صفحات سوريةميشيل كيلو

وقانون انتخاب جديد!


ميشيل كيلو

وأنا وحق الله لا أجد جديدا فيه، لأنه يسير على نهج آيديولوجي سبق لي أن أكدت عليه، عندما كتبت الأسبوع الماضي عن قانون الأحزاب «الجديد»، وقلت إنه يقوم على الأخذ بمستويات مختلفة للحرية، وإنكار تساوي خلق الله جميعهم فيها، كي يكون بعضهم حرا أكثر من بعضهم الآخر، بعضهم حرا وبعضهم أقل حرية أو بلا حرية، باسم معايير ليست من الحرية في شيء، كما سأشرح في التالي من كلام..

                      يعرف أرسطو الإنسان بأنه «ذات حرة وجديرة بالحرية بغض النظر عن تعييناتها الموضوعية». في هذه العبارة الرائعة، يعرّف الإنسان بالحرية وحدها، فهي الصفة التي يتساوى فيها مع الآخرين، الذين يمكن أن يختلف معهم في كل ما يخطر على البال من تعيينات موضوعية، فإن تم تعريفه بهذه التعيينات، كنا أمام تغليب الثانوي من صفاته الكمية على صفته الوحيدة النوعية: حريته، أو الحرية. عندما يضيع هذا التعيين، لا يبقى الإنسان ذاتا حرة ولا يتحدد بإنسانيته، بل يصير عاملا أو فلاحا أو رأسماليا أو عالما أو مطربا أو مثقفا أو متشردا، طويلا أو قصيرا، جميلا أو قبيحا… إلخ، فإن نحن ربطنا وجوده الاجتماعي بهذه الصفات الكمية، الثانوية، التي لا يجوز ولا تستطيع أن تعرفه كاسم نوع، دخلنا في فضاء اللاحرية، وفي السياسة: في نظام يفرق بين البشر ويقوم على إنكار الحرية باعتبارها صفة نوعية وحيدة يتعرفون ويتعينون من خلالها كبشر، وصار من المفهوم – وغير المقبول طبعا – أن يغطي غياب الحرية عبر تصنيفات تضفي شرعية مزعومة على نقص حريته أو حتى عبوديته، تتصل جميعها بتعيينات وجوده الموضوعية، فهذا عامل أو فلاح ويجب أن ينال الحرية بصفته هذه وليس لأنه ذات حرة، بصفته حامل رسالة تحررية أو تقدمية مزعومة، لصيقة بهويته هذه ومستقلة عنه بغض النظر عن موقفه الحقيقي، وذاك رجعي لأنه لا ينتمي إلى هذه الفئة أو تلك من المراتب المجتمعية، كأن ينتمي مثلا إلى البرجوازية، حتى إن كان من أمثال الرأسمالي فريدريك إنجلز، شريك كارل ماركس في وضع أسس النظرية الشيوعية، فلا بد إذن من إبعاده عن فردوس النظم السياسية، التي تأخذ بهذه الترهات، أو من حرمانه من الحقوق التي تمنح لغيره، وتنتقص من حقه في الحرية، وبالتالي من التساوي في الإنسانية مع العامل والفلاح.

هذا التفاوت بين البشر في حيثية الحرية، يفسر تمسك قانون الانتخاب الجديد بإعطاء العمال والفلاحين نصف مقاعد مجلس الشعب على الأقل، وستين في المائة من مقاعد مجالس الإدارات المحلية، علما بأن العامل ليس هنا ذاك الذي يعمل بيده وجبينه كي يكسب رزقه، بل هو عضو الحزب الذي يعتبر نفسه ممثلا للعمال والفلاحين، وعضو جهاز الدولة الذي يسيّر الحزب. عندما نقول إن نصف مقاعد البرلمان – ومجلس الشعب ليس برلمانا – يجب أن تكون للعمال والفلاحين، فكأننا نقول إن النصف الآخر لا يمتلك الحقوق عينها التي لهؤلاء، ولا يمثل الشعب ولا يجوز أو يستطيع أن يكون مؤتمنا على مصالحه، ومن الضروري تقييد حريته في تقرير أمور البلاد والعباد بتقييد عدد من يمثلونه في المجلس. بذلك، ينجم عن تصنيف المواطنين إلى أشخاص يستحقون قدرا من الحرية أكبر من الذي يستحقه غيرهم، تصنيف آخر يجعل بعضهم موثوقا وطنيا وسياسيا وبعضهم الآخر لا يستحق القدر نفسه من الثقة، مع أنه منتخب مثله من الشعب، الذي تقلع إرادته عن أن تكون مصدر شرعية النائب المنتخب، ولا تمنحه الحق في أن يكون لديه قدر من الحرية مماثل لما لدى العامل والفلاح، علما بأن الأخيرين لا يجب أن يكونا بالضرورة عاملين وفلاحين بالفعل، وإنما يكفي أن يعينهما النظام السياسي في هذا الموقع ويطلق عليهما هاتين الصفتين، فلا عجب أن «مجالس الشعب» العربية، المماثلة لمجلس الشعب السوري، ضمت أخلاطا من أغنياء جدد ومطربين ومهربين ومسؤولين وجنرالات سابقين ودبلوماسيين متقاعدين وملاك أراض كبار ومخبرين، بينما غاب عنها العامل والفلاح الحقيقي، خاصة بعد أن أخرج النظام هذين من العمل العام، ونزل بهما إلى درك اجتماعي فقير ماديا وروحيا، وجعلهما يكدحان ليل نهار من أجل تأمين لقمة عيش أحبائهما، فالعامل يشتغل قبل الظهر في مصنع، ويعمل بعد الظهر أو في المساء بائع خضار على عربة، أو حمالا أو صاحب بسطة أو حتى عاملا زراعيا، وهو غائب غالبا عن الوعي والواقع، تراقبه في المعمل اللجان النقابية، والإدارة بأصنافها المختلفة، السرية منها والعلنية، بينما يلاحقه المشرفون المباشرون على عمله… إلخ، الأمر الذي يجعل مأساة العمال والفلاحين مع قانون الانتخاب الجديد مزدوجة: فهو يمنحهم 50 في المائة من مقاعد البرلمان، لكنه يغيب أي عامل أو فلاح حقيقي عن مجلس الشعب، ويحل محلهم عمالا وفلاحين مزيفين هم بعض أكثر الناس كرها للعمل المنتج في الصناعة والزراعة ونفورا منه. وبالمقابل، فهو ينكر باسمهم حقوق المواطن الذي يصنفه القانون في غير خانتهم، ويعامله كمواطن درجة ثانية يجب أن يقيد انتخاب ممثليه عدديا بتقييد حقه في انتداب من يريد إلى المجلس.

عندما قيل إن السلطة ستصدر قانون انتخاب جديدا، ظننت أنهم سيعترفون بمساواة المواطنين في الحرية، وسيلغون المادة التي عبرت عن إنكار مساواتهم بحجة أولوية تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية. لكن النظام استعاد مبدأ التمييز بين المواطنين وأقام منظومة الحياة السياسية بكاملها عليه أيضا، بعد أن كان قد ميز بالأمس بين نمطين من الأحزاب في «قانون الأحزاب الجديد»، ومنح الأول منهما، أي حزب البعث، الحق في أن يكون قوميا وصاحب تنظيمات عسكرية وخارج رقابة لجنة الإشراف على الأحزاب، بينما سلب الأحزاب الأخرى هذه الحقوق.

ترى، أي تغيير أو إصلاح يمكن أن يترتب على قوانين تميز بين المواطنين، وتجعل التمييز بينهم أداة وإطارا لانتقاص حقوقهم، التي لا يقوم أي قانون في الدنيا كلها إلا على مبدأ تساويها أمامه، سواء انتسبوا إلى أحزاب وشاركوا أم لم يشاركوا في انتخابات مجلس الشعب؟ وما الفائدة من أن يكون حق الاقتراع عاما وسريا ومباشرا ومتساويا – كما يقول القانون في مادته الثانية – إن كان من ينتخبهم المواطن ليسوا متساوين، وكانت إرادته ليست مساوية في حقوقها لإرادة غيره، ولا تبطل النقص في حقوقهم؟

يكون الإصلاح، حين يمليه عقل إصلاحي يتعالى على المصالح الضيقة والشخصية، سلطوية كانت أم طبقية أم فئوية أم فردية. حين تهيمن هذه، وتنتج الواقع الذي يجب إقامته أو بقاؤه، لا يكون إصلاحا. عندئذ، يصير التمرد لغة المظلومين الوحيدة!

* كاتب سوري معارض

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى