صفحات العالم

مقالات تناولت العدوان الاسرائيلي على غزة

ثورة سورية فعل أخلاقي بطولي صواريخ غزة ليست كذلك

بشّار حيدر

يأخذ مؤيدو الثورة السورية على جماعة الممانعة تعاطفهم مع غزة مقابل امتناعهم عن التعاطف مع عذابات السوريين. أما الممانعون فلا يحبون أن تُنغّص عليهم سورية حزنهم على فلسطين وتضامنهم معها. لكن الكل يتفق على التضامن مع غزة ومحاربيها. فلا يجد مؤيدو الثورة السورية حرجاً في تأييد حماس بعد ابتعاد تلك عن نظام الأسد وانحيازها إلى المحور الداعم الثورة. في المقابل ينتعش قوم الممانعة بشكر قادة حماس والجهاد إيران على دعمها العسكري، بينما يرتبك مؤيدو الثورة بهذا الشكر لدولة تغمس يدها في الدم السوري. يسقط الممانعون أخلاقياً في سورية قبل غزة وبعدها. ويسقط (كما هو متوقع) معظم مناصري الثورة في فخ الممانعة الأول: قضية فلسطين.

واقعياً وأخلاقياً لا يجمع بين ما جرى في غزة وما يجري في سورية سوى أنهما مواجهتان غير متكافئتين بين آلة عسكرية عنصرية – فئوية غاشمة وخصم يحارب بالقليل المتوافر من القوة. كل ما عدا ذلك مختلف. للثورة السورية هدف واضح وقابل للتحقيق وهو إسقاط نظام الأسد. لا شك في أن السوريين يدفعون ثمناً غالياً لذلك. وهذا ما يزيدهم بطولة، ليس فقط لأنه ثمن قاسٍ يُدفع من أجل تحرير سورية من نظام مافيوي يتحكم بالبلد ويستعبد أهله، بل لأنه ثمن لا يدفع هباء. لم تكن كل هذه الأكلاف في الأرواح والأملاك مبررة لو كان تحرير سورية ممكناً من دونها، أو لو كان تحريرها مستحيلاً حتى معها. لكن الأمور ليست كذلك. فلا النظام الأسدي قابل للإصلاح أو التغيير من دون هزيمة عسكرية بكل ما يحمله ذلك من أعباء وأثمان، ولا هو محصن ضد هكذا هزيمة بدأت تظهر ملامحها في الأفق، هزيمة لا تجعل تضحيات السوريين فعلاً عبثياً يجلب الموت و الدمار فحسب.

كل ذلك لا ينطبق على مقاومة غزة الصاروخية. فالهدف من استعمال أو حتى امتلاك هذه الصواريخ غير واضح. إذا كان الهدف تحرير فلسطين والقضاء على دولة إسرائيل، لا بد أن في الأمر مزحة، ليس بسبب التفاوت الهائل في القدرات العسكرية، بل لأن القضاء بالقوة على أي دولة تتمتع بشرعية أممية كالتي تتمتع بها إسرائيل (على الأقل في حدود ما قبل الـ٦٧) أمر أشبه بالمستحيل. وإذا كان من الممكن أن تتغير حدود الدول عبر حركات انفصالية، فهذا يعني، في حالة إسرائيل، استقلال الضفة والقطاع عنها، ليس أكثر.

ربما كان هدف الصواريخ ليس أكثر من إنهاء الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزة، لكن هذا يستدعي سؤالاً حول هدفها من الحصار. إذا كان هدف الحصار هو القضاء على قدرات حماس والجهاد الصاروخية، فرفع الحصار يتحقق بكلفة بشرية ومادية أقل عبر التخلي عن هذه الصواريخ. أما إذا كان الهدف من الصواريخ تحسين شروط التفاوض من أجل إقامة دولة فلسطين على أراضي الـ٦٧، فمن غير الواضح كيف تم حتى الآن استثمار الصواريخ في المفاوضات، خصوصاً في غياب أي تنسيق (بل في ظل حالة عداء) بين من يفاوض ومن يطلق الصواريخ.

طبعاً، هناك دائماً الحجة القائلة إن المفاوضات لم تجلب شيئاً للفلسطينيين وإن إسرائيل لا تفهم ولا تُعطي إلا بالقوة بالتالي هناك دور للصواريخ. لكن، وبصرف النظر عن صحة هذه الإشاعة، لا يبدو أن الصواريخ (أو العمليات الانتحارية قبلها) نجحت في تحقيق أي مطلب للفلسطينيين عدا إرضاء رغبة مكلفة بالانتقام. ربما لم تجلب المفاوضات شيئاً للفلسطينيين، لكن القوة لم تأتِ بشيء أفضل. في أحسن الأحوال لم يكن ما جلبته المقاومة المسلحة في غزة أفضل مما جلبته المفاوضات في الضفة. إذا كانت القوة غير قادرة على تحقيق إنجازات أفضل من تلك التي تحققها المفاوضات، تكون المفاضلة لمصلحة الأخيرة التي تظل الأقل كلفة.

في شكل عام، إذا تساوت الوسائل في تحقيق (أو عدم تحقيق) هدف ما، يُفضل اللجوء إلى الوسيلة الأقل كلفة أرواحاً وأملاكاً. والعجيب في الأمر أن ينقلب هذا المنطق في النظرة السائدة إلى المواجهة بين الفلسطينيين وإسرائيل. هنا، تُعفى الأساليب الأكثر كلفةً من المساءلة حتى عندما يثبت عدم جدواها، والعمليات الانتحارية خير مثال على ذلك. فكما هو معروف، اعتمدت حماس والجهاد ومجموعات أخرى وسيلة العمليات الانتحارية على مدى أكثر من عقد. وآذت هذه العمليات الإسرائيليين وقضّت مضاجعهم وأربكت حياتهم أكثر من أي شيء عرفوه في تاريخ دولتهم. أصابت هذه العمليات الإسرائيليين في قلب مدنهم من دون إنذارات وبقسوة لم يعهدوها. قتلت العمليات الانتحارية أكثر من ٧٥٠ إسرائيلياً في الفترة الممتدة بين 1994 و2005، في حين لم تقتل الصواريخ الفلسطينيية أكثر من ٦٤ إسرائيلياً منذ ٢٠٠١ حتى وقتنا هذا. على رغم كل ذلك لم ترغم العمليات الانتحارية الإسرائيليين على تقديم التنازلات، بل على العكس، زادتهم تعنتاً. بنوا الجدار ونالوا من قادة حماس والجهاد بعد كل عملية انتحارية. ونجحوا في شكل أساسي وعبر القوة فقط في القضاء على تلك العمليات. لم يفهم الإسرائيليون بالقوة كما اعتدنا أن نسمع. بل من فهم بالقوة هو الجانب الفلسطيني، وإلا فليشرح لنا أحدهم لماذا توقفت هذه العمليات، وما هو التنازل الذي قدمه الإسرائيليون ليوقف الانتحاريون عملياتهم. مع الأسف، إذا كان هناك درس تعلمه الإسرائيليون من تجربة العمليات الانتحارية فهو أن مَن لا يفهم إلا بالقوة هم الفلسطينيون.

يتعامل الممانعون وكثيرون غيرهم، ممن تُخدر عقولهم مسلّمات بائسة عن المواجهة مع إسرائيل، وكأن القوة تبرر نفسها من دون الحاجة إلى تحقيق إنجازات. لا شك في أن من الخطأ الاعتقاد بأن اللجوء إلى القوة غير مبرر على الإطلاق. فالقوة قد تكون مجديةً ومبررةً أحياناً كما يبدو الحال مع الثورة السورية. أما أن تُقدس القوة وتُنزه عن الهزائم فذاك ليس سوى تعبير عن باثولوجيا سياسية واجتماعية في آن.

الحياة

زمن المسلمات

تشيلو روزنبرغ

الان، بعد ان تبدد “عمود السحاب” خيراً نفعل اذا ما توصلنا الى استنتاجات ومسلمات عدة تتعلق بمسألة الواقع الجديد الذي يتبلور امام ناظرينا. حان الوقت لترك السياسة الحماسية والتصريحات غير المسؤولة والكف عن استخدام الخطابة التي تقصد بكاملها الاصوات في صناديق الاقتراع. يجب النظر الى الواقع بعيون واعية من أجل مستقبل المجتمع الاسرائيلي.

أولا، تعلمنا انه محظور أن نغرس في قلوب الناس آمالا عابثة، سواء كنت في المعارضة أم في الائتلاف. الواقع قد يصفعنا على وجوهنا وان يجرحها بشدة. فأقوال من قبيل: يتبين أننا كان بوسعنا أن نرى على نحو صحيح ما لم يروه بعماهم. فهم ليس فقط لم يروا الخطر، حين ثار، بل أبدوا ضعفا حياله. تجلدوا، فتبنوا التهدئة، وسمحوا لـ”حماس” بالتسلح بالصواريخ أكثر فأكثر. وفي النهاية، عندما انطلقوا الى العملية، قام الجيش الاسرائيلي بعمل استثنائي، تسيبي ليفني وحكومة “كاديما” أوقفتا الجيش الاسرائيلي قبل استكمال المهمة. “نحن سنعيد الامن لسكان عسقلان، لسكان اشدود، لسكان سديروت وبئر السبع ويفني. “نحن سنعيد الامن لسكان اسرائيل”. هذه أقوال خطيرة للغاية. فالكل يعرف من قالها وفي اي سياق. حتى لو كنت في المعارضة، يجدر بك الحذر من غرس آمال عابثة في قلوب المواطنين إذ يحتمل أن يأتي يوم تكون فيه رئيس الوزراء ولم تتمكن من تحقيق ما وعدت به حين كنت معارضا. الواقع سيصفعك على الوجه.

في حرب غزة الاخيرة فهم زعماؤنا بأنه لا يمكن الاستهتار بالعالم بأسره، وفي المقابل تلقّي مساعدته. ولن نكشف عن اسرار كتيمة اذا قلنا ان هذه المرة أيضا عملت الديبلوماسية بكامل القوة. حقيقة هي أن زعماءنا ما كان بوسعهم ان يتجاهلوا الضغط الدولي بوقف الحرب، حتى لو تلقينا شرعية للاعمال في غزة.

معقول الافتراض بانه مورست ضغوط شديدة للغاية على كل الاطراف الى أن اعطت نتائج. فقد تبين ان لاوباما نفوذا على الرئيس مرسي، رجل الاخوان المسلمين، الذي فعل كل شيء كي يجبر قادة “حماس” على الوصول الى تسوية. واسرائيل يمكنها بالتأكيد ان تشكر اوباما، على الاقل، على أنه أمسك بالخيوط نحو اتفاق وقف النار. لقد حام تقرير غولدستون كالسحاب الكثيف فوق رؤوس زعماء اسرائيل والجيش الاسرائيلي. فليس فقط الاعمال الدقيقة جدا التي قام بها سلاح الجو، بل وايضا الامتناع عن أعمال برية كان من شأنها أن تلحق خسائر كثيرة في أوساط سكان غزة، هي نتيجة وجود تقرير غولدستون في الوعي الاسرائيلي.

لن يبعد اليوم الذي يُفهم فيه بأن غزة هي حجر رحى على رقبة اسرائيل. لا حاجة الى الحصار. كل التهديدات بوسائل قتالية متطورة لن تجدي نفعا. فالسلاح المتطور قابل للاصابة بما لا يقاس اكثر من الانابيب البدائية التي تطلق اليوم. وحتى لو كانت كل غزة مليئة بالسلاح، فانها تبقى لا تشكل تهديدا وجوديا لاسرائيل. غزة للغزيين ولاخوانهم العرب. هذا هو الحل الوحيد الحقيقي. خسارة أنه لا يوجد زعيم في اسرائيل يقول هذا على رؤوس الاشهاد. أمن مواطني اسرائيل أهم من كل الحملات الانتخابية أو القرصات السياسية. محظور مناكفة الاصدقاء في العالم إذ سيحل يوم سنحتاجهم فيه.

مؤرخ ومختص بالأمن القومي”معاريف” – ترجمة “المصدر”

النهار

أسئلة على الفلسطينيين بعد حرب غزة

ماجد كيالي *

ثمة عوامل عديدة لعبت دوراً أساسياً في وقف الحرب على غزة، من ضمنها الأداء المفاجئ والشجاع للمقاومة، التي وصلت حدّ قصف تل أبيب لأول مرة منذ قيام إسرائيل، والتغيّر السياسي الحاصل في العالم العربي، بعد الثورات الشعبية، وهو ما تجلّى في تغيّر مضمون الدور المصري، ووجود إدارة أميركية لا تشجّع إسرائيل على الحرب. تذكّروا أن الرئيس أوباما لم يقم بزيارة إسرائيل حتى الآن. وثمة عامل آخر وهو أن الحرب، هذه المرة، لم تجر وفق حسابات الصراع مع محور سورية وإيران و «حزب الله»، فثمة محور جديد، إن صحّ التعبير، قوامه مصر وتركيا وقطر و»حماس»، ما أعطى الإدارة الأميركية فرصة للمناورة، سهّلت لها الضغط على إسرائيل، ووضعها عند حدّها، وهي فرصة ربما كانت تتحيّن انتظارها، لتصفية بعض حساباتها مع نتانياهو.

مع ذلك ينبغي عدم مداعبة الأوهام فهذه الحرب سيكون لها ما بعدها، بعد أسابيع أو أشهر، أو بعد عام أو أكثر قليلاً، فمن يعرف إسرائيل يدرك أن القصّة لم تنته، لا مع اتفاق ولا من دونه، لا مع هذا الطرف ولا مع ذاك، فهذه الدولة المتغطرسة تعيش بين هدنة وأخرى وحرب وأخرى. أيضاً، من يعرف إسرائيل يدرك أن هذه دولة وضعت نفسها في حرب دائمة مع الفلسطينيين ومع محيطها، تبعاً لعقليتها الأمنية الإسبارطية، عقلية القلعة («الماسادا»)، وهذا جزء مكوّن في تعريفها لذاتها كدولة يهودية، استعمارية واستيطانية وكدولة «غيتو» تعتبر نفسها جزءاً من الغرب لا من الشرق الأوسط.

الآن، وبعد وقف الحرب ثمة أسئلة مهمة تطرح نفسها على الفلسطينيين، لعل أولها السؤال المتعلق بمعنى الانتصار، أو تعريف الانتصار. وفي هذا الإطار لا يجوز بخس المقاومة حقها، إذ إنها استطاعت هذه المرة أن توجه ضربات موجعة لإسرائيل، وعقيدتها الأمنية، وإلى روح الغطرسة عند الإسرائيليين. والحال فإذا كان ينبغي الاعتداد بهذا الانتصار، فإن المبالغة به مضرّة، وفي غير محلّها، ويمكن أن تؤدي إلى استنتاجات غير موفقة، لا سيما أننا نتحدث عن انتصار للضحية، لشعب ضعيف، يفتقد الموارد، ويعاني الاحتلال والحصار. هكذا وإزاء شعب هذه هي ظروفه يصعب توقع انتصاره على عدو كإسرائيل، التي تمتلك ترسانة عسكرية لدولة عظمى، فضلاً عن أنها تحظى بضمانة الدول الكبرى لأمنها واستقرارها وتفوقها، من دون أن ننسى أن هذه الدولة تحتكر ما تسميه سلاح «يوم القيامة» (السلاح النووي). القصد من ذلك أن الشعوب المستعمَرة لا تحقق الانتصار على عدوها بالضربة العسكرية القاضية، وإنما بالنقاط، وبتوافر الظروف المناسبة والمواتية لها في مجتمع العدو، وعلى الصعيدين العربي والدولي.

والحال، ففي غمرة الاحتفاء بما تحقق ينبغي الانتباه إلى أن موازين القوى العسكرية والمعطيات العربية والدولية لم تتغير بعد، إلى الدرجة التي تمكِّن الفلسطينيين من تحقيق أهدافهم، بهزيمة إسرائيل، لا على مستوى التحرير ولا على مستوى إقامة دولتهم في الضفة والقطاع، ولا حتى على مستوى إجبار إسرائيل على وقف الاستيطان أو العدوان.

صحيح أن هذه الحرب لم تتمخّض عن كسر إرادة الفلسطينيين، ولكنها لم تتمخّض أيضاً، عن تنازلات سياسية ذات مغزى من قبل إسرائيل، فما نجم عنها هو مجرد تكريس الهدنة، أو التهدئة، أو ما سمي وقف الأعمال العدائية من الجانبين (الإسرائيلي والفلسطيني)، ورفع الحصار عن غزة، وهذه مسألة فلسطينية ومصرية اكثر مما هي مسألة فلسطينية-إسرائيلية، مع تسهيل إعمار ما دمرته الحربان (السابقة والأخيرة)، أي أن ما حصل جرى مثله مع «حزب الله» (2006) ومع «حماس» (2009)، وهو يتضمن وقف المقاومة بكل أشكالها، مقابل ترك إسرائيل قطاع غزة لشأنه، وهو أمر لا يتعارض مع التوجهات الإسرائيلية، بل ربما كان أحد أهم استهدافات شنّها تلك الحرب.

هذا يحيلنا على السؤال الثاني، المتعلق بمكانة قطاع غزة في العملية الوطنية، والذي تم السكوت عنه من قبل الفصائل الفلسطينية، منذ انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005، والذي تفرع إلى أسئلة من نوع: هل قطاع غزة منطقة ما زالت تحت الاحتلال؟ أم أنها باتت منطقة محررة؟ وهل يمكن تحويل غزة إلى قاعدة لمصارعة إسرائيل بالصورايخ وغيرها وتحميلها عبء التحرير؟ أم الأجدى تحويلها إلى نموذج لمنطقة محررة، يستطيع الفلسطينيون فيها تنمية أوضاعهم كمجتمع، في التعليم والثقافة والاقتصاد والسياسة؟ وهي أسئلة كان على الفلسطينيين وكياناتهم مناقشتها، منذ سبعة أعوام، وهذا لم يحصل بسبب خلافات الفلسطينيين، وبسبب أنهم لم يعتادوا على دراسة أي خيار ينتهجونه.

الآن، تعود هذه الأسئلة لتطرح نفسها مجدداً، بعد الهدنة الحاصلة مؤخراً، الأمر الذي يفترض بالفلسطينيين تحديد مكانة قطاع غزة في العملية الوطنية الفلسطينية، ودراسة كل خيار بتمعّن، وتفحّص كلفته، والتوافق عليه، بمسؤولية وبوضوح، بمعزل عن المنافسات والمزايدات الفصائلية، على أن يحظى أي خيار بأغلبية شعبية، لأن الشعب هو الذي يدفع الثمن، أكثر بكثير من الفصائل. ومثلاً، فإذا كان الخيار، في المدى المنظور، هو استمرار المقاومة، وتحويل غزة إلى قاعدة للمقاومة، فينبغي أن يقال ذلك صراحة، وأن يجري الإعداد لذلك، من كل النواحي. أما إذا كان الخيار غير ذلك، تبعاً للتجربة الباهظة وتبعاً للظروف والإمكانيات، فينبغي قول ذلك بكلمات واضحة وحاسمة.

ثمة مسألة أخرى، أيضاً، تتعلق بتحديد مكانة غزة في المعادلات الفلسطينية الداخلية، لا سيما مع الانقسام الحاصل بين سلطة «فتح» في الضفة، وسلطة «حماس» في غزة، بخاصة مع ملاحظة أن أحد أهم دوافع إسرائيل من شنّ حربها تلك هو محاولتها التخلص من القطاع نهائيا، وعزله عن إطاره الفلسطيني، وعن معادلات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وتحميل المسؤولية عنه الى مصر، وهو ما أكدته بعض المؤشرات التي صاحبت حركة عديد من الأطراف العرب والإقليميين والدوليين.

وفي كل الأحوال، فإن تحديد مكانة غزة في إطار الصراع ضد إسرائيل، او في المعادلات الفلسطينية الداخلية، بات رهناً بما تريده او لا تريده «حماس»، لا سيما بعد أن عزّزت الحرب شرعيتها ومكانتها. والسؤال: هل هذا سيشجع «حماس» على السير باتجاه إنهاء الانقسام والوحدة؟ أم أن ذلك سيشجعها على الحفاظ على سلطتها الأحادية في القطاع؟

هذا يأخذنا إلى السؤال الثالث، الذي يتعلق بمكانة القيادة الفلسطينية الرسمية، وهي ذاتها قيادة «فتح» والسلطة والمنظمة، ويبدو أن أحد استهدافات هذه الحرب كان يتمثل بإضعاف مكانة هذه القيادة، ونزع الشرعية عنها، لا سيما للضغط على الرئيس ابو مازن، ودفعه مجدداً إلى دائرة المفاوضات، والتخلي عن مطلبه بالتوجه نحو الأمم المتحدة. وقد تبين أن مكانة الرئيس والمنظمة والسلطة لم تكن على ما يرام في كل ما يتعلق بالمفاوضات بشأن وقف الحرب على غزة، هذا إن لم تكن معدومة الصلة تماماً. وقد شهدنا أن دعوات الرئيس لعقد قمة عربية ذهبت سدى، فلم يكن احد يسمع له، بعد أن بات مركز الفعل في مكان آخر، وهكذا ذهب وزراء الخارجية العرب إلى غزة.

وفي الحقيقة، فإن القيادة الفلسطينية بدت، منذ زمن، أي قبل الحرب على غزة، وكأنها باتت فاقدة للمبادرة، الأمر الذي يمكن تبيّنه في المجالات التالية:

1 ـ منذ أكثر من عامين والرئيس أبو مازن يتحدث عن خيارات بديلة، بدل الارتهان لخيار المفاوضات، لكنه لم يترجم ذلك إلى خطوات عملية، وظل رهين هذا الخيار رغم استشراء الاستيطان ورغم جمود المفاوضات، علما أنه تم اختزال هذه الخيارات في مجرد طلب الاعتراف بفلسطين (الضفة والقطاع) دولة غير عضو في الأمم المتحدة.

2ـ لم تتجاوب القيادة الفلسطينية مع ثورات الربيع العربي، في مصر وتونس وليبيا واليمن وسورية، وظلت تحسب نفسها على النظام القديم، علما أنه ليس مطلوباً منها الانخراط في هذه الثورات، وإنما مجرد موقف سياسي وأخلاقي يتحسس ما يعانيه الضحايا، ويتعاطف مع ثورات الحرية، باعتبارها تمثل شعبا يتوق إلى الحرية. وحتى على الصعيد البرغماتي فهذه القيادة لم تحاول استثمار التغير في البيئة السياسية العربية، في صراعها مع إسرائيل، في حين كانت «حماس» أكثر التقاطاً لهذه اللحظة السياسية.

3 ـ لم تبذل القيادة الفلسطينية، طوال السنوات السبع من حصار غزة، الجهود المناسبة لرفع هذا الحصار، والمؤسف أنها ظلت تراهن على ورقة الحصار للضغط على حركة «حماس» بشأن إعادة الوحدة للنظام الفلسطيني، علماً أن «حماس» لم تكن متأثرة من هذا الحصار، الذي كان يلقي بثقله على الفلسطينيين في القطاع.

4 ـ بينما كانت حركة «حماس» ترتب أوضاعها في غزة، وفق رؤيتها لذلك، كانت السلطة في الضفة، وهي سلطة حركة «فتح»، لا تسهّل أي حراكات شعبية في مواجهة مظاهر الاحتلال، الاستيطانية والعسكرية، ما خلق واقعاً من الاحتلال المريح والمربح الذي شجع إسرائيل على المضي بفرض الأمر الواقع في الضفة.

يستنتج من كل ذلك أن القيادة الفلسطينية هي التي سهّلت إخراجها من الصورة، بسبب عدم اتخاذها الخيارات السياسية المناسبة، وبسبب ترهّل بناها، وأن وقفها هذا المسار، واستعادتها المبادرة، يفترض إعادة بناء أوضاعها، وإدخال تغييرات على سياساتها ونمط عملها، فالطبيعة لا تحتمل الفراغ.

هذه ملاحظات سريعة على هامش حرب غزة، التي ينبغي التأكيد معها بأن ثمة للحرب ما بعدها من تداعيات سياسية وأمنية، ولاسيما بالنسبة إلى تحديد مكانة غزة في إطار الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وفي المعادلات الداخلية الفلسطينية، وبالنسبة إلى مكانة السلطة في الضفة وغزة. القصة لم تنته أيضاً، بالنسبة إلى إسرائيل، التي ربما تكون حرب غزة من ناحيتها أيضاً مجرّد مناورة، أو اختبار بالنيران لأمر يتعلق بما بعد بعد غزة.

* كاتب فلسطيني

الحياة

الغموض سيّد أوضاع مصر ومستقبلها

    سركيس نعوم

منذ ثلاثة اشهر التقيت ديبلوماسياً مصرياً عربياً عتيقاً وخبيراً في أوضاع بلاده والمنطقة كما العالم جراء عمله في عدد من عواصمها. استفدتُ من الفرصة لأعرف تقويمه لما يجري فيها، وخصوصاً بعد انتخاب “الإخوان” محمد مرسي رئيساً للجمهورية، وتحديداً لأتأكد إذا كانت مصر بدأت تسلك طريق بناء الدولة الحديثة ذات المؤسسات الفاعلة، وطريق ممارسة الديموقراطية الصحيحة، أو لا تزال في مرحلة انتقالية تنتهي بعد إنجاز اللجنة المكلفة وضع الدستور النهائي للدولة المصرية، وبعد استفتاء الشعب عليه، ثم بعد إجراء انتخابات نيابية وفقاً لقانون انتخاب جديد يوصِل ممثلين فعليين للشعب الى “مجلس الشعب”. وحاولت ان اعرف الى اين سيصل الانقسام العميق والحاد في اوساط الشعب المصري بين الإسلاميين والمسلمين الاتقياء والمؤمنين في الوقت نفسه بالدولة المدنية وبالديموقراطية والحريات التي توفرها، وبين السلفيين و”الإخوان المسلمين”، وبين المسلمين المدنيين، وبين الاقباط وقسم من كل الأفرقاء المذكورين اعلاه. كما حاولت ان أستشرِف وإياه مستقبل مصر.  وهل يكون استقراراً او وقوعاً في الفتنة والفوضى والحروب؟

أعترِف ان الديبلوماسي المصري العريق والعتيق لم يشفِ غليلي بأجوبته. وخيراً فعل. إذ أن احداً في حينه كما اليوم لا يمتلك أجوبة جاهزة وحاسمة عن كل الاسئلة والتساؤلات المطروحة على مدى الساحة المصرية. وأي تبرع بأجوبة من هذا النوع يعني انها نابعة من الهوى والانحياز أو من اللاجدية. لكنه ساهم في اطلاعي على وضع مصر بكل صعوباته بدقة وموضوعية، ورأيت من واجبي اليوم ان اطلع القرّاء على ما قال تلافياً لوقوعهم في مطبات التجاهل أو الجهل او الانحياز او…

قال الديبلوماسي اياه اولاً ان في مصر رئيساً للدولة لكنه بلا خبرة. وقال ثانياً ان في مصر مشكلات كثيرة تحتاج الى معالجة مثل “فلول” “الحزب الوطني” المنحل ونظام مبارك، و”البلطجية” الذين كوّنهم واستعملهم فصاروا جهازاً شبه مُستقِّل يعمل لمن يدفع. علماً انهم صاروا من أصحاب الاموال ايضاً. وقال ثالثاً ان في مصر اعداداً هائلة من الفقراء وبعشرات الملايين. وقال رابعاً ان فيها اسلاميين ابرزهم “الإخوان المسلمون” والسلفيون. وقال خامساً ان مصر تمر في مرحلة انتقالية، وإن العقبات التي تعترض وضع الدستور لا يعرف العرب خارج مصر منها إلا ما يتعلّق بحكم الشريعة او بالدين مصدراً رئيسياً او وحيداً للتشريع. وما لا يعرفونه خَطِر مثل خفض سنّ الزواج للفتاة بحيث يصبح تسع سنوات. وقال سادساً ان مشكلة التحرّش الجنسي في شوارع مصر على انواعها صارت متفاقمة، وصارت تطاول الى السافرات المنقبات والمحجَّبات. وقال سابعاً ان مرسي تخلّص من “المجلس العسكري” ووصايته، وتساءل إذا كان هناك من غطاه داخلاً وخارجاً، ومن هو؟ وأشار الى اتهامه بتواطؤ اميركا معه ومع “إخوانه” في هذا الموضوع. وقال ثامناً ان مرسي ادخل قواته  الى سيناء لمواجهة الجهاديين السلفيين المتشددين بعد اعتدائهم على قوى الامن المصرية، وان اسرائيل ساعدته معلوماتياً في هذا الامر. علماً انه لم ينجح حتى الآن في ضرب هؤلاء وإعادة الاستقرار الى سيناء. وعلماً ايضاً انه رغم ذلك لم يلفظ كلمة اسرائيل علانية. وعلماً ثالثاً ان البدو في سيناء كانوا اكثر ارتياحاً قبل تحرُّرهم من احتلال اسرائيل على حد قولهم هم. وقال تاسعاً وبتساؤل من هم السلفيون المصريون؟ وقال عاشراً هل ان انتخاب “الإخواني” مرسي رئيساً لمصر حكّم “الإخوان” بها وبشعبها ومقدراتها؟. وقال حادي عشر إن على “الإخوان”، سواء وصل منهم رئيس للجمهورية او وصلوا كلهم اليها بواسطته، ان يحسموا امرهم في معالجة مشاكل مصر اي ان يبنوها دولة واقتصاداً وامناً وسياحة. علماً ان السياحة بلا “جنس” غير موجودة في العالم، وان يعالجوا مشكلة الارهاب والسلفيين والديموقراطيين والبلطجية.

في النهاية وفي اختصار شديد، قال الديبلوماسي المصري العريق والعتيق انه اراد من شرحه المفصّل اعلاه التأكيد ان مصر تعيش غموضاً لم تشهده منذ عقود وعلى كل الصعد. ولا بد من جلائه قبل وقوع الكارثة. فهل تجلوه ردود الفعل الشعبية المتناقضة على “الاعلان الدستوري” غير الديموقراطي لمرسي ام تضاعفه، وخصوصاً إذا تحكّم العناد بالفريقين وقررا الاحتكام الى الشارع؟ وهل تكون نتيجة العناد ديكتاتورية اسلامية او عودة لديكتاتورية العسكر، ولكن هذه المرة “من دون كفوف”، كما يقال؟

النهار

                      مصر: مرسي يبتدع “الشرعية الرئاسية”!

السيد يسين

منذ اندلعت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 والصراع محتدم بين شرعيتين متضادتين، الأولى هي الشرعية الثورية والثانية هي الشرعية الديموقراطية.

الشرعيــة الثوريــــة – بحسب التعريف – خروج على القواعد القانونية السائدة لأنها تعبر عادة عن ثورة تسعى إلى التحرر من وضع استبدادي، وتسعى تاليا إلى تمكين قوى الثورة من السلطة حتى تنفذ برنامجها الثوري.

هذا البرنامج لخصته ثورة يناير في ثلاثة شعارات أساسية “عيش، حرية، كرامة إنسانية”. غير أن خصوصية أحداث الثورة لم تسمح لمن قاموا بها من شباب الثورة ومن ساندهم من قوى سياسية تقليدية أن يحكموا مباشرة، لأنه بعد تخلي الرئيس السابق عن سلطاته للمجلس الأعلى للقوات المسلحة أصبح هذا المجلس هو الذي يمتلك السلطة السياسية الكاملة بالمعنى الفعلي للكلمة.

وفي مقابل هذه الشرعية الثورية هناك الشرعية الديموقراطية، التي تؤسس عادة على عقد انتخابات نيابية ورئاسية نزيهة تكفل الانتقال السلمي والسلس والهادئ من الشرعية الثورية إلى الشرعية الديموقراطية.

ولو تتبعنا مسار الثورة في العامين اللذين انقضيا على قيامها لأدركنا مباشرة أن صراعاً محتدماً دار بين أنصار الشرعية الثورية ودعاة الشرعية الديموقراطية. فالائتلافات الثورية ومن ناصرها من القوى الليبرالية واليسارية أصرت على بقاء الشرعية الثورية إلى الأبد حتى لو تم الانتقال – عبر الانتخابات النيابية والرئاسية – إلى الشرعية الديموقراطية، وذلك على أساس الحفاظ على مبدأ التظاهر السلمي للتعبير عن المعارضة.

غير أن جماعة الإخوان المسلمين أساساً – وخصوصاً بعد أن نجحت في الحصول على الأكثرية في مجلسي الشعب والشورى – أخذت بالتدريج تميل إلى ترجيح كفة الشرعية الديموقراطية، بعد أن استخدمت الشرعية الثورية في مليونيات متعددة للترويج لمبادئها وإعلان مناصرتها لمرشح حزب الحرية والعدالة الدكتور محمد مرسي.

وحين نجح مرسي في انتخابات الرئاسة ونصب رئيساً منتخباً لمصر لأول مرة، صرح على استحياء أنه آن الأوان للانتقال إلى الشرعية الدستورية. ومعنى ذلك إدانته غير المباشرة لأي محاولة للجوء قوى سياسية معارضة إلى التظاهر السلمي إعمالاً لمبادئ الشرعية الثورية.

وبعد سلسلة من الأحداث السياسية المثيرة وعلى رأسها حكم المحكمة الدستورية العليا ببطلان مجلس الشعب وحله، وحكمها ببطلان تشكيل اللجنة التأسيسية للدستور، قامت أزمة سياسية كبرى حول مدى صدق تمثيل عضوية اللجنة السياسية الجديدة لكل الأطياف السياسية في البلاد.

وبرزت محاولات إخوانية وسلفية عقيمة لخلط الدين بالسياسة خلطاً معيباً، والحرص على تضمين مواد الدستور المقترح نصوصاً تحمل توجهات دينية ترفضها تماماً النخب الليبرالية واليسارية، مما أدى إلى انسحابات متعددة من عضوية اللجنة.

وفي الوقت ذاته بذلت جماعة الإخوان المسلمين من خلال المستشار الغرياني رئيس اللجنة التأسيسية جهوداً خارقة للانتهاء من مسودة الدستور وتقديمها لرئيس الجمهورية، لعرضها بأسرع ما يمكن على الاستفتاء مما أثار معارضة سياسية شاملة. وفي غمار هذه المعركة التاريخية حول الدستور من زاوية صدق تمثيل عضوية اللجنة التأسيسية للتيارات السياسية المختلفة، وسلامة التوجهات الأساسية الحاكمة للدستور، فاجأنا رئيس الجمهورية الدكتور مرسي بأن أصدر إعلاناً دستورياً زاخراً بالتجاوزات الدستورية والقانونية التي لا سابقة لها.

وهو بذلك اخترع شرعية جديدة غير موجودة في مجال الممارسة الديموقراطية! فإذا كنا تحدثنا عن صراع مشروع بين أنصار الشرعية الثورية الدائمة ودعاة الشرعية الديموقراطية إلا أن الدكتور مرسي ابتدع شرعية سياسية جديدة يمكن أن نطلق عليها “الشرعية الرئاسية”!

ذلك أن رئيس الجمهورية الذي – بحكم الواقع الفعلي – يملك السلطتين التنفيذية والتشريعية قرر بإرادته المنفردة، وبدون أن يعرض الموضوع على هيئته الاستشارية، أن يكون الحاكم المطلق بمعنى إعطائه قراراته في أي موضوع حصانة كاملة، بحيث لا يجوز الطعن عليها بأي صورة وأمام أي محكمة، وذلك في الماضي والحاضر والمستقبل!

وهذه أول مرة في التاريخ يصدر رئيس جمهورية منتخب مثل هذا الإعلان الدستوري الباطل من ناحية المبدأ، ومن زاوية النصوص العديدة الواردة فيه، والتي تهدم في الواقع أركان السلطة القضائية التي لا يمكن اي دولة ديموقراطية أن تقوم في غيابها.

بل إن رئيس الجمهورية تمادى في إنتزاع كل سلطات الدولة لنفسه ولم يكتف بالتغول على السلطة القضائية، بل قرر منع المحاكم من النظر في القضايا المعروضة عليها والتي تتعلق بالمؤسسات السياسية كمجلس الشورى واللجنة التأسيسية للدستور، بل إنه منع الطعن عليها ومنحها حصانة كاملة!

وبالإضافة إلى ذلك أعطى نفسه سلطة مطلقة في إصدار القرارات التي يرى إصدارها في حالات الخطر، والتي تتمثل في مسائل الأمن القومي والوحدة الوطنية وغيرها.

وهذا نص في منتهى الخطورة لأنه يعطي رئيس الجمهورية الحق المطلق وبلا أي استشارة أو رقابة في تقرير أمور الحرب أو السلام، وخصوصاً في غياب مجلس الشعب.

هذا الإعلان الدستوري أراد في الواقع أن يخلط خلطاً معيباً بين الشرعية الثورية التي سبق للرئيس أن أدانها من قبل والشرعية الديموقراطية. ذلك انه قرر- هكذا بإرادته المنفردة وبدون استشارة قانونية سليمة – إعادة محاكمات رموز النظام السابق، وتشكيل محاكم ثورية ونيابة ثورية تتولى إعادة التحقيق في هذه القضايا.

وهذا النص بالذات يخلق في الواقع ازدواجية معيبة بين القضاء العادي الذي يطبق بدقة نصوص قانون العقوبات ونصوص قانون الإجراءات الجنائية، ويبتدع بدون مبرر، وبعد بداية ترسيخ قواعد الشرعية الديموقراطية، قضاء استثنائياً لا يوجهه أي قانون موضوعي أو إجرائي، ويتجاهل قاعدة قانونية مستقرة هي أنه لا يجوز محاكمة المتهم على التهمة نفسها مرتين إلا إذا ظهرت أدلة جديدة.

وينص على هذه القاعدة قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية بما لا يستدعي اللجوء إلى القضاء الاستثنائي الذي رفضت قوى الثورة اللجوء إليه مفضلة اللجوء إلى القاضي الطبيعي.

وكـان الأجـــــدر بـرئيــس الجمهورية – بــــدلاً مـــن اختـــــلاق قضـــــاء استثنائي – حضّ وزارة الداخلية على البحث عن أدلة جديدة من شأنها لو عرضت على القضاء الجنائي العادي أن تدين- لو اقتنع القضاة الجنائيون- قتلة الثوار ومن اعتدوا على المتظاهرين.

والواقع أن رئيس الجمهورية استطاع بعبقرية فذة إحداث شرخ عميق في المجتمع السياسي المصري أدى إلى انقسام خطير بين القوى السياسية المعارضة للإعلان، وجماعة الإخوان المسلمين المؤيدة له تأييداً مطلقاً.

لقد رفضت الهيئات القضائية جميعاً العدوان السافر الذي يمثله الإعلان الدستوري على القضاء، وأصدر مجلس القضاء الأعلى بياناً قاطعاً يدين فيه هذا العدوان، وأعلن نادي القضاة تعليق أعمال المحاكم إلى حين إلغاء الإعلان، ورفضته كل القوى السياسية الحية في البلاد.

سيسقط الإعلان الدستوري لأن عهد الديكتاتورية انتهى إلى الأبد بقيام ثورة 25 يناير!

القاهرة

أزمة الاعلان الدستوري: صلاحيات واسعة وقاعدة متصدعة

 مركز الجزيرة للدراسات

أصدر الرئيس المصري محمد مرسي إعلانا دستوريا أحدث استقطابا حادا بين معارض يخشى من عودة الديكتاتورية ومؤيد يسعى لرفع العقبات أمام ما تبقى من المرحلة الانتقالية (الجزيرة)

أصدر الرئيس المصري، د. محمد مرسي، على نحو مفاجئ إعلانًا دستوريًا جديدًا مساء يوم الخميس، 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2012. على أن الرئيس كان قد ألمح في كلمة غير رسمية، ألقاها بعد صلاة الجمعة، 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، إلى أنه بصدد اتخاذ إجراءات استثنائية لمواجهة المخاطر التي تهدد البلاد. ولكن أحدًا لم يكن يتوقع أن يذهب إلى المدى الذي ذهب إليه في إعلانه الدستوري الجديد. وبحجم الإعلان، جاءت العاصفة التي أثارها، سيما في الدوائر الحزبية والمؤسسة القضائية. وليس ثمة شك أن الرئيس المصري لم يواجه، منذ الإطاحة بقادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 12 أغسطس/آب 2012، أزمة بهذا التعقيد.

يضم الإعلان الدستوري الجديد ست مواد، ومادة شكلية سابعة، تؤكد نشر الإعلان في الجريدة الرسمية. وتتضمن هذه المواد، من الجهة الدستورية، المسائل التالية:

    تحديد ولاية النائب العام بأربع سنوات، مع سريان هذا النص بصورة فورية؛ مما يعني فقدان النائب العام محمود عبد المجيد منصبه.

    إعادة محاكمة مسؤولي النظام السابق، المتهمين بقتل المتظاهرين في أحداث الثورة.

    تحصين الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى ضد أية دعوى قضائية، تطالب بحل أي منهما.

    منح الرئيس حق اتخاذ إجراءات إضافية، واستثنائية، لحماية الثورة؛ وهي الصلاحية الدستورية التي تمهد لصدور قانون حماية الثورة، ومن ثَمّ تأسيس محكمة خاصة لمحاكمة المتهمين من رجالات النظام السابق، الذين سبقت تبرئتهم.

    تحصين كافة قرارات الرئيس منذ توليه منصبه في 30 يونيو/حزيران الماضي (2012)؛ بمعنى أن أحدًا لا يستطيع رفع دعوى ضد إعلانات الرئيس الدستورية والمراسيم التي يصدرها بقوانين، بصفته التشريعية المؤقتة، وأن القضاء لم يعد بإمكانه البت في قانونية أو دستورية هذه الإعلانات والمراسيم.

بيد أن فعالية هذا الإعلان الدستوري، كما الإعلانات السابقة منذ سقوط نظام مبارك، تصبح منتهية بمجرد إقرار مسودة الدستور الجديد في استفتاء شعبي؛ وأن القرارات والمراسيم التي يصدرها الرئيس، بصفته الحائز على السلطات التشريعية، في غيبة مجلس الشعب (البرلمان المصري)، يمكن مراجعتها من قبل مجلس الشعب القادم، بمجرد انعقاده.

ما هي الأسباب التي دفعت الرئيس لإصدار مثل هذا الإعلان دستوري؟ وما هي خارطة المؤيدين والمعارضين للإعلان؟ ولماذا؟ وهل ثمة مخرج من هذه الأزمة؟

الضربات الاستباقية

كان الرئيس مرسي قد حاول التخلص من النائب العام في 11 أكتوبر/تشرين الأول الماضي (2012) بتعيينه سفيرًا في الفاتيكان، نظرًا لأن الرئيس، طبقًا للوضع الدستوري آنذاك، يعين النائب العام ولا يستطيع إقالته. وهكذا، فإن تعيين عبد المجيد محمود سفيرًا قُصد به إقالته بدون صدور قرار إقالة. وبالرغم من أن المطالب الشعبية بإقالة النائب العام قد تكررت منذ الإطاحة بالنظام السابق، فإن القشة التي قصمت ظهر البعير تمثلت في أن النيابة لم تحصل على أية إدانة للمتهمين من رجالات النظام السابق بالتخطيط وتمويل الهجمة على المتظاهرين بميدان التحرير يوم 2 فبراير/شباط 2011، والمعروفة بمعركة الجمل.

والحاصل، أن ما تسرب من مؤسسة الرئاسة يشير إلى قبول المستشار عبد المجيد محمود في البداية تعيينه سفيرًا في الفاتيكان، ولكنه سرعان ما تراجع عن القبول بفعل الضغوط التي تلقاها من قضاة وسياسيين معارضين للرئيس مرسي. ولذا، فإن المواد المتعلقة بتحديد ولاية النائب العام في الإعلان الدستوري الجديد، يقصد بها تغيير الوضع الدستوري السابق، ومن ثم التخلص من محمود وتعيين نائب عام جديد، يقوم بإعادة محاكمة رجالات النظام السابق، والوفاء بتعهدات الرئيس بالاقتصاص من المسؤولين عن مقتل أكثر من 800 من مناضلي الثورة المصرية وجرح الآلاف.

بيد أن هذا لم يكن السبب الوحيد؛ فالسبب الآخر يتعلق بسلسلة من التقارير، التي تفيد بأن المحكمة الدستورية بصدد إصدار أحكام تؤدي إلى حل الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور، وإلى التشكيك بدستورية الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس في 11 أغسطس/آب (2012) وترتب عليه الإطاحة بقادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة واستعادة الرئيس للسلطات التنفيذية والتشريعية من المجلس. إن كان الأمر الثاني صحيحًا فإن ذلك يعني أن المحكمة الدستورية كانت تخطط لإعطاء نفسها صلاحيات الفصل في أعمال سيادية ودستورية بحتة، وهو شأن لا تملكه أصلاً، وليس فقط الحكم في دستورية القوانين، وهو الشأن الذي تملكه فعلاً.

كما أن تقارير أخرى أشارت إلى أن مسارعة النائب العام لفتح التحقيق في الشكاوى حول حدوث تزوير في انتخابات الرئاسة لم تكن سوى مقدمة لإعلان خلو منصب الرئيس والدعوة لانتخابات جديدة. هذا إلى جانب تزايد المؤشرات على وجود نشاطات عربية مالية في الساحتين السياسية والإعلامية، تستهدف الرئيس مرسي وجماعة الإخوان المسلمين.

بغضّ النظر عن مصداقية هذه التقارير، فالواضح منذ تعليق المجموعة التي قادها عمرو موسى وأيمن نور ووحيد عبد المجيد عضويتها في الجمعية التأسيسية (13 – 15 عضوًا؛ وصلت بعد ذلك إلى 22 عضوًا)، أن ثمة قوى سياسية في البلاد تستشعر أن جهودها لتقويض صعود الإسلاميين للحكم وصلت إلى الميل الأخير؛ فإما تنجح في إطاحة أو إضعاف الرئيس والتيار الإسلامي الآن، وتفرض تصورها على مسودة الدستور، أو أن الأوضاع تتجه نحو استقرار الإسلاميين في الحكم لسنوات طويلة قادمة.

بكلمة أخرى، وُلِد الإعلان الدستوري الجديد في ظل انقسام سياسي متزايد، ومخاوف من الجانبين، وشعور عميق لدى الرئيس بأن حركة البلاد نحو الاستقرار باتت مهددة برغبات وطموحات قوى عديدة. ما أراده الرئيس بإعلانه هو حسم الجدل والصراع السياسيين وتوفير قوة دفع كافية للعملية الانتقالية. ولكن المشكلة أن الطريقة التي صيغ بها الإعلان الدستوري والطريقة التي قُدّم بها للشعب، جعلا منه سببًا لمزيد من الانقسام.

مزالق الغموض

اتضح في حمى الجدل الذي أثاره الإعلان الدستوري إن أغلب مساعدي الرئيس (الذين يعملون بصورة دائمة في الفريق الرئاسي)، وربما كل مستشاريه (الذين يُستعان بهم بصورة متقطعة)، لم يطّلعوا على الإعلان الدستوري قبل صدوره ولم يشاركوا في صياغته. فمن قام بصياغة الإعلان؟ ومن شارك في النقاش أثناء إعداده؟ لا أحد يعرف على وجه اليقين.

من جهة أخرى، لم يقم الرئيس، لا قبل صدور الإعلان الدستوري مساء 22 نوفمبر/تشرين الثاني (2012)، ولا بعد ذلك، بأي جهد لتوضيح موقفه للشعب، فلم يكشف الظروف والأسباب التي دفعته لإصدار الإعلان الجديد، سيما المادة الثانية المثيرة للجدل؛ وعندما ألقى الرئيس كلمته المرتجلة في تظاهرة المؤيدين له بعد ظهر الجمعة، 23 نوفمبر/تشرين الثاني (2012)، تحدث بصورة عامة، ولم يتطرق إلى جوهر الإعلان الدستوري والجدل حول مواده.

من جهة ثالثة، لا يبدو أن الرئيس أجرى مشاورات كافية مع أذرع الدولة المختلفة، سيما المؤسسة القضائية، قبل صدور الإعلان، فلم تُعقد مشاورات مسبقة مع مجلس القضاء الأعلى، بالرغم من أن عددًا من مواد الإعلان، بما في ذلك تلك الخاصة بوضع النائب العام، هي من صميم صلاحياته. وقد صرح رئيس المجلس بأنه عرف بالإعلان الدستوري من وسائل الإعلام، كأي مواطن آخر. وبالرغم من دعم وزير العدل، أحمد مكّي، للرئيس، فإن تصريحاته تنم عن تحفظه على بعض المواد، وأنه على الأرجح لم يكن ضمن الدائرة التي شاركت في صياغة الإعلان.

بالرغم من أن الرئيس مرسي يتمتع بعلاقة حسنة مع أغلب قادة مؤسسات الدولة، منذ حسم الازدواجية في رأس نظام الحكم في 12 أغسطس/آب (2012)، فليس ثمة شك في أن جهاز الدولة المصرية ككل، أقدم أجهزة الدول الحديثة في المشرق العربي–الإسلامي، لا تزال تتنازعه ولاءات ومصالح سابقة على الثورة، حين كان النظام يستمد شرعيته من قمع الإسلاميين. وقد كان من الضروري قبل صدور الإعلان التيقن من أن جهاز الدولة، بكافة مؤسساته، وأن مؤسسة الرئاسة ومستشاري الرئيس، يقفون جميعًا خلف الرئيس ويدعمون إعلانه الدستوري الجديد. وهذا لم يحدث؛ مما ترك الساحة، طوال الأيام التالية لصدور الإعلان لمعارضي الرئيس وحملة الاتهامات الموجهة له بالديكتاتورية ومحاولة استنساخ نظام الرئيس المخلوع، حسني مبارك.

معركة الشارع

نجحت الصياغة المثيرة لبعض مواد الإعلان الدستوري، والسلطات الهائلة التي يمنحها للرئيس، إضافة إلى إخفاق مؤسسة الرئاسة في تقديم الإعلان والتواصل مع الرأي العام، في حشد قطاع واسع من القوى السياسية والقضائية ضد الرئيس وإعلانه الجديد. ولكن مواقف المعارضين تفاوتت من حيث دوافعها ووجهة نظرها في مواد الإعلان.

تضم المعارضة السياسية كل الأحزاب الليبرالية وشبه الليبرالية والقومية واليسارية، ويقود جبهة المعارضة السياسية الثلاثي: محمد البرادعي، وعمرو موسى، وحمدين صباحي، الذين شكّلوا إطارًا فضفاضًا باسم الجبهة الوطنية لإنقاذ مصر. ويلعب أنصار هؤلاء، سيما من التحالف الشعبي الذي يقوده صباحي وحزب الدستور الذي يقوده البرادعي، دورًا رئيسًا في حشد قطاع من الشارع ضد الرئيس وإعلانه الدستوري وفي الاعتصام بميدان التحرير؛ وقد استغلت بعض القوى هذا التحشيد وهاجمت مقار حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسي للإخوان المسلمين.

يطالب هؤلاء بإلغاء الإعلان الدستوري، وحل الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور، كونهم أصلاً من قاد الانسحابات من الجمعية التأسيسية، ويوظفون لغة راديكالية وتحريضية في موقفهم من الرئيس وسياساته.

يقف إلى جانب المعارضة السياسية ويشاركها الأهداف ذاتها نقيب المحامين سامح عاشور، ومجموعة المحامين الملتفين حوله؛ إضافة إلى رئيس نادي القضاة (الذي يُعتبر بمثابة نقابة للقضاة)، أحمد الزند، وقطاع من القضاة في كافة أنحاء البلاد. وقد عقد نادي القضاة جمعية عمومية لأعضائه مساء 24 نوفمبر/تشرين الثاني (2012)، استضافت النائب العام المقال وضمت آلافًا من القضاة، وطالبت بإلغاء الإعلان الدستوري وإعادة عبد المجيد محمود لموقعه. ولكن هناك انتقادات وُجِّهت لنادي القضاة، نظرًا لدعوة شخصيات سياسية وغير قضائية للجمعية العمومية، كما أُثيرت شبهات حول ما إن كان الحضور جميعهم من القضاة، أو أن قطاعًا منهم لم يكن سوى محامين من أنصار نقيب المحامين، المتحالف مع رئيس نادي القضاة.

ولكن أهم أصوات المعارضة جاءت من المجلس الأعلى للقضاء، السلطة الرسمية العليا للمؤسسة القضائية. في بيان أول، 24 نوفمبر/تشرين الثاني (2012)، وصف مجلس القضاء الأعلى الإعلان الدستوري بالاعتداء الخطير و”انتقاصًا من سلطة القضاء”. ولكن البيان لم يتطرق إلى مسألة النائب العام، ولم يطالب بإلغاء الإعلان الدستوري ككل. في اليوم التالي، 25 نوفمبر/تشرين الثاني (2012)، التقى وزيرُ العدل رئيسُ المجلس الأعلى للقضاء. وقد لوحظ أن المجلس سارع إلى إصدار بيان ثانٍ بعد اللقاء أكثر اعتدالاً، دعا إلى “أن يقتصر الإعلان الدستوري في ما تضمنه من تحصين القوانين والقرارات الصادرة عن رئيس الجمهورية على الأعمال السيادية فقط”. وانتقد البيان الجمعية العمومية لنادي القضاة، ودعا قضاة المحاكم في أنحاء البلاد إلى الالتزام بعملهم وعدم الاستجابة لدعوات الإضراب.

ما عزز موقف المعارضة كان انضمام قوى وشخصيات إسلامية إلى معسكر المنتقدين للإعلان الدستوري، مثل حزبي التيار المصري، المشكّل من عناصر شبابية إخوانية سابقة، وحزب مصر القوية، الذي يقوده عبد المنعم أبو الفتوح؛ إضافة إلى حركة 6 إبريل. ولكن الملاحظ أن معارضة هؤلاء للإعلان الدستوري جزئية، وتقتصر على المادة الثانية المتعلقة بتحصين القرارات والقوانين الرئاسية. المفاجأة كانت في المعارضة الجذرية التي صدرت عن المستشار طارق البشري، القاضي البارز السابق والمفكر الإسلامي، الذي سبق أن أُنيطت به رئاسة اللجنة التي عدلت دستور 1971 وأسست للإعلان الدستوري الأول بعد الثورة في مارس/آذار 2011. وفي مقابلة صحفية (الشروق، 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012)، وصف البشري الإعلان الدستوري بأنه “منعدم”، وقال: إن الرئيس “انقلب على الشرعية”.

هذا لا يعني أن معسكر المعارضة هو الأكبر، فبين القضاة، وقفت مجموعة “قضاة من أجل مصر” النشطة إلى جانب الرئيس والإعلان الدستوري. كما تلقى الرئيس دعمًا واسعًا وصاخبًا من الإخوان المسلمين وحزبهم، الحرية والعدالة، ومن كافة الأحزاب والقيادات السلفية، ومن معظم القوى السياسية الإسلامية الأخرى، وفي مقدمتها حزب الوسط؛ بينما شهدت كل من نقابتي المحامين والصحافيين انقسامًا حادًا بين معارضي الرئيس ومؤيديه. يجادل المعارضون بأن الإعلان الدستوري ينتقص من سلطات القضاء ويجعل من الرئيس ديكتاتورًا جديدًا، وفي المقابل، يقول المؤيدون: إن هدف الإعلان هو الإسراع ببناء مؤسسات الدولة، وحماية البلاد من المؤامرات ومخاطر الانحدار إلى الاضطراب وعدم الاستقرار، وأن فعالية الإعلان محدودة وقصيرة، وتنتهي بالاستفتاء على مسودة الدستور وانتخابات مجلس الشعب المقبل.

ما ينبغي ملاحظته أنه وبالرغم من الاختراقات المحدودة في كلا المعسكرين، فإن الانقسام الواقع في الساحة السياسة المصرية هو أقرب إلى استقطاب بين الإسلاميين وغير الإسلاميين. أغلب الإسلاميين يؤيد الرئيس، بينما تقف أغلبية القوى السياسية غير الإسلامية في معسكر المعارضة. وخلال عدة أيام من الأزمة، شهدت شوارع مدن مصرية، مثل: الإسكندرية ودمنهور وبورسعيد، أعمال شغب واشتباكات بالغة العنف بين أنصار الإخوان وعناصر أحزاب غير إسلامية حاولت الاعتداء على مقار الإخوان وحزب الحرية والعدالة. ولكن المدهش، بالرغم من حدة هذا الاستقطاب، سواء في الشارع أو في وسائل الإعلام، أن كل استطلاعات الرأي تقريبًا، بما في ذلك تلك التي أجرتها مؤسسات إعلامية معارضة للرئيس، تُظهر أن تأييد عموم المصريين للإعلان الدستوري والرئيس مرسي تفوق الخمسة والستين بالمائة.

مخارج الأزمة

لا يجب أن يكون هناك شك في حجم الأزمة التي فجرها الإعلان الدستوري، حتى إن توفرت أدلة على أن جذور الأزمة تعود إلى ما قبل الإعلان وإلى حراك سياسي يستهدف الإطاحة بالرئيس على نحو أو آخر. جزء من الأزمة يعود إلى الانقسام الفادح في الساحة السياسية المصرية، وجزء منها يعود إلى الصياغة المستفزة لبند التحصين الثاني في الإعلان الدستوري وإلى طريقة تقديم الإعلان للشعب والتواصل مع قطاعاته المختلفة، كما مع مستشاري الرئيس ومساعديه، ومع المؤسسة القضائية.

المؤكد أن الرئيس، الذي يعتقد أن ثمة خطرًا يتهدد البلاد ومسار اكتمال مؤسسات الدولة، لن يتراجع عن الإعلان الدستوري. ولكنه أيضًا لن يستطيع تهدئة الأزمة بدون تراجع جزئي، أو توضيح تراجعي، إن صح التعبير، سيما عن المادة الثانية.

وحتى يمرر الرئيس مرسي إعلانه فإنه يحتاج إلى توافق يحيد قطاعًا كبيرًا من المؤسسة القضائية، وليس كلها على أية حال. كما أنه قد يساعد على إخراج المعارضين الجزئيين، مثل: حركة 6 إبريل، والتيار المصري، وحزب مصر القوية، من معسكر المعارضة. ولكنه لن يعتبر كافيًا من وجهة نظر المعارضين الجذريين، المطالبين بإلغاء الإعلان الدستوري بكليته. السؤال الآن هو ما إن كان لدى هؤلاء الأخيرين من العزم والتأييد الشعبي الكافي لمواصلة معارضتهم النشطة، أي المعارضة في الشارع وليس فقط في برامج الحوارات التلفازية، وما إن كان لاستمرار هذه المعارضة من أثر على أوضاع البلاد الاقتصادية ومناخ الاستقرار والتعافي الذي بدأ في العودة تدريجيًا قبل اندلاع الأزمة. السؤال الآخر يتعلق بما يمكن للرئيس أن يفعله لمواجهة التدخلات العربية في شؤون مصر السياسية، إن صحت التقارير التي تشير إلى مثل هذه التدخلات.

من جهة أخرى، فإن مرور الإعلان الدستوري من أجواء الأزمة يمثل فوزًا حاسمًا لمرسي ورئاسته، وسيوفر تأمينًا قانونيًا لما تبقى من المرحلة الانتقالية: إكمال الجمعية التأسيسية لعملها في وضع مسودة الدستور، واستقرار مجلس الشورى، ومن ثم الذهاب لانتخابات مجلس الشعب الثاني بعد الثورة. بكلمة أخرى، يعني مرور الإعلان الدستوري أن مرسي حقق نصرًا كبيرًا على معارضيه، وربما نهاية لآمال الساعين إلى الإطاحة به.

بيد أن درس الأزمة لابد أن يكون بحجمها، وهو بشكل أساسي يتمثل في أن الخلل كان في إصدار الإعلان الدستوري دون توفير التأييد الضروري. مع أن مراعاة هذا الجانب هو أحد أسس الدولة الحديثة بشكل عام، وتزداد ضرورته في مجتمع متعدد ومعقد مثل مصر بشكل خاص.

حرب غزة التكتيكية وحرب نيويورك الإستراتيجية

جهاد الزين

من المفترَض أن تحمل فلسطين خلال ساعات لقب بل رتبة دولة للمرة الأولى في تاريخها على أعلى منبر دولي: الجمعية العمومية للأمم المتحدة. هذا وحده أيا تكن صفة الدولة، مراقباً أو غير عضو، يعطي لهذه المواجهة الديبلوماسية الكبيرة مع إسرائيل طابعاً استراتيجيا أكيدا.

لذا يجب عدم التردّد في القول بعد أيام على انتهاء حرب غزة التدميرية التي شنّتها إسرائيل على “حماس” أن مواجهة نيويورك اليوم هي أكثر استراتيجية في السياق التاريخي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي من “حرب غزة”. لا بل إذا كان لا بدّ من المقارنة بين كلٍّ من المواجهتين الديبلوماسية الآتية والعسكرية المنتهية فإن معركة غزة “تكتيكية” لأنها مؤقّتة النتائج مع اسرائيل ويمكن أن تتغيّر في أي لحظة سواء إلى الأمام أو إلى الوراء بالنسبة إلى كلٍ من طرفيها الفلسطيني والإسرائيلي بينما معركة نيويورك استراتيجية لأن نتيجتها إذا تحقّقت – ولو  أنها معنوية – فلا عودة عنها إلى الوراء.

ومع أنه في غزة خاضت المواجهة على الطرف الفلسطيني حركة نشيطة عسكريا، في كامل حيويّتها الأيديولوجيّة والسياسية، و باتت مُشرّعة على عالم عربي تتقدم فيه شعبيا وسلطوياً “عائلة” الحركات الدينية التي تنتمي إليها وهي حركات “الإخوان المسلمين” من المغرب إلى مصر… هي حركة “حماس” (والى جانبها حركة “الجهاد الاسلامي” الايرانية الولاء).

ومع أنه في نيويورك تخوض المواجهة على الطرف الفلسطيني “سلطة وطنية” في غاية الضعف السياسي وتنتمي إلى حركة وطنية باتت في خط انحداريٍّ سياسيا وأيديولوجيا واقتصاديا وفقدت مع هذا الانحدار الكثيرَ من زخمها الأخلاقي ومشروعيّتِها الشعبية وحيويّتها النضالية…

مع كل ذلك… فإن انتصار نيويورك إذا تحقّق بحصول فلسطين على رتبة “دولة” على مستوى المؤسّسة العالمية، حتى مع وجود 132 دولة عضو في الأمم المتحدة تعترف من جانب واحد بصفتها هذه حاليا، وحتى قياسا بإنجاز تحقيق العضوية الكاملة لفلسطين في منظّمة “الأونيسكو” العام المنصرم… سيكون انتصاراً تاريخياً كبيراً في مسار الصراع منذ عام 1947 عندما صدر القرار 181 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي قضى بتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية… وفي اليوم ذاته 29 تشرين الثاني الذي سيصدر فيه القرار الجديد.

إسرائيل هي الدولة الأكثر إدراكاً للأهمية الإستراتيجية الفائقة لقرار الجمعية العمومية المنتَظَر في نيويورك ولذلك تواجهه بشراسةٍ، ما هو معلنٌ منها أقلُّ من غير المعلن… وما هو متوقّعٌ بعدها من ردود فعل مؤذية للفلسطينيين من الجانب الإسرائيلي أقل من غير المتوقّع؟

أما بالنسبة لنا في العالم العربي فإن هذا الانتصار المنتظَر يشكّل محطة سياسية نادرة ولربما الوحيدة بهذا المستوى منذ عام 2000 والتي يمكن معها إعادة ضخِّ الحياة في المشروع الذي حَمَلَهُ جيلٌ “علماني” فلسطيني  وعربي بكامله منذ عام 1967 وبدا في السنوات الأخيرة وكأنّه يلفظ أنفاسه لا سيما بعد اغتيال رمزه الأول ياسر عرفات ودخول “حركة فتح” وفصائل المدرسة الوطنية و”العلمانية” التي رافقت مسيرتها وقاتلت تحت لوائها في ترهّلٍ شبه قاتل.

تستعيد “جثةُ” مشروع بناء الدولة الفلسطينية المستقلّة في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية مع الانتصار الديبلوماسي الكبير في نيويورك أنفاسَها بعد “الموت الكلينيكي” الذي دخلت فيه من جرّاء صعود اليمين الإسرائيلي والذي نجح في تهميش “اتفاق أوسلو” وشلّ طاقته على التطوّر كما كان الرهان الأصلي لقيادة ياسر عرفات عليه.

فلْنتخيّل أيّ أفقٍ سيُفتح قريباً أو سيكون متاحا بعد قرار الجمعية العمومية… سواءٌ للمناورات التكتيكية أو للقرارات الإستراتيجية أمام الضغط الإضافي وربما غير المسبوق الذي سيلجأ إليه العدو الإسرائيلي في الضفة الغربية … أرض التوسّع الإستيطاني الذي لم يتوقّف والأرض التي سيتقرّر عليها مستقبل الدولة.

تحرّرت غزة لا شك بمسار نضالي عالي الأثمان البشرية والمادية وربما تكرّس استقلالها عن إسرائيل في الحرب الأخيرة… لكن لا فلسطين بدون الضفة. وغزة بدون الضفة مجرّد “إمارة” هزيلة تجعل “الوطن البديل” على الضفة الأردنية هو المطروح لا فلسطين.

عاشـــت فلسطيــن التي ستتحـــوّل خـــلال ساعـــات مـــن أراضٍ تحت الاحتــــلال إلى دولـــة معظمهـا – باستثناء غزة – تحت الاحتلال. إنها موجودة أكثر بعد نيويورك.

النهار

هكذا وصلت «حماس» إلى حيث انتهت «فتح»!

ماجد كيالي

حسناً، وصلت حركة «حماس» إلى حيث انتهت حركة «فتح»، فالاثنتان شكلتا عمود المقاومة المسلحة، كل في زمنه الخاص، لتتحوّلا في زمن آخر، نحو المقاومة الشعبية. والاثنتان انطلقتا من مبدأ تحرير فلسطين، من النهر إلى البحر، لتتحوّلا بعده، كل على حدة، نحو هدف إقامة دولة فلسطينية (في الضفة وغزة) مع حق العودة؛ علماً أن مضمون هذا الحق يفيد بالعيش في نطاق السيادة الإسرائيلية أي من دون عملية التحرير.

وبينما كانت «فتح» تحمل عبء عملية أوسلو، وإنشاء كيان السلطة (1994)، فإن «حماس» لحقت بها، بعد طول معارضة، من مدخل الانتخابات التشريعية (2006) بحيث باتت جزءاً من تلك العملية، لا سيما مع تحولها إلى سلطة في غزة.

الجدال هنا لا يتعلق بصوابية هذا التحول أو ذاك، من عدمه، وإنما بحيثياته: ذلك إن التحول عند الحركتين لم ينجم عن دراسة معمّقة ونقدية للخيارات السابقة، ولتداعياتها، بدليل الخلافات والتباينات التي شهدتها وتشهدها كل واحدة منهما.

والحال إن هذا التحول حصل نتيجة تفاعلات أخرى، تتعلق بضغط الظروف المحيطة، وبالكلفة التي يمكن أن تنجم عن المعاندة و «الممانعة»، فضلاً عن الإغراء المتعلّق بحيازة المكانة والسلطة. وبالخصوص فهذه التحولات حصلت بعدما دفع الفلسطينيون أثماناً باهظة جداً للتجربة الوطنية الفلسطينية المسلحة، في الخارج، كما في الداخل.

هكذا، فإن قيادة «حماس» وسلطتها في غزة، باتت اليوم تقول وتفعل ما كانت تقوله وتفعله قيادة «فتح»، وسلطتها في الضفة وغزة، قبل أعوام قليلة، وإن كان ذلك يحصل مع «حماس» اليوم مصحوباً بتغطية من «فتوى»!

فمنذ قيام السلطة، مثلاً، كثيراً ما حاولت القيادة الفلسطينية (وهي قيادة المنظمة والسلطة و «فتح») كبح حركة «حماس» عن القيام بالعمليات التفجيرية في المدن الإسرائيلية، بدعوى أن ثمة طرقاً أخرى للنضال، وبغرض إتاحة المجال للفلسطينيين لبناء كيانهم، الناشئ في الضفة والقطاع، لكن حركة «حماس» كانت ترد باعتبارها أن «فتح» تخلّت عن المقاومة المسلحة، وفرّطت بالقضية وبالوطن.

لكن صدمة نجمت عن فشل مفاوضات كامب ديفيد (2000)، والتي أكدت فيها القيادة الفلسطينية رفضها للإملاءات والتلاعبات الإسرائيلية بعملية التسوية، وبيّنت عدم صوابية هذا الموقف، لا سيما مع اندلاع الانتفاضة الثانية التي شملت تحول «فتح» نحو المقاومة المسلحة، عبر «كتائب الأقصى»، الأمر الذي لم تنسه إسرائيل لياسر عرفات الذي فرضت عليه حصاراً مشدداً في مقره في المقاطعة لثلاثة أعوام، حتى رحيله.

المهم أن هذا التحول من قبل «فتح»، بصرف النظر عن طريقة إدارته، جاء على خلاف كل طروحات «حماس» عن هذه الحركة، في حينه، لا سيما في ما يتعلق بوصمها بالعمالة والتفريط، إذ إن الأمر أكثر تعقيداً بكثير، ولا يمكن تبسيطه بمجرد كلمات.

مرة أخرى، عندما قامت الانتفاضة الثانية، التي انخرطت فيها «حماس» وفق نمط العمليات التفجيرية، والقصف الصاروخي، كانت هذه العمليات (التي قامت بمثيلتها كتائب الأقصى أيضاً) محط انتقاد من أوساط في «فتح» بدعوى أنها تعرّض الفلسطينيين للبطش الإسرائيلي، وتضرّ بصدقية قضية الفلسطينيين وعدالتها، وتوحّد الإسرائيليين حول حكومتهم. وبالطبع فإن «حماس» لم تصغ وقتها إلى ذلك، وعادت إلى معزوفتها في شأن كيل الاتهامات للقيادة الفلسطينية، الأمر الذي أوصل إلى الاقتتال والانقسام.

ليس معنى ذلك أن هذه القيادة لا تستحق النقد، فليس ثمة أحد فوق طائلة النقد، لكن هذه القيادة يمكن أن تُنتقد على أشياء كثيرة ضمنها المزاجية والتجريبية والفردية في إدارة صراعها مع إسرائيل، وشعبوية خطاباتها، ومسؤوليتها عن ترهل البنى الفلسطينية، وتغييب الأطر الشرعية وغير ذلك الكثير.

المدهش أن «حماس» وبعدما باتت سلطة في غزة (2007)، وبعد حربين إسرائيليتين، باتت تتحدث بالمفردات ذاتها التي كانت «فتح» تتحدث بها، وكانت مدعاة لنقدها لها وتشكيكها بها. فها هي «حماس» اليوم مع الهدنة والتهدئة، ووقف الأعمال العدائية (وهذه كناية عن وقف المقاومة)، مع وجود قوى أمنية منها لحراسة هذا الواقع على الحدود بين غزة وإسرائيل، مع كل ما يمكن أن يعنيه ذلك من فصل واقع غزة عن واقع الضفة في العملية الوطنية الفلسطينية.

وها هي «حماس»، وعلى لسان قائدها خالد مشعل، تؤكد أنها «لا تستهدف المدنيين» (الإسرائيليين) وتوافق على «سلوك سبل سلمية من دون سفك دماء أو استخدام أسلحة إذا حصلنا على مطالبنا المتمثلة بإنهاء الاحتلال وإقامة دولة وتلبية سائر الأهداف الوطنية»، مع اعتبار «مسار السلام وإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 مع حق العودة… محل توافق فلسطيني… الفلسطينيون اليوم، وفي الماضي، وافقوا، ومعهم «حماس»، على برنامج ينصُّ على قبول دولة ضمن حدود 1967».

المدهش، هنا، أن «الحمساويين» باتوا فجأة من أشد المدافعين عن كل تلك التعابير، على رغم أنه بالأمس القريب كان تعبير «المدنيين» الإسرائيليين، وتعابير مثل المقاومة الشعبية، أو الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، من التعابير المحرّمة التي كانت توجب رمي الشبهة على القائل بها. وهذا ما يذكّر بقول الشاعر:

«وما أنا إلا من غزيّة إن غوت/ غويت وإن ترشد غزية أرشد»!

وهو ما يفتح على واقع مؤلم، ومحزن، تعاني منه مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية بمجملها. فهذه المسائل بالضبط هي التي كانت تقف وراء خلافات الفلسطينيين واقتتالهم وانقسامهم، واستنزاف قواهم في معارك مجانية.

وأكرر: ليس القصد هنا، تأكيد صوابية هذا التحول أو نضجه أو غير ذلك، وإنما الإشارة إلى الحالة المَرَضية التي تعاني منها فصائل العمل الفلسطيني، نتيجة سيادة العقليات المغلقة، والعصبيات الفصائلية، على حساب العقليات الوطنية، والمسؤولة، والنقدية. وهي حالة ناجمة، أيضاً، عن غياب الطابع المؤسسي والديموقراطي والتمثيلي في النظام السياسي الفلسطيني السائد (المنظمة والسلطة والفصائل).

لذا، فلنأمل بعد كل ما جرى، وبعد كل هذه التجربة، والأثمان الباهظة، أن يتخلى الفلسطينيون عن روح العصبية الفصائلية، والعمى الأيديولوجي، وعقلية احتكار الحقيقة، وضمنه ثنائية إما مع «فتح» وإما مع «حماس». فالقضية الفلسطينية أعقد وأوسع وأشمل بكثير من هذه الثنائية. وعلى الأقل، فإن تجربة عمرها يناهز نصف قرن تستحق نضجاً كهذا.

الأهداف الفلسطينية وراء المطالبة بصفة دولة غير عضو

راغدة درغام

أهم ما ينطوي عليه اكتساب فلسطين صفة الدولة عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة هو تفعيل القوانين الدولية كمرجعية والحصول على حق التصديق على المعاهدات الدولية. هذا يشكّل نقلة إستراتيجية في النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، إذ انه يدعّم المفاوضات بالشرعية الدولية ويطلق سراحها من رهينة السياسة أو التصعيد العسكري. هذا حدث نوعي، لكنه ليس خالياً من المجازفة والمغامرة. فمن جهة، قد يلاقي الانجاز الفلسطيني انتقاماً إسرائيلياًَ وأميركياً يكون مكلفاً للسلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس وللشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وكذلك للوكالات الدولية التي تقبل بدولة فلسطين عضواً فيها. من جهة أخرى، قد يكون هذا المنعطف التاريخي في المعادلة الفلسطينية – الإسرائيلية أفضل فرصة ممكنة لتحقيق حل الدولتين تماماً لأن في أيدي فلسطين أدوات جديدة. إسرائيل ما زالت الأقوى عسكرياً وسياسياً ما دامت الولايات المتحدة حليفة لها مهما فعلت حتى بعدما تحدت الرئيس الأميركي وفرضت عليه التراجع عن سياسة وصفها بأنها تدخل في خانة المصلحة القومية الأميركية. لكن أسس العلاقة بين إسرائيل وفلسطين تغيّرت الآن ولم تعد بين طرف قوي وطرف ضعيف لا حيلة له ولا أدوات لديه يرضخ لما يُفرَض عليه من أمر واقع تلو الآخر. وأهم تلك الأدوات التي غيّرت المعادلة هو أن مرتبة الدولة لفلسطين تعطيها حق التوجه الى المحكمة الجنائية الدولية للشكوى ليس فقط على جرائم حرب إذا ارتكبتها إسرائيل وإنما أيضاً للشكوى على مختلف ممارسات الدولة القائمة باحتلال دولة أخرى مثل المستوطنات غير الشرعية التي ترفض إسرائيل حتى تجميدها. هذه الأدوات، حق الشكوى ورفع الدعاوى، قد تقوّي الشروط التفاوضية للفلسطينيين وتفرض على الإسرائيليين مقاربة جديدة نحو حل الدولتين نظراً لأن الخيار الآخر سيكون عزلة دولية عارمة بشكاوى ضدهم أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب من ضمنها بناء المستوطنات في الدولة الخاضعة للاحتلال والإبعاد القسري، على ما ينص ميثاق روما الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية. فالجديد في المعادلة ان فلسطين تعتبر الآن قانونياً دولة تحت الاحتلال، وهذا يضع إسرائيل الدولة القائمة بالاحتلال تحت طائلة المحاكمة.

هذا الأمر بالذات هو الذي أدى بكل من إسرائيل والولايات المتحدة الى هستيريا تهديدات وتوعّد بالعقاب والانتقام. فلقد تغيّرت قواعد اللعبة وبات في أيدي الفلسطينيين أدوات تجرح في العمق الإسرائيلي – أدوات القانون الدولي كمرجعية وكحليف.

استراتيجياً، هذا يعني أن في اليوم التالي لإقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار تصنيف فلسطين دولة – بغض النظر إن كانت دولة كاملة العضوية أو دولة غير عضو في الأمم المتحدة – يبدأ نوع جديد للتفاوض ويوم جديد للمقايضات التفاوضية، لأن القانون الدولي والشرعية الدولية باتا جزءاً من مرجعية المفاوضات.

قرار تصنيف فلسطين دولة يعني أيضاً، وفق تعبير كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات ان «الأمم المتحدة ستقضي على النقاط الثلاث من إستراتيجية رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو وهي: سلطة من دون سلطة، واحتلال من دون كلفة، وغزة في حضن مصر».

القيادة الفلسطينية تدرك ان الانتقام الإسرائيلي الأرجح آتٍ، لكنها قررت انها جاهزة لتحمل النتائج والعواقب التي قد تمتد من احتجاز الأموال الفلسطينية الى ضرب الحصار على الرئيس محمود عباس كما سبق وحاصرت إسرائيل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.

تدرك أيضاً ان الانتقام الذي توعّد به الكونغرس الأميركي ربما هو أيضاً آتٍ وربما يطاول ليس فقط الفلسطينيين وإنما أيضاً وكالات الأمم المتحدة التي تسمح لدولة فلسطين بأن تصبح عضواً فيها.

مجازفة القيادة الفلسطينية تنطلق من ثلاثة أمور رئيسة هي: أولاً، ان الانتقام الأميركي، كما الانتقام الإسرائيلي، سيكون سيفاً ذا حدّين يؤذي المنتقِم والمنتقم منه. وثانياً، ان لعبة التوقيت طالت والانتظار سيطول بلا أفق زمني ولم تعد أمام السلطة الفلسطينية رؤية تُقنع بها الشعب الفلسطيني طالما ان إسرائيل مستمرة بالمستوطنات وتغيير المعالم على الأرض بما ينسف عملياً حل الدولتين ويجعل من عملية السلام نكتة سيئة. وثالثاً، صعود أسهم قيادة «حماس» في أعقاب أحداث غزة والإقبال عليها كبديل الأمر الواقع للسلطة الفلسطينية دفع قيادة السلطة الى وضع الولايات المتحدة وإسرائيل معاً أمام امتحان الاختيار الآتي بين السلطة الفلسطينية وبين «حماس» قائلة: اختاروا وتحملوا تبعات الخيار بين «حماس» التي ترفض حل الدولتين وبين السلطة الفلسطينية التي تلتزم به.

عملياً، ما فعلته القيادة الفلسطينية هو وضع الاختيار بين حل الدولتين ومحاكمة الاحتلال في أحضان القيادة الإسرائيلية والإدارة الأميركية على السواء.

فعلت ذلك مع الإيحاء بكل وضوح بأن هدفها هو تحقيق حل الدولتين وليس محاكمة الاحتلال. لم تقدم الضمانات المسبقة بعدم التوجه الى المحكمة الجنائية الدولية كما طلبت منها بريطانيا نيابة عن الولايات المتحدة. لم تكفل مسبقاً أنها لن تتوجه الى الوكالات التابعة للأمم المتحدة للحصول على مكانة الدولة فيها – الأمر الذي سيؤدي الى تنفيذ الكونغرس الأميركي تعهده بقطع الأموال الأميركية عن تلك الوكالات ويؤدي أيضاً الى انعكاسات سلبية للولايات المتحدة. امتلكت الورقة الثمينة الجديدة في التفاوض وقالت انها مستعدة للعبها بذكاء وبمسؤولية طالما ان المعادلة الجديدة ستؤدي الى لغة جديدة في المقايضات على أساس ما هو المطلوب من كل من اللاعبين الثلاثة: فلسطين، إسرائيل، والولايات المتحدة.

الكونغرس الأميركي تعهد في قرار تبناه باتخاذ إجراءات سحب المساعدات وقطع الأموال عن هيئات ووكالات الأمم المتحدة إذا تبنت الجمعية العامة قراراً يعطي فلسطين مرتبة دولة «كاملة العضوية». ما سعت وراءه القيادة الفلسطينية وحصلت عليه، هو دولة «غير عضو» في الأمم المتحدة. هذا التمييز يترك مساحة أمام الكونغرس والإدارة الأميركية لئلا تسارع الى إجراءات لا تؤذي فقط الوكالات التابعة للأمم المتحدة وإنما تؤذي أيضاً الولايات المتحدة وتورطها.

فالانسحاب الأميركي من المنظمات الدولية يُنهي إحدى أهم أدوات التأثير الأميركي في الدول والشعوب في البلدان الفقيرة. قطع الأموال الأميركية عن منظمة الغذاء العالمية يشكل مصيبة للولايات المتحدة. الانسحاب من منظمة الملكية الفكرية يؤدي الى دحض الحماية الفكرية للأميركيين. فالسيف ذو حدين.

ثم إن قطع المساعدات عن وكالة غوث اللاجئين (أونروا) وكذلك عن السلطة الفلسطينية سيؤدي الى تآكل السلطة وربما انهيارها وأيضاً الى تفاقم الغضب الفلسطيني من الولايات المتحدة – وهذا سيؤدي الى انفلات أمني وفوضى عارمة وفراغ تملأه ربما «حماس» والمنظمات الفلسطينية الرافضة حل الدولتين.

تنفيذ إسرائيل توعدها بحل التزاماتها بموجب اتفاقية أوسلو على أساس أن السلطة الفلسطينية نسفت أوسلو عندما توجهت الى الأمم المتحدة للحصول على مرتبة دولة سيؤدي الى إلغاء الدور الفلسطيني الأمني الذي استفادت اسرائيل منه كثيراً.

ردود الفعل الإسرائيلية المتوقعة، وفق دراسة أعدها صائب عريقات بعنوان «اليوم التالي»، لن تقتصر على تحميل السلطة الفلسطينية مسؤولية تقويض السلام، وإنما ستشمل: «حجز العائدات الضريبية الفلسطينية. استفزاز وإحداث تدهور في الوضع الأمني على الأرض. اتخاذ خطوات للانسحاب الأحادي الجانب نحو الجدار. فرض قيود تؤثر في القطاع الخاص والاقتصاد العام» و «ربما تعليق العقود مع وزارات وهيئات السلطة الوطنية الفلسطينية».

أما الخطوات ذات التبعات الإستراتيجية، فإنها وفق الدراسة قد تتضمن الى جانب اعتبار الخطوة خرقاً لاتفاق أوسلو: رفض الاعتراف بالسيادة الفلسطينية على الأرض الفلسطينية المحتلة… توسيع المستوطنات وتنشيطها بخاصة في القدس الشرقية… ضم بعض الكتل الاستيطانية الى إسرائيل… وربما إعلان أنها في حل من الاتفاقات الموقعة سابقاً.

ردود الفعل الأميركية وفق الدراسة، قد تشمل الى جانب تجميد التمويل للسلطة الفلسطينية والضغط على الحكومات الأخرى لثنيها عن تقديم الدعم للفلسطينيين وتعليق الدعم لهيئات ووكالات الأمم المتحدة: إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وإعطاء الغطاء السياسي لإجراءات إسرائيلية ضد الفلسطينيين.

ما لن تتمكن الولايات المتحدة أو إسرائيل من تحقيقه هو منع دولة فلسطين من الانضمام الى المعاهدات الدولية بما فيها اتفاقية روما للمحكمة الجنائية الدولية، واتفاقات حقوق الإنسان، وقانون البحار، واتفاقية جنيف الرابعة المعنية بحماية المدنيين تحت الاحتلال. الرئيس السابق للدول المتعاقدة في نظام روما، سفير ليختنشتاين، كريستشان ويناويزر قال: «من حق فلسطين الانضمام الى أية معاهدة دولية بما فيها نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية. وقانونياً، فور تبني قرار الجمعية العامة، ليس هناك أية أرضية لرفض عضوية فلسطين في أية من هذه المعاهدات». توقيت الانضمام قرار سياسي تفعّله أو تؤجله القيادة الفلسطينية على ما ترى انه في المصلحة الوطنية.

الفرصة الأولى ستُمنح لاستئناف المفاوضات بلا شروط مسبقة سوى ان تكون على أساس الشرعية الدولية بهدف تحقيق حل الدولتين طبقاً لحدود 1967 والقدس الشرقية عاصمة لفلسطين.

فالسلطة الفلسطينية لن تستعجل وتهرول للانضمام الى المحكمة الجنائية الدولية أو الى وكالات الأمم المتحدة. ما تنوي القيام به هو تحقيق انجاز الدولة لإعادة خلط الأوراق التفاوضية وفي جيبها أدوات.

فإذا اختارت الإدارة الأميركية ان توظف فترة الاستراحة لتتقدم بما لديها من خطة لإحياء المفاوضات الجدية، قد تحتفظ السلطة الفلسطينية بـ «حق» اللجوء الى المحكمة الجنائية الدولية والانتماء الى الوكالات الدولية شرط أن يكون هناك أفق زمني واضح لإتمام المفاوضات ووضعها على سكة جديدة – جدية وحيوية.

أما إذا كان الرد على الانجاز الفلسطيني الانتقام أو التوعد به أو الوعود المطاطة، فستتوجه السلطة الفلسطينية نحو إستراتيجية الانضمام الى المعاهدات والوكالات واحدة تلو الأخرى، كما يقتضيه الرد على الإجراءات الإسرائيلية والأميركية.

انه يوم جديد. انها صفحة جديدة. انه امتحان جدي للاختيار بين جدية تطبيق حل الدولتين وبين محاكمة الاحتلال، بين السلطة الفلسطينية وبين «حماس» ممثلاً للفلسطينيين. فالأدوات القانونية غيّرت الأسس الجذرية للعلاقة بين طرفي النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي.

الحياة

غزة – سورية والتراتبية المعكوسة في الإعلام المرئي العربي

بشير هلال *

قدَّم الإعلام المرئي العربي الهجوم الاسرائيلي الجوي على غزة على كل ما عداه. واحتلت أخباره على «الجزيرة» مثلاً ولأيام متتالية ثلاثة أرباع أوقات نشراتها وبرامجها الحوارية. ولم تفعل قناة «العربية» او سواها من القنوات المحسوبة على القوى غير «الممانعة» (اذا لم نقل القوى المعادية لها) غير السير على المنوال نفسه. هذا اذا لم نتحدث عن حماسة «الميادين» و «المنار» و «العالم» وغيرها من قنوات الممانعة التي روجت للانتصارات ولضخامة قدرات المقاومة الغزاوية بجناحيها الحمساوي والجهادي الاسلامي والتركيز الدعوي الخاص في هذا الإطار على الاهمية الخلاصية للصواريخ المنسوبة الى الصناعة والمساعدة الإيرانيتين واستطرادهما الحزباللهي وتتمتهما السورية الأسدية. وبدت كما لو انها ودَّت تحويل الحرب الجزئية الى حربٍ شاملة.

ضمن هذا السياق، جرى تبهيت الأضواء على الثورة السورية بما في ذلك على بعض وقائعها القافزة عما يمكن ان يبدو استقراراً لرتابةٍ تؤوَّل من البعض كتعبير عن بلوغ مرحلة المراوحة وعدم قدرة أي فريق على الحسم. وهي رتابة لو صحَّت – وهي غير صحيحة – لكان يمكن الإعلام المرئي ان يسوغ بها قفزه على الحدث السوري.

ولم يكن مستوى التدمير والقتل في غزة مقارناً بارتفاع وتيرته وكثافته في سورية مما يبرر هذا الخط التحريري غير المتوازن. كما لم يكن ممكناً تسويغه بتفوق الاهمية الاستراتيجية والجيوبوليتبكية لهذه الطفرة في الملف الفلسطيني مع الأهمية المقابلة الإقليمية والدولية لما يجري في سورية.

وبالتالي، فإن مبررات التراتبية الإعلامية هذه، لا بد من البحث عنها خارج الحرب العدوانية المحدودة على غزة.

الإشكالية الأولى سياسية، فإعلام الممانعة كان ولا يزال يرى على رغم «صدمة» الهدنة أن حرباً على غزة لمصلحة فريقه، ما جعله يعطيها أولوية إعلامية تضخيمية. من جهة، لإعادة موضعة الصراعات في المنطقة حول مقولة الصراع الاسرائيلي- العربي «الجوهراني» الماهية من وجهة نظره. ومن جهة ثانية، للضغط السياسي على الثورة السورية عبر تحشيد جديد مأمول حول مركزية القضية الفلسطينية وعبر ما كان يُفترَض بالحرب ان تؤدي اليه من حشرٍ لحكومات «الربيع العربي» وبخاصة الحكومة الإخوانية المصرية بين فكّي العزلة الشعبية او المغامرة بالعلاقة بالغرب، مما يشكل محاولة احتواء ودفع لها باتجاه الخطاب الأيديولوجي الإيراني الذي لا يزال يصرّ على ان هذا «الربيع» ما هو إلا صحوة اسلامية ممانِعة افتتحتها «الثورة الخمينية». وفي خلفية ذلك أملٌ بإنقاذ النظام الأسدي وإغراءٌ لروسيا البوتينية بعدم تركه باعتبار الحرب في غزة وربما غداً في لبنان هدية لها تستخدمها لإرغام واشنطن على الجلوس الى مائدة تفاوض شامل ولاستنزاف القوة الاسرائيلية وإشغالها قبل أي حربٍ محتملة ضد أو لعرقلة النووي الإيراني.

الإشكالية الثانية في الخلل الاعلامي تتمحور حول صلة التراتبيات التي تضعها وسائل الإعلام المرئي العربية بالمنظومة القيمية.

والحال ان إقصاء الثورة السورية الى درجة ثانية وثالثة أحياناً في الصدارة الإعلامية تضمّن قدراً من الاستهتار بالعقل السياسي للمشاهد ومن التعامل معه كمستهلك سلبي ماضوي للإعلام المرئي. وضمن هذا السياق خاطب فيه ما يعتقد أنه وعيه التضامني التلقائي البافلوفي الذي افترض ان شعوب العالم العربي وبمعزل عن أية معايير أخرى (كفظاعة الجرائم وضخامة عدد ضحاياها ونتائجها وآثارها السياسية مثلاً) تهتم بالصراع بين عدوٍ خاص إثني و «قومي»، وبين شعب عربي مُنَزَّه عن التمايزات ومصالح الأجهزة والمجموعات السياسية والسلطات المتنوعة أكثر من اهتمامها بحرب بربرية شاملة تخوضها أجهزة استبدادية لدولة عربية ضد مواطنيها. وهو أمرٌ ينم عن فرضية معيارية ذات وجهين محتمليْن: الأول، أن يكون وعي هذه الشعوب قومياً أو دينياً او خليطاً من الإثنين حصراً، فينفي أية خصوصية، ما يجعل نصابه ما فوق وطني. والثاني أن يكون عشائري التماسك، ما يجعل النصرة درجات تتصل بقرابة دموية مزعومة. وهو وجهٌ إذا صحَّ، فمعناه وجود نكوص عمومي الى ما قبل التاريخ العالمي كما وصلنا إليه ووصل الينا اليوم كعالمٍ عربي. بينما إذا صح الاول نكون في ترسيمةٍ شبه شمولية.

وهو سياقٌ يتناقض مع وجهة التطورات التي تعصف بالمنطقة بتركيزها على الحرية والكرامة اللتين هما قيمتان غير قابلتين للتحوير إلى مجرَّد قابليات عشائرية او أصولية أو عنصرية.

المشكلة ان مشهدية الإعلام المرئي العربي كما بدت في حرب غزة أظهرت ان سُلَّمه القيمي متقادم، بما في ذلك على مستوى قيمة كونية كالحرية. إذ بدل إدراج المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي (بصرف النظر عن كونها مسلحة ام لا) ضمن التطلب البديهي الانساني للحرية، فقد جرى تغليفها إعلامياً في شكلٍ مبالغ فيه بطابع قومي ديني ينكر مرجعها القِيَمي. فبدَت كما لو انها امتدادٌ لتيارٍ نرجسي قعره الانطواء على «الذات العربية الاسلامية». وفي هذا عودة إلى مربعات الممانعة والصحوة الاسلامية والتخارج الاصولي المشتهى مع العصر، بما يتيح إعادة تأويله لمصلحة تملك تقانته ورمي قِيمه. كما فيه قطيعة مع حقيقة أنه لم تخرج تظاهرة واحدة عملاقة تستعيد تلك الايام الخوالي للشارعين العربي و «الإسلامي».

الأخطر أن الجمع بين مخاطبة ما قبل السياسي وما فوق الوطني معاً يؤدي إلى تسويغٍ متجدد لسياسات ومعايير قيمية حوَّلها فريق «الممانعة» إلى موقعٍ قتالي للحفاظ على عقدة تواصله المركزية التي يمثلها النظام الأسدي المترنح. ما يعادل من جهة أخرى عملية استحضار لخطابٍ سياسي أشوه شكَّل خلفية مشتركة لديكتاتوريات ما بعد الاستقلالات التي جاءت انتفاضات العالم العربي لتكتب بداية نهاياتها من دون أن تكتب بالضرورة بدائلها ومن دون أن يكون في استطاعتها منع ارتداداتها العابرة.

وإلى الظلم الذي ألحقه بالثورة السورية، شكّل التضخيم الإعلامي لحرب غزة مساهمة في إنجاح سياسة الحرب اللامتوازية التي تنتهجها «حماس» جزئياً و «الجهاد الإسلامي» كلياً، ومهَّد لإعلان المجموعتين نصراً «سموياً» يُرجَّح أن تستثمراه في الصراع الداخلي بسَوِية غير ديموقراطية.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى