صفحات المستقبل

وكلّ ينادي : الشعب يريد

 


دعنا من كل ما جرى قبل خمسمائة عام وأكثر حين اكتشفوا أمريكا .

لا شأن لنا بما جرى بين الصليبيين والمسلمين قبل ما يقارب ألف عام

ما الفائدة من قراءة كتاب يؤرخ لمرحلة أفلت منذ أكثر من ألف وأربعمئة عام

من الذي وُجِد أولاً البيضة ؟ ، أم الدجاجة ؟ ، وما هو المغزى والنتيجة ؟ .

– انتصر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية خلافاً للمعطيات التي أشارت إليها بدايتها، وعتب جنرالات أمريكا على رئيس الجمهورية آنذاك، وكان حديث العهد بالكرسي إذا أن برلين سقطت بعد أقل من أسبوعين على وفاة الرئيس السابق، فقد دخلت القوات الروسية إلى برلين قبل الأمريكية، مسلّحة بأعتى وسائل الإعلام والكاميرات الحديثة آنذاك، وأرّخت المرحلة حسبما أرادت من خلال نقل الصورة إلى العالم أجمع من منظورها وحسب ما تقتضيه المصلحة القومية العليا، فكسبت بهذا نقطة إضافية على حلفاء اليوم وأعداء الغد، وسارع الأمريكان لتوثيق اللحظات تلك عبر بوقها الكبير “Hollywood “ فبدؤوا بإنتاج الأفلام تباعاً كل منها يصور جزءاً من الحدث، كفيلم “Pearl Harbor” حيث قام المجرمون اليابانيون بمباغتتهم بهجوم وحشي قتل الكثير من الأبرياء ، ولم يكن منهم سوى أنهم ألقوا فقط قنبلتين نوويتين على مدينتين يابانيتين !! .

من الذي بدأ الحرب وأعلنها بين ألمانيا وفرنسا آنذاك ؟ وهل هذا مهم ؟ بغض النظر عن الاستفزازات السابقة لإعلان الحرب ، وهل أثر ذلك على النتائج ؟ تُرى هل أعطي الألمان حقّ إبداء رأيهم_بعيداً عن أبواق السلطة_  إعلامياً بما جرى ؟ إنّ دفاع الألمان اليوم عن اليهود ، وخشيتهم العميقة من التفوه بكلمة قد تجرح شعور أولئك المساكين ، هو أكبر دليل عما سنقوله .

– قرأتُ مرفقاً وضعته إحدى الصديقات على الفيس بوك، يفيد بتوفر رواية “ آيات شيطانية “ الشهيرة لكاتبها سلمان رشدي ، والتي أثارت ضجة إعلامية على مستوى العالم بأسره، اتسمت بطابع ديني أدبي سياسي شعوبي، فقد نال على إثرها الكاتب مرتبة الفارس في بريطانيا ، وهي رواية من تسعة فصول ، تم تخصيص فصلين كاملين منها للإساءة غير المفيدة في السياق للإسلام ، إذ إن المعلومات المغلوطة طبعاً المندرجة في الرواية لا يمكن محاكمتها علمياً وتاريخياً، لأن الكاتب فوراً سيتذرع بكون الرواية عمل أدبي لا علاقة له بعلم النقل والوقائع الحقيقية ولا علاقة للمعتقد والدين بها .

استفاد الكاتب من الضجة الإعلامية الكبيرة التي رافقت إصدار روايته تلك ، وإلا فالرواية غير مترابطة الأفكار وليست على مستوى يليق بتسميتها عملاً أدبياً على الرغم من أن الترجمة أحياناً تنتقص من القيمة الأدبية للعمل المكتوب باللغة  الأم ،  ولا يصعب على مبتدئي القراءة ملاحظة ذلك الدس الواضح لقصة لرسول الأعظم وتشويهها ما أمكن.

بنى الكثيرون ممن قرؤوا هذه الرواية معلوماتهم حول الإسلام على أحداثها ، وتعرفوا على الصورة المشوهة المكذوبة المراد إيصالها عبر تلك الرواية حتى غدت تأريخاً لمرحلة نشوء الإسلام وتحقيقاً ميدانياً بشكل أو بآخر لمسيرة رجل عظيم وربما غدت هذه الرواية بعد ألف عام من الآن تأريخاً موثوقاً ومرجعاً مثبتاً يبنى عليه إن بقيت الأرض لهذه المدة .فهلاً سأل مبجلو هذا الرجل عن حقيقة الأمر تاريخياً ، أم أنهم اكتفوا بما وصلهم من أشباه حقائق وبنوا عليها ؟

– تجمع الآلاف من المحاربين الأشاوس في بريطانيا وفرنسا مدفوعين بالخطاب الكنسي تارة وبالموروث الديني الذاتي طوراً ليبدؤوا الزحف المقدس نحو مملكة السماء ” القدس ” ليجاهدوا ويقاتلوا في معركة شريفة لتحرير الأرض الموعودة والتي تعتبر المدخل الوحيد للسماء على الأرض من أيدي محتليها وليؤسسوا المملكة الربانية العظمى التي تخضع لسلطة الدين ولنفوذ الصليبيين وينالوا بذلك رضى الرب، وفعلوا .. ، وتجمع لاحقاً في المقابل آلاف أيضاً لتحرير بيت المقدس بوازع ديني ذاتي بعد تقويض أركان الدويلات لتصبح الإمرة واحدة ليبدؤوا الزحف المقدّس نحو القدس لإعادتها إلى سلطة الدين الآخر ولإرضاء الله بتخليصها من أيدي الصليبيين، وفعلوا ..، ثم جاء مجاهدوا دين ثالث لينالوها على طبق من فضة وليؤسسوا الوطن الموعود على الأرض المقدسة مدفوعين أيضاً بوازع ديني ذاتي فحرروها من أيدي الصليبيين والمسلمين وبهذا نالوا رضى الرب.

كان الرب قاسماً مشتركاً في العمليات العسكرية الثلاث التي قضت على آلاف البشر إن لم نقل ملايين، فالجميع تذرع برضى الإله وبوازع الدين، والجميع قاموا بجهاد مقدس، والجميع أيضاً_ كلٌّ من منظوره_ أيده الله بنصره، ولو لم يكن محقاً لما نصره الله .

على الرغم من الاختلاف الجذري بين الديانات الثلاث _ رغم من قولنا أن منبعها واحد لكننا نتكلم هنا من منظور عام ورؤية شاملة حالية _ فقد توحدت تحت راية الله ورضى الله ، وقاتلت كل منها الأخرى تحت راية الله فهل يمكننا القول أن الحقيقة تكمن عند هذا الطرف أو ذاك ؟، وهل يمكن أن نعزو هذا التبادل في الملكية فعلاً لوازع ديني محض؟، ربما كان ذلك لو نظر كل منا تبعاً لما يظن ويعتقد. لكن في الجوهر تبرز حقيقة صرفة لا لبس فيها : كل منا يرى أنه _دينياً_ على حق وأنه المنصور بالله .

هنا، لن أقوم بالتذاكي في إسقاط كل ما سبق ذكره على الواقع الحالي كما هو متوقع، ولن استخلص العبر والمغازي، بل سأترك تلك الأفكار رهينة عقل القارئ ليستنبط منها ما يراه مناسباً ، وكما جرت العادة : كلّ حسب منظوره الخاص، وتبعاً “لوازعه” الذاتي .

لا يمكن في هذه الأيام أن نكتب مقالاً ونتجاهل ما يجري من أحداث حولنا، فالخبر الأول والأهم والأكثر تشويقاً على شاشات التلفزة هو خبر عاجل يعنون بـ : الاضطرابات في سوريا.

منذ بدء الأحداث قبل ثلاثة أشهر تقريباً والسؤال مازال مطروحاً دون إجابة، ولنكن أكثر دقة فقد أجيب عنه عشرات المرات، حسبما يرى كل مُجيب.

حاولتُ أن أبتعد قليلاً عن كل ما أتبناه من مواقف وعن كل رأي شخصي لي فيما جرى ويجري وبدأت بمحاولة حلحلة عقدة هذا السؤال دون أي تأثير داخلي أو خارجي، فوجدت أن الغموض يحيط بالصورة من كل جانب والتجييش يرفعها من هنا وهناك أعلى وأعلى، بحيث تصبح دائماً مادة للجدل العقيم والنقاشات السفسطائية، والحروب الكلامية المدعّمة بمتاريس فولاذية من مواقف وآراء لا يمكن بل يستحيل على متبنيها التنازل أو الابتعاد عنها قيد أنملة .

نتابع الرأي الرسمي فنجده ثابتاً عند نقاط محددة :

– جماعات أصولية تسعى لإقامة إمارة أو عدة إمارات إسلامية في سوريا معتمدة على الفوضى التي سترافق التظاهرات، وعلى قوة عسكرية محدودة تم التخطيط لبنائها منذ أعوام ، وهذه الجماعات مدعومة من دول إقليمية وعالمية .

– عصابات إرهابية مجرمة مكونة من المهربين والسارقين وأصحاب السوابق تقوم بنشر الرعب والقتل والتخريب لتحقيق غايات ومكاسب مادية معتمدة على قوة عسكرية محدودة .

– جماعات منظمة ممولة من الخارج لتمرير مخطط مشبوه للتآمر على سيادة الدولة، هذه الجماعات مأجورة قام بتجنيدها بضعة اشخاص لهم مصلحة في إسقاط النظام وتعمل وفق جدول زمني وسيناريو مكتوب ومخطط له منذ سنوات، والهدف منه خلق حالة من الفوضى والتخريب بحيث يتحقق المطلوب .

– دول عظمى تقوم بتجييش الرأي العام عبر وسائل الإعلام الشهيرة، غايتها النيل من جبهة الصمود والتصدي وإضعاف عنصر الممانعة والمقاومة في المنطقة خدمة لإسرائيل .

– حركات طائفية مريضة تقوم على إلغاء الآخر ، لا هم لها سوى قتل كل من يخالفها في المذهب، ولا تريد سوى أن تنال من النظام الذي يتبع لطائفة معادية، وهذه الحركات مدعومة بوسائل إعلام وبمحاولات إثارة النعرات في مناطق التماس الطائفية، وهم في الغالب رعاع جاهلون.

– مقلدون مغرر بهم ، رأوا ما حدث في مصر وتونس ويريدون أن يعيشوا التجربة دون دراية أو علم بالنتائج والعواقب ودون أن يفكروا ويحللوا أن الحالات تختلف بين سوريا ومصر وتونس.

أما على المنقلب الآخر فنجد الرأي أيضاً ثابتاً :

– شباب مثقف يطمح للحرية والعيش الكريم، وينادي بشعارات وحدة وطنية ، وحرية وهذا الشباب لا يمول من أية جهة وليس مدفوعاً من أي فريق، بل مبادرته سلمية وطنية وله مطالب محددة يمكن تلخيصها برفع حالة الطوارئ وإلغاء المادة الثامنة من الدستور والدعوة إلى انتخابات نزيهة، بعد إسقاط النظام طبعاً .

– حركة شعبية سلمية انتفضت ضد الفساد والحالة المادية المزرية وتطالب بداية بالإصلاح ، ومن ثم بإسقاط النظام ، وتريد خفض سعر المحروقات وزيادة الرواتب وتأمين فرص العمل والعيش الكريم ، وهذه الحركة غير ممولة وغير مرتبطة بأية أجندة خارجية.

– حراك سياسي شعبي متمثل بمبادرة من أحزاب معارضة التقى بعضها في أنطاليا ، بهدف إنشاء مجلس انتقالي يضمن انتقال السلطة بشكل سلمي، وبانتقال البلد إلى حالة من تعددية سياسية حزبية تضمن لكل فرد حق الاختيار بعيداً عن الطائفية البغيضة وبعيداً عن أية مؤامرات أو دسائس هنا أو هناك .

– مسيرات سلمية محملة بالورود وبهتافات ” الله أكبر ” ضد النظام وأعوانه ، تحتج على قيام النظام بقتل المدنيين العزّل بدلاً من تحويل قدرته العسكرية إلى جبهات النزاع على الحدود المحتلة ، وترفض الاستمرار تحت ظل سلطة قامت بقتل المئات من المواطنين فقط لأنهم نادوا بالحرية وبـ ” الله أكبر “.

هذه الآراء هي خط أحمر لدى كل متبنّ لإحداها، وأي نقاش أو حوار يجب أن يرتكز على مفهوم كل طرف دون أدنى محاولة لاستيعاب أو تفهّم وجهة النظر الأخرى، وكما ذكرت مرة ، كل يحشد الإعلام والصور ومشاهد الفيديو وآراء السياسيين لدعم نظريته وفكرته حول ما يجري ويوظف أي حدث بما يخدم توجهه ، فالحكم ثابت بالكذب مباشرة على كل من يخالف مبدأه ومعتقده ، واتهامات الفبركة متبادلة بين هنا وهناك .. إلخ.

لم يستطع المتظاهرون النظر بشكل أوضح ليروا أن ما يحدث ليس مجرد حركة سلمية بريئة ، ولم يستطيعوا أن يصلوا لحقيقة أن ما يجري على الأرض فعلاً هو كل ما ذكرته أعلاه مجتمعاً دون حذف أي بند .

كما لم تستطع الحكومة أن تعترف بأن هذه الحركات ليست بمجملها حركات إرهابية تخريبية سلفية طائفية دموية، بل تحمل في مضمونها مطالب محقة فعلاً لا كلاماً مجرداً.

هناك فعلاً أناس مدفوعون بحب الوطن، يخرجون ليعبروا عن حبهم هذا وليطالبوا بما هو مشروع ولا يختلف على ضرورة وجوده عاقل، كما أن هناك فعلاً من هم يقتلون ويسرقون ويخربون تحت اسم الثورة، هناك فعلاً أناس طائفيون بشكل مقرف همهم الوحيد حرق كل ما هو مغاير للونهم الديني .

هذه الأطياف كلها موجودة ، لا ينكر وجودها إلا متمترس خلف حواجزه العقائدية، الدينية ، السياسية ، الفكرية .

ولا يمكن إنكار وجودها .

في النهاية

فكر كما شئت ..

حلل كما تشتهي ..

صدّق ما تريد وكذّب ما تريد ..

لا بأس ..

لكن ليكن حب الوطن هو الدافع .. وهو الغاية .. وهو المنطلق .

كلنا في النهاية سوريون ..

مهما اختلفت طوائفنا .. أو تعددت أحزابنا .. أو تباينت أفكارنا

الويل لأمة كثرت فيها طوائفها .. وقلّ فيها الدين

الويل لأمة مقسمة .. وكل ينادي : أنا أمة

وكلّ ” من الطرفين ” ينادي ..

الشعب يريد …

 

عشتم ..

عاشت سورية.

وكلّ ينادي : الشعب يريد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى