جديدة

عن كنزٍ / يكون غداً تحت وسادتهم إذا ناموا

لكنَّهُم وَصَلُوا / قطعوا الحكاياتِ

تركوا بقعًا حمراءَ على الجدار / وخرجوا.

(نصّ “زيارة ليلية، “بسبب غيمة على الأرجح “)

[

حقّاً “إنّ الشعر والفنّ يقيمان في الجرح” كما يرى ك. آكسيلوس، الفيلسوف اليوناني المعاصر، في كتابه Le Jeu du Monde (ص. 394). وفي شعر وديع سعادة لم يقدر العالم أن ينفصل عن هذا الجرح الأصليّ. من هنا أنّ شعره ليس في مكان آخر وحسب، بل في مستوى آخر من الحضور، في لغة أخرى هي أبعد من التصوير. تبدو لفرط عريها مفارِقةً للوضوح. أو هي في ما وراء التعبير. فالشاعر، تكراراً، في هذه الأعمال، يحيلنا إلى عالم من حضور هارب. لأنّ عالم شعره هو ما كان ولم يعد؛ ما كان ولم ينسَ كينونته المخطوفة. لأنّ الغياب بات سيد هذا الحضور وسرّه. هو معلوم انزلق إلى المجهول وأفْلَت من التأويل، أو عذّب المؤوِّل. هذا ما يزرع القلق فينمو بعد غياب النص: إنه البدء من الغياب.

هل من المصادفات أن يكون الشعر العربيّ قد انطلق من جرح الغياب وسحر الغياب؟

قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل…

التغييب هنا، عند وديع سعادة، واستدعاء الغائب، يأخذان محلّ الصورة الواصفة والصورة الخالقة، ويقيمان فنّ الحضور الاحتماليّ. أشخاص وديع سعادة يحضرون مما وراء الحضور. يحضرون عبر المسافة، عبر الصمت والحيرة . فإذا حضروا فهو الوسواس والشاغل. حتى المكان عند وديع سعاده حاضر بغيابه. المكانُ والأشياء تُبادِلُ الإنسانَ الأسى والحنين.

لكن ما المكان في هذه الأشعار؟ إنه المهد المجروح، المهد المنتظَر ولا مجيء؛ المهد الذي يحمل المسافرُ جروحَه كشهادة ميلاد أو شهادة حياة، لأنه المكان الممتنع على العبور والاجتياز أو التجاوز. المكان الذي هو داء المكان. ليس حتى الحنين. بل غياب ما لا يغيب. والصوت عند هذا المسافر هو الصدى، والحضور هو الرسوم. ما يحضر، وإن حلماً، يَمْثُل كجرح يستحضره الفراغ ولا يكفّ عن استدعائه.

إنه لعبٌ بفنّ المسافة التي لا تُعبَر إلا بالتخيُّل والرغبة أو الحسرة. فالمسافة قربٌ، حين يعبرها الشوق. لكنه هنا قربٌ مستحيل، تبدو الحركة فيه وَمْأةً مضمَرة.

[

أشخاص وديع سعاده نعرفهم بظلالهم. يعبرون الحكايات، بأفعال مؤجلة، وأحلام، لم يكفّوا عن انتظارها. نعرفهم،

“حاولوا في سواعدهم / زرعَ ريش

ليصيروا طيوراً / وتساقطوا / مثل الطيور”.

(من “بسبب غيمة على الأرجح”)

لكن هل طاروا مرة قبل أن يسقطوا؟ هذا ما لن نعرفه. فالضمائر هنا أكثر من إضمار. الضمير هنا يفتح الساحة للمجهول ليبسط مجهوليته، لينوي الغناء ولا غناء.

فكل شيء هنا مقيمٌ في النوايا، في الحلم المؤجل، في ما قبل الرغبة وما قبل الفعل، وما بعد الحضور. كل شيء مقيمٌ في المُضيّع أو الناكص والمجروح.

كل شيء في هذا الشعر للعري، للتخفف من أثقال الحضور، للخروج من المركز. كل شيء للتخلّي، لحقول تركوها، ونظرات خلعوها.

هنا الأطياف تتموّج في العتم كمشاهد مسروقة من الظلام والغياب، مسروقة من انعدام المرئيّ، من المرئيّ في رداء الظلام. أطياف غائبين ينهضون من الغياب ويستحضرون مشروعاتهم الخائبة وأحلامهم الهائمة. فالحلم هنا يخترق الموت ويستأنف طيرانه أو وعوده، كما في النص الآتي:

“حملوه صامتين / وتركوه هناك في الساحة/ في حقل الصلبان والشواهد/ في الساحة الفسيحة مع رفاقه / النائمين”. / قال: “سأعود، / المفتاح تحت أصيص الزهور”، / وورقة منها كانت / لا تزال في يده”.

قصيدة “ورقة” من “بسبب غيمة على الأرجح”.

في هذه النصوص، “هم”، موتى وغائبين، وحدهم من يَرى. مواكب الغياب تحضر إلى مملكة هذا الغائب، الأصح إلى مملكة ظلّه، مملكة الصمت والإشارة. وها هم الغائبون يحاورون الأشياء عبر غيابهم. ويحضر سؤال لا يتوقّف قارئ هذه المجموعة عن طرحه:

من هو هذا الظلّيّ؟ هل هو المتوحِّد المنسيّ، أم هو الذي رحل وأودع الأسرار في الأشياء؟ هل هو الذي مات وترك في البيت إشاراته وحديثَ الصمت؟ مات، وحضرت رغباته وإشاراتُه وحضرَتْ حسراتُه؟

هنا، عند وديع سعادة، يتداخل الحضور والغياب، ينزلق الحضور إلى الغياب في غفلة عن الراحل، يصير الغياب حضوراً آخر، حضوراً لا تُلمَس حدوده ولا تُحصَر، ولا ترتوي حسراتُه.

لكن، بلى، ها هي رغبات هذا الميت ترتوي بعد الأوان؛ تُستَجاب في غيابه فلا تولّد غير الأسى. ترتوي بلا تربة ولا عطشان وتقوم في اللامكان. فلا يعود الموت في هذه الأشعار، إلاّ هوّة يمكن أن يعبرها الميت رجوعاً ليكمل حلمه.

“كان ميتاً لكنه كان / يحسّ أناملهم على جبهته

أسبلوه وسط الدار

على فراش استأجروه وكان / يحبّ أن يشتري مثله،

أسبلوه وألبسوه ثياباً / رأى مثلها في واجهات المدينة

وحين حملوه / ترك وهو يغادر البيت / شيئاً غريباً على العتبة

وكانوا كلما دخلوا / يرتجفون ولا يعرفون السبب”.

(نص “شيء على العتبة” مجموعة “بسبب غيمة على الأرجح”)

أين هو الخط الذي يفصل الغياب عن الحضور، يفصل الميت عن حرمانه وأمنياته؟

في هذا الشعر يكون الانطلاق من الغياب. فالغياب هو المشهد. لكنه مشهد غائم. وراءه وفيه وبعده يتحرك مقلوبُ العالم وحلمُ المحرومين. فيه يحرث الشاعرُ الفراغَ ويَعْبرُ حدائقَه.

هنا لا حاضرَ غيرُ الغائب. عالمٌ على العتبة أو “شيء على العتبة”. لكنه حضور الغائب الذي لا يغيب، في عالمٍ معمورٍ برغبات الغائبين، بما لم يتحقق، بما تحقق بعد الأوان.

ليس الشعر هنا لوصفٍ أو إنباء. ليس لتمجيد أو رثاء، ليس لتعبير عن شوقٍ أو حالة، ولا لرسم الأخيلة والأمنيات. الشعر هنا صوت يتركه الغائب لنا وفينا؛ هو الصوت الذي ينتظر الغائبَ ليؤوب، هو الظلُّ الذي خلعه الجسد، والجرحُ الذي يقرأ الحاضر.

“حينَ ودَّعتُهُ لآخرِ مرَّةٍ، كان ذلك على الشاطئ. ثُمَّ تصاعدَ من بيتنا دخانٌ كثيفٌ. والدخانُ كانت له رائحةُ لحمٍ محروق. وصارَ أبي هيكلاً عظميًّا أسود…”.

حقاً إنّ “الأثر يقول الغياب، والغبار يقول الهدم” كما يعبر ج. ديدي هوبرمان في كتابه Génie du non lieu (ص 53). كيف القبض على الغبار؟ ما شكل الغبار وما تاريخه الماضي؟ أو ما ماضيه؟ وما لغة الغياب؟

هنا في هذا الشعر يرتسم طيف الغياب، كملتقى للظلال ورواق للمجهول وطريق للحيرة والالتباس؛ ينبثق السؤال الذي لا يتوقف عن المساءلة. يستسلم النص لنبع الأسئلة لأنّ جوابَ السؤال سؤالٌ جديد، وخلف الأفق أفقٌ آخر لا يقلّ غموضاً. فالأشياء في عالم وديع سعادة تقدم غموضها لا بديهتها. وليست هنا لتُسلم مفاتيحها. لا مفاتيح لها غير الأسئلة وغير ضباب الشك المتصاعد وفخّ الغياب.

ذلك أنّ وديع سعادة يتناول الأحوال بدءاً من أطلالها أو خرابها: هم ذهبوا، لكنّ ظلال الأماكن ترافقهم مثل “أرواح أمكنة أُبيدت”. (من نص “نظرة”، “بسبب غيمة على الأرجح”)

فعيونهم ترى الوراء وما بقي بعيداً.

هذه صور، للخروج من المركز. للانحدار الخفيف من الأعالي. ليصير الغائبون ظلالاً لا “توقظ العشب”، لتعمر المكان ظلالٌ تناجي أهلها.

“زحلوا نحو الماء / منحدرين من جبالهم ظلالاً ناعمة

لئلا يوقظوا العشب” (نصّ “ظلال”، ” بسبب غيمة على الأرجح” )

[

إنه تأمل في ما وراء الأشياء وما بعد الأفعال. ففي مجموعة “بسبب غيمة على الأرجح”، بصورة خاصّة، تتوالد الأسئلة وتتعدد الاحتمالات. إنه عالم الموت المجانيّ، عالم الوحدة والصمت، عالم الغياب والحسرة والمفارقة. فالغياب حضورٌ لفراغ. حضور باهظ جاهز لاحتضان عطب الوجود.

هنا الكلمات تخرج من مألوف الإخبار وتدخلنا في الانبهار والمصادفات.

هنا العالم يغتسل من المعرفة البائتة، المعرفة المؤدلجة المنمّطة، ومن المألوف المستقرّ. هنا الخيال يستأنف البدء، من أجل أن يعيد الشعر اكتشاف جرح العالم. وها هو الشاعر يكتشف رواق الغياب، ودرب التيه، وهوّة العبث، وأحلام المكان المهجور في غياب الهاجرين.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى