صفحات الناس

اللاعودة إلى الوطن/ ناصر الربّاط

 

 

عندما كنت صغيراً، كان الوطن صغيراً أيضاً: الأسرة، بيتنا، شارعنا الصغير الذي يحمل اسم واحد من شهداء أيار (مايو) ١٩١٦، بعماراته وسكانه ومشاغلهم وطرق عيشهم والدكاكين فيه، وجدتي التي تسكن في عمارة مقابل عمارتنا على تقاطع شارعين. دمشق أيضاً كانت صغيرة، وأصغر منها دمشقي أنا وأكثر حميمية. فهي بيوت الأقارب التي توزعت في أحياء قريبة يمكننا الذهاب إليها مشياً، وجنينة السبكي حيث كانت جدتي تأخذنا لنطعم البطّات فيها، والمدرسة الأبعد قليلاً، والباص الذي يأخذنا إليها كل يوم، والرفاق الذين نقابلهم فيه وفي المدرسة، والذين ربما زرناهم أحياناً في أعياد ميلادهم أو عندما يمرضون… والمحلات التجارية في طريق الصالحية حيث نذهب للتبضع، بخاصة محل الألعاب الذي احتل وحده ناصية، والذي كان يملك جاذبيةً خاصةً وكان الذهاب إليه بعد الأعياد طقساً سحرياً. ندخل من الشارع المملوء ضياءً وضجيجاً إلى المحل المعتم والمتروس إلى أعلاه باللعب والذي يملكه رجل كبير السن، شعره أبيض وابتسامته صعبة التفسير، قالت لي أمي إنه عاش في أوروبا البعيدة وإن زوجته نمسوية.

اكتشفت مفهوم سورية الوطن في هذا المحل بالذات، تحديداً إثر الانفصال عام ١٩٦١ عندما كان عمري لا يتجاوز الخامسة، إذ ذهبنا بعد أحد الأعياد مع مبلغ العيدية الذي كان مسموحاً لي شراء لعب به من محل اللعب إياه. لكنني في ذلك اليوم لم أشترِ، وإنما ابتعت علم سورية الذي كان البائع يعرض نماذج مختلفة القياس منه مع قواعد لها، علم سورية الاستقلال ذا النجوم الحمراء الثلاث الذي عاد اليوم ليكون علم ثورة سورية المأسوية. لا أذكر تماماً لماذا ضحيت بعيديتي واشتريت علماً بدلاً من لعبة، ربما لأنني كنت أسمع من والدَيَّ استحساناً لانقلاب الانفصال وارتياحاً إلى الخلاص من ربقة حكم عبد الناصر الاستغلالي الذي خيّب آمالهما وأمل عموم السوريين (بعدما كانا سمّياني على اسمه ترحيباً بزعامته عام ١٩٥٦). لكنني أذكر أنني كنت فخوراً جداً باختياري، ووضعت العلم على مكتبي في البيت.

تغيَّر علم سورية بعد انقلاب 8 آذار (مارس) ١٩٦٣، وفُرض على البلاد علم جــديد ونظام جديد، أقل ما يقال عـــنه إنه كان غاشماً ومخيفاً. طلبت إليَّ أمي إزالة علم الانفصال عن الطـــاولة، فوضــعته في علبة كنت أضع فيها اللُّعَب التي كبرت عليـــها في أعلى الخـــزانة ونسيته هناك. لكنني لم أبدّله يوماً على طاولتي بأي من الأعلام التي فرضــــها نظام «البعث» علينا والتي تغيرت أكثر من مرة تبعاً لأهواء الحكـــام وتحالفاتهم. حتى عندما فُرض علينا في مدارسنا أن نحيي العلم الجديد وننـــشد نشيد «البعث» وشعاراته فإنها، وإن كنت كغيري أرددها بسبب رقابة الموجهين المخابراتيين، لم تعنِ لي يوماً تمثيلاً للوطن أو رمزاً لسورية.

تعلمنا الصمت والقبول بواقع الحال في ظل النظام القمعي، خوفاً من عقاب صارم يمكن أن ينزل بنا لأقل هفوة. كان الأهل يرددون علينا ألا نتحدث بشيء مما نسمعه في البيت، أمام أصدقاء المدرسة أو الحي. فلا أحد يعلم من كان يعمل مخبراً لأجهزة الأمن المنتشرة في كل مكان والتي احتلت أقبية عمارات عادية في الأحياء يختفي فيها الناس أحياناً لفترات طويلة، وأحياناً لا يعودون. عشنا لفترة طويلة في رعب من الاستخبارات، حتى توطّن الرعب فينا ولم نعد بحاجة الى وجود الاستخبارات في كل مكان حولنا، إذ يكفي أن نشعر بأنها موجودة لكي نلتزم الصمت ونقبل بالمهانة التي وضعنا فيها نظام «البعث» وتاليه نظام الأسد، حتى أصبحت المهانة جزءاً من شخصيتنا، وأصبحنا نداريها بتجاهلها والعيش كما لو أننا كنا مواطنين حقيقيين في وطن حقيقي. استمرأنا الدور وتماهينا معه، أو تماهى معه أكثرنا، إلا القليل من الأفراد الصلبين الذين قاوموا الاستبداد بكل الطرق المتاحة لهم من تعبير ونشر وتنظيم واحتجاج ورفض وانتقاد، ثم دفعوا ثمناً باهظاً لمحاولاتهم سجناً وتغريماً وتهديماً للسمعة، وأحياناً إعداماً أو اغتيالاً أو تشريداً.

أما أنا فلم أكنْ يوماً مسيَّساً في سورية. وعندما غادرت البلد في أوج الصراع بين نظام الأسد و «الإخوان المسلمين» بداية الثمانينات، كان هدفي متابعة دراستي العليا وإن كنت أستشعر في داخلي أنني ربما لن أعود. فأنا مثل كثيرين، من الشباب الذين عرفتهم في دمشق كنت أحس بالاختناق وانسداد الأفق في سورية الأسد. فالوطن كله كان أصبح سجناً كبيراً: من ناحية نظام بوليسي استخباراتي يكمم الأفواه ومن ناحية أخرى عادات اجتماعية متزمتة ومهترئة وتديُّن متشدد ابتدأ بالانتشار في ظل النظام القمعي ذاته، مدّعي العلمانية، وتضخم لينازعه الغنيمة. والسوريون كلهم مساجين حتى أولئك الذين تقبلوا الحكم الأسدي وهلَّلوا له أحياناً، غصباً أو تأييداً، أو أولئك الذين عادوا للتديُّن اعتقاداً أو تقيةً أو مسايرةً، فازداد التديُّن تشدداً وما قدروا على مجاراة هذا التشدد الذي تحوّل أخيراً دموياً.

ها أناذا بعد أكثر من ثلاثين سنة مغترب بجدارة. وسورية ذبيحة، تتنازع الإجهاز عليها الجهتان اللتان اقتتلتا في الثمانينات، النظام الأسدي والإسلاميون، وكلاهما فرّخ مسخاً أكثر دموية وشراسة منه وأقل سياسة وحنكة وبعد نظر. السوريون رهائن هذا الصراع وضحاياه: مئات آلافهم قتلى وجرحى ومشوّهون وملايينهم مهجرون داخل سورية وخارجها، حقوقهم ضائعة وتنسمهم للحرية الذي برعم ثورة سلمية عام ٢٠١١ عاد وانكسر تحت وطأة وحشية النظام المفرطة وفساد المعارضة الساذجة، وإقحام للدين بطاش من قبل جماعات تكفيرية لا يُعرف لها منبت أو انتماء، وتدخل قوى اقليمية ودولية لكل منها حساباته وأطماعه.

موطن النشأة اليوم يتحول إلى موئل للذكريات والأحلام التي احترقت بأسرع مما تشكلت، وموقع للتعاطف ومحاولة التخفيف من معاناة أشقاء وشقيقات في الانتماء لم يهاجروا بإرادتهم إنما اقتُلعوا اقتلاعاً من أرض ولدوا عليها وعاشوا فيها وأحبوها، ولم يخطر ببالهم إطلاقاً أن يأتي يوم لا يتمكنون فيه من العودة إليها.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى