صفحات سوريةفراس سعد

وردة صيدنايا و”حريقة” دمشق


فراس سعد

منذ خروجي من سجن صيدنايا كنت حريصاً على أن اتعرّف على اكبر عدد ممكن من الناشطين السياسيين، لاسيما محاميهم في دمشق، طلبت من صديقي المحامي خليل رقم هاتف الناشطة وردة سرعان ما أخذت موعداً معها في منزلها، لم أتخيّل هذه البساطة والتواضع، بيت تحت الأرض، غرفتان وقطة مشاكسة كانت تثير جواً من المرح.

استقبلتني بحماسة، بابتسامة مشجعة لا يمكن أن تفارق وجهها الأبيض الصغيرأنستني آلامي، شكوت لها وضعي ووحدتي فوراً أبدت استعدادها للمساعدة، تكرّرت الإتصالات بيننا،اخيراً اتفقنا على الحديث عن السجن وتدوين كل ما أذكره، تحدثت في جلسات ثلاث عمّ أذكره، على مدى أسبوع، كثيراً ما توقفت لا أستطيع متابعة حديثي لشدة إنفعالي، كأن جراحي لم تندمل بعد، فلم يكن مرّ على خروجي من السجن أكثر من خمسين يوماً، في منزلها وسط العاصمة، منزل متواضع تحت الأرض لا تراه الشمس.

كانت وردة بجسدها الناعم الطفلي، و “تي شيرت” بلون سماوي وبنطالها الجينز الكاحت تعطيني ظهرها، تنكمش كعصفور خائف من المطر، أمامها طاولة واسعة وضعت عليها “لابتوبها” تدوّن حديثي، وكم من مرة لمحت اصابعها تداري دموعها، كنت كلما تحدثت عن تعذيب الجلادين لي ولرفاقي في المعتقل تتكوّر فوق كرسيها العالي وتبكي بصمت محاذرة أن يعلو صوت دمعها، كانت تبكي بصمت، تحترق بهدوء.

بعد أيام عديدة كنت أتحدث مع وردة في مقهى قريب من البرلمان كانت سعيدة وهي تدخن سجائرها النسائية الناعمة وتحتسي برشفات أنعم من فنجان قهوة صغير، قلت لها: “وردة لازم نعمل شي منشان الشباب” نظرت إليّ بعينيها السماويتين الواسعتين وقد اتخذت ملامحها سمات الجديّة وقالت بهدوء فيه الكثير من العمق لكن البرود الواثق “كل شي بوقتو”.

من ناحيتي لم أملّ من تذكير وردة بضرورة أن نفعل شيء من أجل أصدقائي في السجن، وهي لم تنس، أعرفها وردة الرائعة، أمنا الجميلة الصغيرة، أم حقيقية لكل المعتقلين والناشطين في دمشق، بل سورية كلها، لا تملّ من العمل، من الإتصال، من الذهاب والمجيء، تلاحق أخبار المعتقلين تتصل بأهاليهم لتطمئنهم، تتصل لتأخذ معلومات تفصيلية عن معتقل دخل للتو إلى الغياب، تزور والدة معتقل لترفع من معنوياتها، لا فرق بين معتقل علماني أو ناشط حقوقي أو إسلامي…

على الرغم من خطورة تلك الزيارات، لا تمل وردة، لا تتأخر عن حضور أي جلسة لمعتقل تمّ تحويله إلى محكمة، تبعث برسائلها اللطيفة إلى إيميلاتنا تخبرنا عن محاكمة جديدة لابد من أن نحضرها بأكبر عدد ممكن كي لا يشعر المعتقل أنه لوحده، كانت رسائلها تقول لنا، إبقوا على العهد، لا تتقاعسوا لا تخافوا، جميعكم كنتم مكانه، جميعكم ستكونون؟؟؟ وردة ستجدها في كل مكان في دمشق أو حلب أو حمص حتى، في كل مكان للحق للحقيقة للحرية أخال أنها لا تأكل هذه المخلوقة من أعصاب وصمت وأصابع، مرات قليلة رأيتها تشرب الشاي او النسكافيه، تسألني ماذا تشرب وتسرع إلى مطبخها الرائع الذي تتوّجه الشمس، حتى الآن أتساءل من أين تأتي الشمس إلى بيت تحت الأرض؟؟.

اتصلت مساءً بوردة، صرخت عبر الموبايل” مبروك يا وردة… ع قبالنا” كان زين العابدين بن علي قد ترك تونس وفرّ إلى جهة غير معروفة حينها،” ردت ورده” الله يبارك فيك، أي انشالله ع قبالنا، حوّل سهرانين مع الأصدقاء” لكني لهول فرحتي ما كنت أريد مشاركة أحد، اشتريت نصيّة عرق وطرت إلى بيتي في الطابق الرابع في حي البعث بجرمانا، ورحت أشرب أرقص على أنغام تريو جبران وكلمات محمود درويش حتى الفجر، أمتع نفسي بلحظات تاريخية، أعبئ نفسي ونَفَسي بدقائق الحرية والإنتصار، يومها على غير العادة رميت حذري واحتياطاتي وراء ظهري نزلت قبل الفجر بساعتين لأتجول في شوارع جرمانا المظلمة الموحلة وأغني، منذ ذلك اليوم ما عدنا نعرف الخوف ونسينا الحيطة المعتادة في اتصالاتنا وتحركاتنا.

هكذا ودون مقدمات، قامت ثورة تونس وأحرق البوعزيزي خوف ورعب عقود، كنا نتساءل في دمشق هل يمكن أن تصل بركات البوعزيزي إلى سورية، فنتخلّص من القابعين فوق رؤوسنا لأربعين عاما؟؟ الكثيرون شكّكوا، القلّة ممن كانت الثورة والحرية هواهم كنت ترى في وجوههم ضوءاً غير معهود، لكن لم يكن أحد ليتوقع أن تجري الأمور بهذه السرعة. مع خروج المصريين إلى ساحة التحرير، قلت لنفسي ولأصدقاء حولي إذا نجحت ثورة مصر لن يبقى نظام عربي مكانه، وخصوصاً النظام السوري فما يحصل في مصر لا بد أن يحصل في سورية لكن بعد سنوات، ولم ينتظر السوريون سنوات ولا شهورا وما هي سوى أسابيع … ليبدأ تاريخ المقهورين وليمتد حريق التوانسة إلى “حريقة” دمشق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى