صفحات سورية

وفي درعا أزهر الربيع السوري

 


عبدالباسط سيدا

من الواضح أن النظام السوري يعيش الماضي بكل أبعاده وتفصيلاته. فهو لا يزال يعتقد أن الحل الأمني ، أو بكلام أدق القمعي هو الحل الأمثل – بالنسبة إليه بطبيعة الحال- في إقصاء الآخر، وإسكات صوته، والاستمرار في الاستقرار المصطنع المفروض على المجتمع السوري بقوة السلاح والمخابرات. فقبل أيام – في الخامس عشر من شهر آذار الجاري- أطلق النار على المتظاهرين الذين أعلنوها سلمية في درعا؛ ثم أعاد الجريمة وأطلق النار على المشيعين، وقبل يومين اقتحم الجامع العمري، بعد ذلك أطلق النار على المشيعين ثم على المناصرين، فكانت الحصيلة عشرات الشهداء والجرحى، إلى جانب أعداد كبيرة من المعتقلين، والجريمة ما زالت مستمرة… إنه نظام لا يريد أن يفهم – أو ربما أنه لا يفهم- أن الوقت قد تبدّل، والمعايير قد تغيّرت؛ كما أنه لا يدرك أن شعاراته الخاوية الجوفاء التضليلية لم تعد تقنع أحداً؛ فهي قد باتت باهتة غبية تماماً مثل اتهاماته السوقية للمتظاهرين السلميين، وإطلاقه الأوصاف الشنيعة عليهم، وهي أوصاف تذكرنا بتلك التي أطلقها حليفه القذافي وأبنائه على جماهير الشعب الليبي. فهناك الشعب ليس سوى جملة من “الجرذان والمهلوسين”، وهنا في سورية الجماهير المطالبة بالتغيير هي عبارة عن عصابة ومجموعة من المندسين. إنها حالة إسقاط نترك مسألة تحليل ماهيتها لعلم النفس بميادينه المختلفة.

المعطيات جميعها تؤكد أن النظام يعيش حالة تخبط ورعب غير خافية على أحد، هذا على الرغم من مساعيه لإظهار النقيض. فهو يتابع من دون شك ما حصل ويحصل في المحيط العربي سواء القريب أم البعيد؛ كما أنه يتذكر جيدا النصائح التي وجهت إليه من قبل السوريين وغيرهم منذ بدايات الجمهورية الوراثية، وقد كانت في جلها تطالب بضرورة الشروع بالإصلاحات البنيوية الشاملة بهدف تغيير طبيعة النظام التي كانت – وما زالت- عقبة أمام تطور المجتمع السوري وتقدمه. إلا أن النظام ما زال يكابر ويعاند ويؤكد من دون مناسبة في غالب الأحيان بأنه خارج دائرة الخطر، مصدقاً ادعاءاته الخاصة به، أو ادعاءات بعض مثقفيه الذين يبذلون جهداً يثير الشفقة لتلوية عنق الحقائق، أو النطق بجانب منها وإخفاء الجوانب الأخرى، فتأتي مشوهة مسخة لا تقنع أحداً، خاصة في عالمنا هذا، عالم الثورة المعلوماتية، والفورة التقنية في ميدان الاتصالات بأسمائها وأشكالها المختلفة.

من مظاهر خوف النظام وتوجسه من قادم الأيام، سلوكه تجاه احتفال السوريين من الكرد بعيدهم القومي، عيد الربيع- نوروز. فقد حرص على إظهار مرونة غير معهودة؛ تمثلت في عدم المضايقة الأمنية، وإرسال بعض المسؤولين المحليين لتقديم التهاني بالمناسبة، والإيعاز لبعض وسائل الإعلام بتغطية الاحتفالات؛ وهذه كلها أمور لا تُعد منة ولا كرماً، لأنها تدخل في صلب الحق الكردي المغتصب منذ عقود وعقود. لكن اللافت في اللوحة هو أن الخطوات المعنية جاءت من قبل النظام ذاته الذي كان قد أعلنها سياسة انتقامية نحو الشعب الكردي منذ انتفاضة القامشلي عام 2004 إلى يومنا هذا؛ وهي سياسة جسّدها بقرارات عنصرية، ترمي بما لا يقبل الجدل إلى إركاع الكردي أو إجباره على الرحيل. ونشير هنا بصورة خاصة إلى المرسوم49 السيئ الصيت الذي وقع عليه الرئيس بنفسه عام 2008، هذا إلى جانب المشاريع العنصرية الأخرى التي ما زالت مطبقة في إطار الاضطهاد المزدوج الذي يتعرض له الشعب الكردي في سورية، ونعني بذلك حرمانه من جميع حقوقه القومية المشروعة من جهة، وتعرضه من جهة ثانية لكل الإجراءات العنصرية والإقصائية.

لقد قرر النظام بقدرة قادر أن يكون ودوداً مع الكرد هذه السنة – وهذا أمر إيجابي لا نختلف عليه- ، وتخلى عن وسائل التضييق التي طالما التزمها في السابق مع الكرد، وهي وسائل شملت الملاحقة والاعتقال والقتل؛ فالكرد لم يحصلوا على حق الاحتفال بالنوروز مجاناً أو تكرّما، بل جاهدوا في سبيله بكل طاقاتهم جهاداً توج بالدماء الزكية.

إن تمكن الكرد هذا العام من إحياء عيدهم بصورة مقبولة هو أمر طبيعي، وحق مشروع لا يساوره الشك؛ ولكن في كل الأحوال لا يجوز أن يُستغل هذا الحق المشروع أصلاً كما أسلفنا من قبل بعضهم، ليغدو موضوعاً لمساومة ترمي إلى دق إسفين بين مكونات النسيج الوطني السوري؛ فالمسألة الكردية في سورية لا يمكن أن تحل بموجب صفقة أمنية، بل هي جزء لا يتجزأ من المشروع الوطني الديمقراطي السوري.ون هنا نرى أن أية محاولة لإبعاد الكرد عن تفاعلات الوضع السوري إنما هي لعبة مبتذلة مكشوفة، تؤكد من دون شك مدى تحسّب وتخوف النظام من الغضب الشعبي السوري القادم لا محالة.

الثورة السورية الشبابية السلمية ما زالت في بداياتها، وهي ستنمو أفقياً وعمودياً في المستقبل القريب. وما نتمناه ونتوخاه أن يسارع النظام إلى اتخاذ خطوات عملية تؤكد للسوريين جميعاً أنه مستعد بالفعل للانفتاح على الشعب، والدخول مع ممثليه من الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، والفعاليات الحقوقية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والروحية في حوار وطني جامع جاد، يقدم نموذجاً سلمياً عقلانياً للتغيير الديمقراطي الملح في سورية، فالموضوع ليس موضوع الانتقام أو التخلص من هذا الشخص أو ذاك، وإنما هو موضوع تغيير طبيعة النظام المريض الذي غدا كابوساً يشل الوطن وأهله؛ إلا أن ما حصل ويحصل من قمع وحشي للجماهير المطالبة بصورة سلمية بحقها في التعبير عن رأيها في درعا وغيرها من المدن السورية لا يمثل توجهاً صحيحاً ، فالجماهير المعنية لا تعبر عن رأي فئة أو شريحة معينة، وإنما تقول ما يطالب به جميع السوريون، وهو التغيير الديمقراطي السلمي الذي غدا واجباً وطنيا ملحاً لامناص منه من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، وضمان حريات الناس وكراماتهم.

إن ما تشهده درعا هذه الأيام يثير حزن كل السوريين وحنقهم، لا سيما وأن درعا ترفع مطلبين تلتقي حولهما عقول السوريين وأفئدتهم: إلغاء حالة الطوارئ ، وإطلاق سراح جميع سجناء الرأي. الشعب السوري بكل مكوناته وشرائحه وتوجهاته وجهاته يتألم ويغضب لما يحصل في درعا، وما قد يحصل من مجازر مماثلة في المدن السورية الأبية الأخرى. ومخطئ كثيرا من يعتقد أن في مقدوره إرهاب الشعب وإذلاله بالآلة الأمنية القمعية التي لا تعيش عصرها، عصر الثورات العربية المباركة التي ضحت الأجيال بكل عزيز ونفيس من أجلها، وهي ثورات تؤكد مجدداً ألا سلطة تعلو فوق سلطة الشعب؛ شاء من شاء وأبى من أبى. قد تتعثر الثورة هنا أو هناك، لكن التيار العاصف سيقتلع الاستبداد والإفساد، وسيشق طريقه نحو فضاءات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

لقد أدركت الشعوب الطريق، وتحررت من عقد الخوف، ولم يعد في استطاعة أي كان أن يخدعها. كما أن أيام الجمعة قد باتت أيام المؤتمرات الجامعة، مؤتمرات الناس على حد تعبير الراحل الصادق النيهوم، مؤتمرات ترتعد لها أوصال دوائر الطغاة والمفسدين؛ إنها مؤتمرات استعادت ألقها ووظيفتها الحيوية بعد أن كانت قد اختزلت إلى مجرد خطبة تمجد مزايا الحاكم الربانية وأسماءه الحسنى. لقد استعادت الشعوب أخيرا هذه المؤسسة الهامة التي لا يستطيع أحد أن يمنع انعقادها في نهاية كل أسبوع. مؤسسة تمثل الصلاة والخطبة الجزء منها وليس الكل؛ فاللقاء فرصة لتبادل الآراء بين المسلمين وغير المسلمين، بين جميع المكونات، جميع الأجيال، وسائر التوجهات، وذلك من أجل توحيد المواقف، والانتقال المشترك إلى مرحلة الفعل الخلاّق، تماماً مثلما تم ويتم في كافة ميادين التحرير والتغيير على امتداد العالم العربي.

بصراحة حريصة على الوطن وأهله نقولها بكل وضوح: الشعب السوري بأكمله يريد التغيير السلمي الديمقراطي. وسيعمل لبلوغه بكل إمكانياته. والسلطة الحكيمة الرزينة هي التي تستمع إلى نبض الشارع، خاصة بعد تجربة مصر أم الدنيا، وقبلها تونس الخصراء، وما يجري راهنا في اليمن السعيد وليبيا عمر المختار. ليس من مصلحة أحد تدمير إمكانيات البلد والإساءة إلى مواطنيه، والمصادرة على مستقبل الأبناء والأحفاد، أبناء وأحفاد جميع السوريين من دون استثناء

السلطة ممثلة بمجوعة القرار بقيادة رئيس البلاد بشار الأسد مطالبة بالدعوة إلى مؤتمر وطني عام، يناقش بمسؤولية وطنية عالية، وبالمنطق والعقل أبعاد الأزمة البنيوية التي يعاني منها النظام السياسي في سورية؛ والاتفاق على الحلول الجادة، بعيداً عن الديماغوجيات البلهلوانية، والنزعة الشعاراتية التي سئمناها وباتت موضع تندر الجميع.

الأيام القريبة القادمة حاسمة مفصلية؛ إما أن نَتَغيَّر بسلاسة احتراماً لتطلعات الشعب السوري المشروعة؛ أو أننا سنُغَيَّر في خضم صراع مفتوح ع

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى