أحمد عمرصفحات الناس

وسام جوقة الشرف/ أحمد عمر

 

 

كان أبو عودة، النازح حديثا إلى المانيا، يواجه صعوبات في لمّ شتات أسرته الممزقة في ثلاث دول، وهو واحد من أعلى علماء الآثار في سورية كعباً، قال: سأروي لك نصف قصة أهم اكتشاف أثري في حياتي. وكنت أطمع أن يرويها كلها يوماً ويرويني، فالسر ينقصه جناحان ليطير من قفصه ويتحول إلى سرور.

قال: كنا ننقب عن الآثار في منطقة الهول، وهي مصب نهر الخابور، سأبدأ بماتليدا، وهي أحد أعضاء فريق البعثة المنقبة عن الآثار، أول من خطبها كان الأسود، وهو شيخ القبيلة التي كنا نبحث عن الآثار بجوارها، ولم يكن أسود، كان أشقر أزرق العينين، مثل شيوخ القبائل العربية في أفلام المومياء والاستشراق الاستعمارية الهوليودية المضحكة، وقد سألني رولو، رئيس البعثة عن زرقة عيني شيخ القبيلة وشقرته، فقلت: ربما نزعه عرق.

وتأولت أمر اسم الشيخ على أنه مذهب معروف في تسميه الأشياء بضدها، كأن تسمي قوات سوريا الاستعمارية نفسها، بالديمقراطية، وتسمية حزب القبر العربي نفسه، بحزب البعث الاشتراكي، وداعش، بالدولة الإسلامية، وهلم جرا وانجلترا.. الشيخ الأسود خطب ماتيلدا في اللقاء الأول الذي جرى بينهما في المضافة الواسعة، وهي خيمة منصوبة في العراء على تخوم القرية، فيها زرابي مبثوثة، ووسائد كبيرة وصلبة.

لم أكن أقوم بالترجمة بين الماضي والحاضر وحسب، وإنما بين أهل المنطقة والبعثة الوافدة، فقلت: إنها صديقة رولو رئيس البعثة، ولا تجوز الخطبة على الخطبة، ولم تكن كذلك، لكني وجدتها طريقة لصد الشيخ الأسود، ولم يبق شاب في القبيلة إلا وخطب ماتيلدا، شيء يشبه الذي جرى مع ايفانكا، التي حجّت إلى تخوم بيت الله الحرام، من غير إسلام، للجباية والهداية إلى دين الحداثة مقلوباً ومعلقا من عرقوبه.

وماتيلدا شقراء جميلة، طويلة، قوية البنية، رشيقة مثل سيف الساموراي. ضحكت ماتيلدا من خطبة شيخ القبيلة الستينيّ، وقالت: ولكنه متزوج، وليس الزواج مثل الركوب في باص، فالزواج لا يقبل زوجة على الواقف، فلا بد أن يكون لها مقعد في المركب رباعي المقاعد؟ وكانت قد قرأت قليلاً عن الإسلام وعادات العرب، قلت: قد يجد حلاً ويسرّح واحدة من زوجاته، فقالت مازحة: كم سيقدم لي شيخ القبيلة مهراً؟ قلت لها: كل هذه القطعان من الشياه والنوق هي ملكه، وكان كريماً، فكلما حان موعد الغذاء يرسل وراء البعثة كلها، فيمدّ رجاله السماط، وكانوا يقدمون وجبة لا تتغير للوفود التي لا تنقطع، هي الثريد، فتتراصف جفنات اللحم، ويحمل كل جفنة رجلان، ممدود في قاعها رقائق خبز الصاج، ويسبح في إدامها الشهي كتل كبيرة من لحم الضأن، ومن غير سلَطَات، يأكلونها بالأيدي.

أكلت ماتليدا المرة الأولى بملعقة، ثم سقط النصيف وأكلت باليد، فوجدته أطيب، بعد الطعام يقدم الشاي محلّى ومطيّباً بالمسك في إبريق عملاق ينوء تحته الساقي المسلح بجيوب وأحزمة، فيها ذخائر الرصاص. اليزابيت، التي كان رجال القبيلة ينطقون اسمها كنطق العرب القدماء لاسمها “الياصابات” أم ماتيلدا، كانت قد جاءت مع ابنتها للسياحة في أرض الأنبياء، طلبت وصفة صناعة وجبة الثريد، فصحبتُها إلى المطبخ، ولم يكن مطبخاً، كان قدوراً كبيرة على أثافِ حجرية تطبخ في العراء، والنساء يرققن العجين ويمددنه فوق دروع معدنية على النار. ولم ييأس الشيخ، فتحول إلى طلب يد والدة ماتيلدا، وهي مطلقة ما تزال في الخمسين، وخمسون أوربا عند العرب تساوي ثلاثين بفرق العمر والعملة.

اليصابات حسناء، وابنتها أحسن، جمالهما شائع في أوروبا، لكنهما كانتا تستغربان كل هذا الهيام بهما، وتقولان: نحن عاديتان جداً، فكنت أوأول إعجاب الرجال بهما ولعاً بالغريب. هذا طبع بشري. وكانت ماتيلدا وأمها تلتهمان كل ما يقع عليه بصرهما من مشاهد، ومنها مشهد شبان القبيلة، وهم يطاردون بالخيول وسيارات البيك آب صقراً عابراً في السماء، كل صقر يعادل مهر عروسين، ومهر العروس كبير، كأن كل بنت، هي بنت الملك النعمان أو كسرى انو شروان.

نخرج من حفرة التنقيب بعد سماع أصوات مظاهرة الصقر، فتسأل ماتيلدا: لمن سيكون الصقر إذا وقع في المصيدة؟ والمصيدة حمامة تطلق في السماء مع شبكة، قلت ستكون للأول السابق، وهو عادة رجل له سيارة، وهي بيك آب، أو بنت من بنات الريح، فالفقراء حظهم أقل في الصيد، ويكفي أن يركض في ماراتون الصقر الذي سيباع لأمراء الخليج بمهر باهظ، أما البقية وهم بالعشرات فلهم مكافآت ترضية. سعر الصقر يتحول إلى مهر عروس عادةً. الصقور مهور طائرة.

كررت ماتيلدا قولها إن نساء القبيلة أجمل منهما، وراحت تعدد أسماء الصقور بغيرة غير مفهومة: جواهر وحصة وعنود وزينة ووضحه.. وكانت ماتيلدا وأمها  تراهنان يومياً، وهن يغدن للاستسقاء من بئر، بنت له الحكومة مضخة بعد مناشدات وشفاعات، وكانت ماتيلدا تستغرب أموراً كثيرة، وهي امرأة شديدة الملاحظة، وتسجل ملاحظاتها على دفتر، إحداها عن البنوك المتنقلة، فأكثر النساء في القبيلة العذراوات والثيبات  مزينات بالذهب. وتعجب أن يكنّ جائعات، وضامرات، فالطعام في القرية هو اللبن، والشاي، وثريد المضافة الفائض عن الضيوف، وليس في القبيلة كلها سوى بئر بعيدة، يقصدنها على الحمير، ويحملن عليها براميل وجالونات كبيرة، قالت: حل مشكلة الماء سهلة: يمكن لهن أن يعملن جمعية، وتتبرع كل واحدة منهن بسوار أو خاتم، فيحفرن بئراً في القرية، وترتوي منها، ويمكن أن تمد الأنابيب لكل بيت، بل إن شيخ القبيلة يمكنه أن يحفر لقبيلته بئراً، فهو يذبح يومياً عشر شياه، فهلا شرحت هذا اللغز يا أبا عودة؟

فكنت أحتار في الجواب، فأقول: الحكومة لا توافق، فالمياه ثروة وطنية، وهي تريد أن تحافظ عليها للأجيال القادمة.

فتقول: والأجيال الحالية؟ أتموت من العطش؟ أليست الحكومة في خدمة الشعب؟  الحكومات العربية تذبح شعوبها باسم المستقبل.

فأقول: هنا الشعب والدين والعرف والماضي والمستقبل في خدمة الرئيس والحكومة.

وكانت ماتيلدا محقّة، فلو ارتدت نساء القبيلة أزياء مثل أزياء ماتيلدا واليصابات، لخطفن الأبصار، خاصة جواهر ابنة الشيخ، التي جمعت بين شقرة أبيها، وسمرة أمها. أشفق الشيخ الأسود على ماتليدا، وسأل عن سبب ارتدائها بنطلوناً ممزقاً، كأن ثلاثين ذئباً قد نهشته جائعةً، ففسرت له الأمر، وقلت: إن ماتيلدا، ومعها الجيل الجديد مولع بالآثار، وملّت الحديث والجديد، بل إن أوروبا برمتها هائمة بالآثار، وقلت في نفسي: يستطيع المرء أن ينظر من ثقوب بنطلون ماتيلدا، التي أحدثتها أنياب ذئاب غير مرئية إلى نجوم درب التبانة بحثا عن الثقب الأسود الذي يبتلع النجوم ولا يجد له علماء الفلك تفسيرا. ثم طلبت ماتيلدا من شيخ القبيلة أن يهديها جرواً، وكان متكئاً، فاستوى، وقال: جرو؟ قالت نعم جرو.. الجرو في بلادنا ثمنه آلاف اليوروات، فقال: هذا مشين، أهديك جواداً أو بعيراً، لكن جرو؟  ستكون سبّة أبد الدهر.

ثم جاء غلمان القبيلة لها بجرو، فعادت به بعد شهرين إلى المضافة، كلباً غير كلاب القرية، التي لا تجيد سوى سمفونية النباح في الليل والنهار، يأتمر بأمرها جلوساً أو وقوفاً، ويحضر لها العصا المقذوفة. قال الشيخ الأسود: لا ينقص الكلب الذي صار له اسم هو “يادي” سوى أن يعزف على الربابة!

زارنا شيخ القبيلة مرة واحدة بسيارته البيكاب الشفروليه، وكل السيارات في القبيلة هي بيكابات لها صناديق، تصلح لحمل الدواب والأمتعة، لكن أكثر ما تحمل عادة الرجال. جاء ومعه رجاله المسلحون بالبواريد، ألقى نظرة  سريعة على أعمال الحفر والتنقيب عن الآثار، وسرعان ما ملّ منها، وأظهر عجبه من طريقة حفرنا البطيئة، كنا نحفر بأدوات الأطباء الجراحين، ونجلو الطين بفراشي الأسنان، ولم يكن الشيخ يعرف أن ثروات الأرض التي يقيم فيها لا تقدر بثمن، سوى الأنعام والزروع، وكانت الزروع بعلية، وقال رولو مرة: لو أن هذه الأرض الخصبة كانت في بلاده لاستطاع إطعام جمهورية فرنسا كلها منها، ولم يكن يعلم أن القمح السوري أفضل أنواع القمح عالمياً، لكن ثروات ما فوق الأرض لا تقدر بالمقارنة مع فلذات التاريخ، التي كنا نعثر عليها تحت الأرض.

كنت أنتظر أن يكشف لي السر الذي عثروا عليه تحت الأرض.

توقفت عن السير، وقلت في نفسي: حان موعد طيران السرِّ بجناحي السرور.

عاد أبو عودة: كنا نعثر على جرار وقناديل وتوابيت حجرية، وعلى لقىً لا تخطر على بال، ولم يبق بيت في القرية إلا وصار فيه رقُمٌ فخارية، عليها أرقام وحسابات، كانت كثيرة بالآلاف، وكانوا يعثرون عليها في كل مكان، وصارت البنيات يلعبن فيها بلعبة الحجلة، وعثرنا مرة على أسطوانة، مثل الأسطوانة الزجاجية في فلم شفرة دافنشي، إذ كنت قد رأيته، فيها سمكة، إذا جعلت الأسطوانة عمودية أشرقت وإذا أوقفتها غابت. وعلى تماثيل عجيبة، منها نصب صغير بحجم الهرّة لذكرين من قوم لوط في حالة اشتباك وقصف، سعد به رولو المثلي كثيراً، وعدّه دليلاً على صواب اتصال التاريخ بالحاضر. هناك مخبر يرافق كل الفرق البحث والجمعيات وفرق تصوير الأفلام والمسلسلات السورية، وكان يتصل برئيسه، فتحضر طائرة حوامة، فتحمل أهم اللقى والكنوز وتطير.

مرة عثرنا على تابوت وزنه حوالي ربع طن من الذهب الخالص، فيه مومياء أحد الملوك النماريد، ومعه أساور ودروع وأسلحة وأقنعة، وهو الذي سبب لي هذا العرَج، عندما تزحلقت قدمي، ونحن نتعاون في رفعه، وهذا أيضاً عادي، وأظن مصيره كان إلى فرنسا هديةً أو رشوة نال عليها وسام جوقة الشرف، وقيمته التاريخية أهم وأكبر من قيمته المالية، لكننا عثرنا على شيء لا يخطر على بال، أهم من الكأس المقدسة في الروايات الأوروبية، وفيها ماء الحياة.

كان دائما يصل إلى هذه النقطة ثم يفرّ.

ليس خبر مقتل فادي البطش هو الذي جعله يتردد، فقد اعتاد الفلسطيني والسوري على الكتمان، وكان أبو عودة عالماً فلسطيني الأصل، سوري الولادة، ليس له مثيل في معرفة اللغات القديمة، وأفضى أليَّ مرة أنّ عنده ذخائر ولوحات ثلاثاً لليوناردو دافنشي، لا أعرف كيف وصلت إليه، ولا أعرف ممَ كان يخاف؟ أمن قتلة المبحوح والبطش، أم من النظام السوري؟

توسلت إليه قائلاً: ماذا وجدتم؟

قال: وجدنا كتاباً.

قلت: كم يقدر عمره؟

قال: 100 ألف سنة.

سألت: الكتاب بالخط العربي؟

قال : ولكن من غير تنقيط

قلت: ومما صنع ورق الكتاب.

نظر إلى نظرة طويلة، وعميقة، وكنا قد تعبنا من المشي عكس جريان النهر، وكنت بأسئلتي اقترب من حل اللغز، وقال: من جلود الماعز. قسنا عمر الكتاب بالكربون في المخبر، فوجدنا أنه حوالي مائة ألف سنة، وذهبت، وسلمته لرئيس الجمهورية. وقلت: لو أن رئيس الجمهورية لم يكن من فضائل الرئاسة عليه سوى الاطلاع على هذه الأسرار، ما تخلى عنها إلا بروحه. وقلت: إن الرئيس حال أن يقع بصره على الكتاب، سيوقف الحرب على الشعب السوري، ففيه نذير ووعيد وذكرى. ويمكن أن يدرَّ على سوريا، لو وضع في متحف، ثروة تعادل كل ثروات النفط العربي. ولو باع الكتاب، لاستطاع أن يبني سوريا خلقا آخر.

سألت: وما علاقة هذا بوسام جوقة الشرف الفرنسي المنزوع من رئيس جمهورية البراميل؟

قال: ملوك العرب باعوا الماضي التليد، كما يبيعون مستقبله، تاجروا بالحجر والبشر.  لعلهم يخشون منافسة الملوك الماضين، الذين تحولت عظامهم إلى رميم، مقابل جرعة مسكنة من الشرعية الغربية، أو يمنحونها هدايا لملوك الغرب، الذين يتغيرون كل بضع سنوات، فيكون عليهم لزاماً أن يرضوا الملوك الجدد، فلا يتوقف نهر هدايا التاريخ والحاضر والمستقبل. وأضاف: نحن نبلع الموسى على الحدين، رولو وأمثاله يزّورون الوثائق بالترجمة، ويضللون الجامعات والأكاديميات، ورؤساء فروع المخابرات يبيعون الآثار الثقيلة الوزن، كل التماثيل الحجرية العملاقة التي تزن طناً فما فوق، والتي كنا نعثر عليها، أجدها بعد حين مقطوعة الرؤوس في المتاحف، كانت الرؤوس ترسل إلى متاحف أوروبا فتقع في الأسر!

قلت: أبا عودة، عد بنا إلى الكتاب؟

قال لي: سأخبرك ذات يوم.

سألت: كم عدد صفحات الكتاب؟

فسكت وكأنه يقول لي لو قلت لك لعرفت الكتاب.

وكنا نمشي، فهرول العالم السبعيني، فجهدت وأنا أحاول اللحاق به… وما زلت حتى الآن.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى