صفحات العالم

من فلسطيني إلى لاجئ سوري في تركيا


إلياس س. إلياس

في حالات كثيرة نتشابه يا إبن دمي وإنسانيتي، في حالات أكثر رأيت فيك ‘تغريبتي’ التي أجاد فنانون من بلادك إعادة سردها فوقفوا عاجزين صامتين أمام أطفالك بين الشجر الفاصل بين جغرافية وجغرافية، نتشابه يا إبن هذه العروبة التي جربناها وجربتنا في توجس المتأمل لصاعقة تسقط على رأسينا من هول صدمة إجتياحك واجتياحي، هناك من درعا القريبة من حدودنا وجذورنا وهناك في جسر الشغور تتكرر الماساة بوجهين يختلفان باللهجة ويتساويان في ممارسة جبانة.. أصدقك أكثر مما يصدقك كل هذا العالم.. اصدقك مثلما كنت أنصت لأجدادي وما كان يقوله جنود رسميون أتوا على أمل تحريرنا فعززوا من نكبتنا في غياب الارادة وغياب الأوامر.

الفاصل بين وقتي ووقتك ستة عقود.. القدم الهمجية التي نسفت البيوت على رؤوس من ظن منا أن الأمر ليس أكثر اسبوعين. الفاصل بين الزمنين مليء بمشاهد العهر الذي حولك إلى لاجئ ونازح كما حولنا، مليء بالخداع والنصب والإحتيال وروايات اشعر بالتشابه والعار منها: يبررون قتلك وتهجيرك كما فعلوا معي، تلك ألسن عبرية وهي ألسن عربية معك، ويا لها من عربية مفجعة وصادمة.

يختبئ فنان من بلادك وراء رواية ساقطة إنسانيا في صمت وجبن لم اشهد له مثيلا في هذه الحركة الخانعة في سكون جمعي للذاكرة والضمير وتردي الوظيفة في حمل منشفة تمسح للسفاحين ملوثات الجريمة المقترفة بحقك، جبن تأصل كما فعل معي لحظة كنا نستصرخ الضمير المؤجر في متاهات البغاء السياسي والثقافي المجمع على فنون الخطابة اللغوية بوجه آلة تدمير صهيوني. في بلادي ثمة ما يشبه جبال بلادك الخضراء في جسر الشغور، في بلادي بحر وسماء وفضاء كان لأجدادي فيهما تجلياتهم الخاصة دون سؤال عن دين وانتماء فوق أرض لا حدود لها.

يا ابن إنسانيتي و إبن ضميري وحريتي، هون عليك كل هذا الصمت العربي وهون عليك كل هذا النفاق الذي يلف منظر الهلع الذي أصاب أطفالك وزوجك وأمك.. هون علــــيك قليلا إن شعرت بغضب واسى السؤال المرتد صداه إلي عن عرب لاذوا بجامعة عربية نصل سكاكينها قتلني مرات ومرات.

أيها الأخ، منك اقول لبقية سوريين يعيشون كل معاني انحدار كرامة الإنسان العربي في سلطة حكام استمرؤوا القتل لكرسي عصابة تعيش على برك من دماء وأشلاء أبناء البلاد، طيلة عقود ونحن نبلع سكينا ينهش بأحبالنا الصوتية، تتكوم الكلمات في جوف أكثرنا، حين كنا نصرخ تنهال لعنات الاتهام علينا عربية وعجمية، نحن الذين غادرنا قرانا ومدننا في فلسطين لنصير لاجئين ونازحين في مخيمات العروبة بفعل صهيوني جائر أُتهمنا، أو أجدادنا ببيع أراضينا! ذلك لم يكن أمرا أقل فظاعة من أكاذيب يحاك بحقك، تعبير عن إفلاس الضمير تلك، أنت الذي استضفت أبناء بلدي قبل أن يولد الحاكم الذي حكمك وقبل أن يبيعونا في سوق الشعارات الهابطة، لا يمكنني أن أكون إلا معك ومع حريتك وكرامتك وليأخذوا كل تصوير بائس لي ولك إلى الجحيم.

أيها السوري الذي أصبح لاجئا في ألفية ثالثة من تأريخنا البشري لا تتحول إلى ضحية تنهش بك ضآلة شراذم عصابات الموت المتنقل في بلادك بطائرات ودبابات تعطي مؤخرتها لعدو مغتصب لأرضك وأرضي لحظة أن رفعت قبضتك وصرخة حريتك بوجه مضطهدك، فالضحية يا أخي لعبة يريدها لك ولي هؤلاء الذين يتباكون كذبا علينا وباسمنا يجتاحوننا.

يا إبن انسانيتي وحريتي، منك عز الدين القسام ومنك العاص ومنك هؤلاء الذين احتضنوا اهلنا المشردين فعاملتوهم كما اخوتكم وابناء بلدكم، قبل أن يكون البعث حاكما وقبل أن يولد بشار وغيره، لا تظنوا أن هؤلاء الذين يتحدثون عن ممانعة ومقاومة وعروبة يستطيعون أن يفصلوا عرى التاريخ والعلاقات بيننا ولا أن يكذبوا باسم ‘القضية’ التي حولوها إلى شماعة للقتل والقمع والتأخر والديكتاتورية، فاستعاضوا بشعارات ‘التقدم’ و’الممانعة’ متناسين أن لذاكرتنا عمقا فيمن انقلب على رفاقه يوم أرسل دبابات الى طريق الاردن دون غطاء جوي دفاعا عن ثوار فلسطين، فانقلب ووضع هؤلاء في السجن عام 70 ولن ننسى تل الزعتر بعد ذلك بسنوات ستة، ولا تخاذل 73 بتسليم مربض جبل الشيخ مرتان للاسرائيلي، ولا ملاحقة شرفاء الجيش السوري في معركة بيروت ولا حرب المخيمات القذرة من عام 85 الى 88 بدعم فاضح وصارخ لحركة امل وقبلها بسنتين حصار مخيمات طرابلس وذبح المقاومة الفلسطينية هناك، ولا الالاف من المعتقلين الذين عوقبوا لسنوات تحت التعذيب باسم ‘فرع فلسطين’.

أشعر بالعار والخجل أن يقول فلسطيني أنه مع هذا النظام، لكن يا اخوتي بالانسانية والضمير البشري: نحن لسنا شعبا من الملائكة.. نحن مثلكم مثل بقية الشعوب، فينا الجيد وفينا الانتهازي وفينا المخدوع بالشعارات، اعذرونا يا ايها الاحرار على سفاهة بعضنا.

اشعر بالعار من عروبة صامتة على تغريبتكم الجديدة في ذل جامعة العرب وصمتها وجبن مثقفيها، أشعر بالعار من فنانين كذبوا باسم القضية ومن معارضات بان وجهها القبيح كما تاه المثقف في زواريب دور ليس دوره.

يا اخوتي السوريين جميعا، بعربكم وكردكم، أعتذر منكم جميعا أن يُخطف اسمنا بهذا الشكل الوضيع لتبرير القتل وسفك الدماء بدبابات ورصاصات كان يجب ان تكون وجهتها حيث العدو الصهيوني وليس في المدن السورية كما ردد ببلاهة دريد لحام. فلا محمود درويش كان ليقبل هذا الخطف لقصائده عند هذا القاتل القذافي وهذا الشبيح المافياوي في دمشق وعصاباته على التلفزة التي سقط عنها القناع.

ايها السوري الحر، تأكد وأنت تتأمل من لواء اسكندرونة بلادك التي هجرتها وتنظر في اطفالك واهلك كيف حولتهم طغمة ديكتاتورية الى مجرد لاجئين أنك تملك عمقا انسانيا عند اخيك الفلسطيني، أخيك الذي يقدر فيك أن صنت شرف الأهل الذين أتوك ضيوفا فأحسنت الكرم والشهامة، تذكر يا أخي ويا رفيقي وتذكري يا اخت ويا أم كل هؤلاء في فلسطين من يفهم هذه المأساة التي تعيشون، نفخر بشجعاتكم وحريتكم وكرامتكم ولن نكون سوى احرارا معكم، كم تمنينا أن تكون حدودنا متاحة لنا لنضعكم في مآقي عيوننا وأن نبلسم جراحكم بكل محبتنا، وأن نجفف دمعة وصرخة تلك الطفلة عند الحدود المندهشة من قتل جندي لأبناء جسر الشغور. لقد علمتمونا أيها السوريون أسماء مدنكم وأعدتم لنا بعضا من ضميرنا وإنسانيتنا وشجاعتنا واكتشفنا كم اسماء قرانا متشابهة وكم جغرافيتنا وحريتنا قريبة من بعضها.

لكم جميعا في فلسطين عمقا سيبقى ينظر إليكم كما نظرتم انتم ايها الشعب الشهم إليه، لا تظنوا أن اللجوء سيجعل منكم أقل إنسانية أو شجاعة، من ماساة اللجوء و التشرد صُنعت المعجزات والانتصارات، وأول إنتصار هو على الذات، هكذا علمنا تاريخنا وهكذا تعلمنا نحن هنا على أرض بلادنا المحتلة وشعبنا المشرد والمشتت بأن لا نفقد الأمل.

لا نكرر الكلام إذا قلنا: نريد حريتكم قبل حريتنا. نحن لا نقبل ولا بأي حال من الأحوال أن يكون شعبنا السوري العظيم لاجئا خارج بلاده ولا مهجرا على أرضه بفعل الشعارات الساقطة عن المقاومة والممانعة.

فلسطين التي عرفت معنى اللجوء يا أخي السوري من الشغور وتلكلخ ومعرة النعمان وادلب معكم مع حريتكم وتحرركم، على الأقل شعبها الذي لم تلوثه بعض أجهزة الاستخبارات كما فعلت مع بعض قياداته. وكم نشعر بالاسى والخجل من موقف حزب الله الذي بدل أن يقابلكم كما قابلتموه في 2006 قام بتسليم وحجز حرية من هرب من بطش السلطات ويدعوكم للقبول والخنوع بينما يتمتع هو بحرية التعددية والاعتراض على ما يريد في لبنان، كم يؤسفنا أن نسمع ابواق النظام من لبنان وسوريا وهم يرددون تفاهات الممانعة والمقاومة بينما شعبهم السوري يقتل.

نحن نفهمكم ونحن معكم وسيظل الفلسطيني المدرك لعمق انسانيته وحريته معكم الى تحرركم وسنطلق عندها صرخاتنا فرحين لتلك الحرية وسنباركها لكم من هنا من ربوع فلسطين التوأم مع سوريا الحبيبة الحرة بشعبها الحر.

كاتب فلسطيني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى