صفحات مميزة

وما بدّلوا تبديلا/ يوسف عبدلكي

 

ـ 1 ـ

نقاش، نقاش محتدم، نقاش حاد نقاش حتى لو كان بلغة الشتائم والمهاترات والبذاءة هو أفضل عشرات المرّات من صمت لأربعين عاماً.

ـ 2 ـ

ليس هذا النص رداً على مقال محدّد، ولا على جملة الآراء الغاضبة وغير الغاضبة على مواقع التواصل الاجتماعي، إنّما هو محاولة لتناول جذر القضايا التي تمّت إثارتها، وربما الأسباب الحقيقية وراء ذلك النقاش المتوتّر، بما يتجاوز موضوع المعرض أو أي فعل ثقافي آخر؛ هذا إضافة لتناول بعض النقاط التفصيلية التي وردت هنا وهناك.

ـ 3ـ

الثورات كتفجير للآمال الكبيرة تُظهر أنبل ما لدى الشعوب والأفراد من قدرة على العطاء والإيثار والتضحية. وفشل الثورات في المقابل يظهر أسوأ ما لديهم من أنانية، وتقوقع على الذات وتشكيك واتهامات.

ـ 4 ـ

لئلا ندخل في حوار مجزوء، لا بد من العودة إلى التاريخ المفصلي 2011، لأنه المدخل الصحيح لكل ما نراه اليوم حولنا من تطورات. جاءت الثورة السورية بعد أربعين عاماً من سيطرة سلطة القمع ونهب المال العام، لم يحدث منذ الاستقلال أن استمرت سلطة تحكم سوريا كل هذه العقود، أحكمت خلالها سيطرتها على الحياة السياسية بالقوة العارية، ثم أحكمت سيطرتها على كل المجتمع بواسطة أجهزة الأمن التي أصبحت القوة الأكبر التي تُخشى سطوتها، ويخافها الجميع: مواطنون بمن فيهم المثقفون والسياسيون، أو من مكونات السلطة نفسها بمن فيهم ضباط الجيش.

أشعلت الثورتان التونسية والمصرية جمرة الآمال المدفونة تحت أكوام الرماد. أخذ الشبّان السوريون بالتظاهر، يطالبون بالإصلاح أولاً ثم بعد أسابيع راحوا يهتفون بسقوط النظام تحت وطأة القتل في الشوارع والساحات. بعد أشهر من التظاهر السلمي الباسل، أجبر عنف النظام الشباب على التوجه إلى حماية المتظاهرين، التقطت دول الإقليم والعالم الفرصة، وهي التي كانت تريد تسديد ضربة (للقوس الشيعي) إيران، سوريا، حزب الله، فراحت تموّل وتسلّح المجموعات السورية وتحرضها على لبس لبوس ديني يظهر بأسماء المجموعات المسلحة. ما أخرج الحراك السوري السلمي عن مساره ليأخذه إلى مسار عسكري طائفي، بعد ستة أشهر أو يزيد تغير الحراك الثوري السوري، الذي كان يرفع شعارات الحرية والكرامة والعدالة. برزت ظاهرة الانشقاقات عن الجيش والمؤسسات الرسمية، وحملت شعارات الثورة عمومًا، ولكن بعد أشهر أخرى تبدّل المشهد، أصبحت شعارات الحراك دينية انتقامية، ساعد على ذلك ليس فقط التمويل الكبير والتسليح الأكبر، بل أيضا الشحن الإعلامي المخيف، الذي كان له الدور الأبرز في حرف الثورة لتصبح حرباً إقليمية ودولية، وطائفية على الأرض السورية وبالدم السوري ولأهداف غير سورية.

لم نعد نرى لا شعارات الثورة ولا شبابها الذين إما قُتلوا في التظاهرات، أو اعتقلوا، أو التحقوا بالمجموعات المسلحة، أو أجبروا على الهجرة إلى خارج البلد.

نهاية عام 2012 لم تعد هناك ثورة. الزمن كفيل بتغيير كل الظواهر الاجتماعية والسياسية الكبرى، بما فيها الثورات. ثورة لينين الروسية لا علاقة لها باستبداد ستالين، الثورة الفرنسية لا علاقة لها بمقاصل روبسبير، ثورة ماو تسي تونغ الصينية لا علاقة لها بثورة ماو تسي تونغ الثقافية. الثورات كيانات حية يمكن أن تأخذها الشروط العامة والخاصة في هذا الاتجاه أو في عكسه. الثورة مخلوق حيّ متحرك، مثل البشر، وليست حجارة غرانيت تحافظ على خواصها لمئات القرون. هذا محض وهم. لذا أظن أن من يتحدثون اليوم عن «الثورة» إما أنهم لا يعرفون ما حصل خلال خمسة أعوام في سوريا، أو أن أذهانهم تثبتت – بسبب نقائهم وطوباويتهم ـ عند لحظة الثورة البهية، ولا يريدون أن يعترفوا ببشاعة الواقع الذي جاء بعدها، أو أن لديهم مصلحة في تسويق المصطلح لأسباب أعرفها وأخجل أن أفصح عنها.

ـ 5 ـ

انقسمت المعارضة بعد الأشهر الأولى إلى شطرين كبيرين، الأول يدعو إلى التسليح ويقبل التمويل الخارجي ويحرّض طائفياً ويدعو إلى تدخل عسكري خارجي، والآخر يرى هذا الخيار خياراً مُدمراً، يرهن المعارضة للخارج، كما يرى أن هذا الزلزال الشارخ للبلد بين نظام ومواطنين يحتاج إلى حل سياسي، لأنه كان يدرك مصادر قوة النظام العسكرية والاجتماعية وقدرته على البطش.

العسكرية: الأمن، الجيش، الحلفاء الخارجيون. والاجتماعية: معرفته بأن بلدنا فيه أغلبية وأقليات (على خلاف الوضع التونسي والمصري) ما سيسمح للنظام باللعب على هذه الحساسية، يساعده ضيق أفق التيار الديني – ممثلاً بالإخوان- الذي جعله التمويل الواسع والفضائيات يتصدر المشهد، والذي لم يطلق أي تطمينات لا للأقليات ولا للمجتمع المدني، بل بالغ في الشحن الطائفي المخيف، وشيطنة كل من يدعو لحل سياسي مثل هيئة التنسيق الوطنية.

ـ 6 ـ

لم يدرك التيار الخارجي في المعارضة والداعي للحل العسكري استحالة هذا الحل في ظل إحجام الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية عن التدخل، علماً بأنها لم تصرّح في أي يوم بأنها ستتدخل، ناسياً أن الدول الغربية دول لديها حساباتها ومصالحها، وليست اسكافياً لدى هذا الطرف أو ذاك مهمته إصلاح الأحذية المثقوبة ما أن يُطلب منه ذلك.

ـ 7 ـ

الآن المعارضة الخارجية، والمجموعات المسلحة تميل إلى الذهاب إلى الحل السياسي، وهو تماماً عكس ما دعت وحرضت عليه على مدى ستة أعوام، الذي كلّف السوريين نصف مليون ضحية، وتدمير نصف مدن سورية، وأكثر من عشرة ملايين مهجّر ولاجئ، الأمر الذي يتحمل النظام بالطبع المسؤولية الأولى عنه، وهذا لا يعفي المعارضة الخارجية من مسؤولية أنه كان خيارها. ولكن لا يخطر ببال أي من قياداتها القول: لقد اتهمنا وشيطنّا وشتمنا وخوّنا المعارضة الداخلية التي قالت بالحل السياسي، وها نحن نذهب اليوم إلى جنيف، أي إلى الحل السياسي دون أن يخطر ببالنا الاعتراف بخطأ خيارنا. هذا إذا لم نطالب بقليل من الشرف بأن يعتذروا عن حصتهم ومسؤوليتهم عن الكارثة.

يا للغباء أنا أتحدث عن الشرف.

هل يحق لنا التساؤل عن عدم وجود رجل سياسة سوري واحد اعترف خلال سبعين عاماً بخطأ ما ارتكبه، ولو كان بحجم رأس دبوس؟ السياسيون السوريون يولدون على حق، ويعيشون على حق، ويتقلبون يمنة ويسرة وهم على حق، ويموتون على حق… ولا يداخلهم الخطأ لا من يمينهم ولا من شمالهم ولا من فوقهم ولا من تحتهم… وكل المآسي التي نعيشها منذ الاستقلال ليست إلا.. مؤامرات

ـ 8 ـ

اكتملت المأساة السورية بدخول المجموعات الأصولية الدينية إلى ساحة الصراع منذ نهاية 2012، وكلها من سلالة «القاعدة» التي تأسست في الثمانينيات في أفغانستان بالقرار والدعم الأمريكي وبالأموال والأيديولوجيا الوهابية السعودية، وكلها خلاف الإسلام السوري المعتدل، الذي يقبل الآخر، ويعتبره شريكه في الوطن. رأينا أولاً جبهة النصرة، ثم «داعش»، ثم عشرات المجموعات التي لا تقل تشدّداً وأصولية عنهما، وإن كانت تقل حجماً وشهرةً. لم نعد أمام أخوان مسلمين لا يحسبون حساباً لتنوع المجتمع السوري، أصبحنا أمام السواطير.

ـ 9 ـ

طُرد وهُجّر الملايين من السوريين من بيوتهم ومدنهم وقراهم، منهم من بقي داخل سوريا، ومنهم من التجأ إلى دول الجوار ومن ثم إلى العديد من دول العالم.

الكثير من الناشطين الديمقراطيين السلميين، اضطرهم بطش النظام ووحشية أجهزته إلى مغادرة البلد. وهنا بدأت مسألة أخرى: ماذا يفعل الناشط السياسي الذي كان يشارك أو يقود المظاهرات، ويحدد شعارات التظاهر، وينسّق ليل نهار مع بقية المناطق في حيوية رائعة مدفوعة بالأمل الحقيقي بالتغيير؟ لا شيء في الحقيقة المعنى الوحيد للناشط السياسي هو داخل البلد، أما في الخارج فجُلّ ما يمكن أن يفعله أي إنسان هو دعم الحراك الثوري داخل البلد، ولكن إذا قضى بطش النظام من جهة وصعود المجموعات الأصولية الدينية من جهة أخرى على هذا الحراك المدني الديمقراطي، فماذا يمكن أن يفعل حينها ذاك الناشط؟

إنها محنة حقيقية؛ لا العودة ممكنة بسبب أجهزة الأمن، ولا النشاط في الخارج له معنى. تحوَّل الكثير من الناشطين إلى العمل مع الهيئات الإغاثية التي تعمل في دول الجوار، هذا ربما أفضل المتاح. ولكن عشرات الآلاف منهم بقي في الدول الأوروبية. ليس سهلاً على الإنسان الإقرار بهزيمة خياره السياسي والاجتماعي، خاصة إذا كان ذلك الخيار قد شكّل الحدث الأهم والمؤسس لبنيته الشخصية ولوعيه السياسي.

عند هذه النقطة تحول الكثير من الناشطين إلى ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي؛ أي أنهم يتواصلون مع الآخرين، ويعرّون النظام وممارساته مما يعطيهم الإحساس ـ أو الوهم ـ بأنهم ما زالوا في ساحة الفعل.

ـ 10 ـ

المشكلة في من يخرج من بلده مكرهاً دون القدرة على العودة إليه، إذ تتثبت لديه صورة البلد في اللحظة أو الفترة الذي تركه فيه، لا يعود لمرور الزمن تأثير على صورة البلد الثابتة في ذهنه، يتحدث عنه بعد سنوات وكأنه قد غادره البارحة. هذه الظاهرة معروفة لدى جميع اللاجئين أو المنفيين السياسيين: الأرجنتينيون بعد الانقلاب العسكري، الفلسطينيون بعد النكبة، الشيوعيون الأتراك، الجمهوريون الإسبان بعد الحرب الأهلية… إلخ، لذا مع توالي الشهور والسنوات تحولت المعارك على مواقع التواصل الاجتماعي إلى معارك دونكيشوتية… في كل المسائل: السياسة والثقافة والاجتماع، ودائماً خلفيتها البلد ساعة تركه، فما زال الكثيرون يتحدثون عن الثورة وكأننا ما زلنا في منتصف 2011.

ليس دون دلالة أن يطلب معارض مرموق من الشعب السوري العودة إلى التظاهرات السلمية، وهو الذي أمضى خمسة أعوام يحرض على العمل العسكري، كأن الشعب السوري واقف كله خلف بابه ليتلقى الأوامر منه، ناسياً أن من خرج عام 2011 ليواجه المجنزرات بصدره العاري فعل ذلك لأجل الحرية، وليس لأجل استمرار حرب مدمرة طائفية، وليس لأجل كارثة اسمها «داعش» أو جبهة «النصرة» أو «جيش الإسلام» أو نور الدين الزنكي أو غيرها من بيادق الخليج وتركيا وأمريكا وأوروبا.

من هنا أنا أتعاطف ـ بحق ـ مع كل الذين شتموني، وشتموا معرضي، ليس لأنهم على حق، بالضبط لأنهم ليسوا على حق، وعلى الرغم من ذلك وجدوا كل تلك الدوافع لبث كلامهم الجارح والمخيف دون تردد. أقول أنا أتعاطف معهم لأني أعتبرهم في محنة منذ سنوات، محنة أنا نفسي عانيت منها على مدى أربعة وعشرين عاماً.

ـ 11 ـ

الكلام السابق لا يعني إعفاء نفسي من الكلام حول بعض النقاط التي أثيرت، أستبعد منه التجريح والشتائم الصبيانية، وأرد على مغالطات أشبه ما تكون بالأكاذيب.

ـ 12 ـ

لم أعد إلى دمشق عام 2005 ـ كما تخيل أحدهم ـ في صفقة أو تسوية مع النظام. أنا عدت إلى بلدي ـ وهذا حقي المطلق ـ بعد ما يقارب ربع قرن من النفي دون أي صفقة (وأتحدى أي كائن أن يثبت عكس ذلك) مستغلاً وضع النظام إثر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. ولم أكن أتوقع أي شيء أكثر من الاعتقال في المطار. ولم أغادر دمشق منذ 2007، مذاك أنا مقيم في دمشق، غادرتها لأيام أو أسابيع لمعرض أو لفحوصات طبية وعدت إليها. باعتبارها مكان إقامتي الوحيد. وبالتالي لم أكن في الخارج وعدت مجدّداً في صفقة أو تسوية جديدة مع النظام ليس أنا من يعقد الصفقات المشينة. لو كنت كذلك لعقدت الصفقات مع نظام صدام حسين على مدى ربع قرن عندما كان ومنذ الثمانينيات يشتري (ولا أعتذر على كلمة يشتري) المعارضين السوريين من أخوان وبعثيين واشتراكيين وشيوعيين ويسخّرهم في صراعه مع توأمه السوري.

الصفقات والتسويات في السياسة والثقافة لا تبقى طي الأدراج، يظهر أبطالها في الإعلام والفضائيات على العلن وعلى رؤوس الأشهاد.. وهذا ما نراه منذ ستة أعوام، ولا تنتظر تلك الصفقات أجاثا كريستي من بيروت لتكشف لهم السر المصون وتفضح الجريمة، الصحافة أمانة على الحقيقة، وليست خيال مؤامرات وتهويمات لإثبات أي وجهة نظر مهما تكن.

ـ 13 ـ

المعرض الذي أقمته، مقرر منذ عام كامل، وليس وليد عدة أيام ليترافق مع القصف الوحشي على حلب، هل يوجد أي مُنجّم في العالم يعرف من سيقصف من أو من سيقطع المياه عن من بعد أسبوع؟

ـ 14 ـ

سوريون فقط هم من كانوا في افتتاح المعرض، ولم يكن هناك ـ كما تصور أحد الأصدقاء ـ روس يملأون القاعة، ما أعرفه أن الروس جاؤوا ليقودوا الطائرات الحربية، لا ليزوروا المعارض، لو جاء إلى الافتتاح أجانب لرحبت بهم كما يرحب أي فنان بأي زائر، ولكن لم يكن هناك إلا سوريون، وسوريون فقط. اختلفوا معنا، ولكن دعونا نفرح بدقتكم وليس بالخيال السارح على هواه.

ـ 15 ـ

المعرض لم يكن تحت رعاية أحد، ولم تزره أي شخصية رسمية. ولم يُغطَّ من أيّ فضائية سورية، ولم يتم تناوله في وسائل الإعلام الرسمية، فكيف سيستفيد منه وكيف يستنتج أحدهم بأنه «تطبيع». لو كانت هناك استفادة أو تطبيع لظهرت في العلن، من يستفد منك ـ مثل من يعقد الصفقات معك ـ لا يتركها مخبأة في بيت المونة… يُظهرها على العلن في إعلامه، يطبّل ويزمّر لها، وإلا فقدت معناها. العمل الثقافي المستقل مقاومة وليس تطبيعاً يا علماء السياسة.

ـ 16 ـ

أحد الأصدقاء الذين أحترم عملهم (أقول: عملهم) قال إني أقيم المعرض لكي أعيش أتكسّب ليته شتمني لكان الأمر أهون. لأنه يُفترض به أن يعرف أن خياراتي كانت دومًا أبعد ما تكون عن حسابات أصحاب الدكاكين الصغيرة. لعلمه: أني اشترطت على صالة العرض أن الأعمال ليست للبيع وهذا ما حصل؛ فيا للتكسّب ويا للتعيّش.

ـ 17 ـ

بعد كل هذا لماذا أرسم عاريات اليوم؟ هذا هو السؤال الوحيد في كل هذا الضجيج الذي يستحق الإجابة. قامت الثورة السورية. انخرطتُ فيها كما انخرط فيها الآلاف من أبناء جيلي، خاصة من كان معتقلاً في يوم من الأيام. بقدر ما أثارت الثورة في قلبي وميض الأمل، بقدر ما أذهلني عنف النظام وشراسة مواجهته للمتظاهرين السلميين، كان أبناء سوريا يواجهون الدبابات بصدورهم العارية. كان أمل الحرية أكبر من خطر الموت، كانت شجاعة الشباب أسطورية، في درعا وحمص وحماة ودير الزور وباقي المدن والبلدات. أعترف لكم الآن بأنني لم أستطع أن أرسم الشجاعة، على الرغم من أنها تستحق أكثر بكثير من الرسم. كنت مأخوذاً بألم أمهات الشهداء. هل وضع أحدكم نفسه يوماً مكان أم فقدت وحيدها ابن السابعة عشرة في مظاهرة؟ رسمتهن وسأرسمهن سنوات وسنوات وسنوات. كانت لوحات معرضي في 2014 في بيروت كلها من وحي هذه السنوات المضيئة والقاتلة. غير أن تحوّل الثورة إلى حرب إقليمية ودولية، وابتعادها عن الثورة الحقيقية، ثم انتشار العنف الطائفي والدمار في مختلف المناطق، ثم بروز «داعش» و»النصرة» وأشباههما من الوحوش القروسطية جعلني أقرف من رائحة الموت التي تزكم أنوف السوريين قاطبة، رحت أجد الموت في كل زاوية ومنعطف.. النظام يقصف بالبراميل المتفجرة، و»داعش» يحرق الأسرى، وجيش الإسلام يستعرضهم في الشوارع في أقفاص كالحيوانات.

في أجواء كهذه ـ التي هي نقيض الثورة وآمالها ـ رحت أغلق باب قلبي، أقرأ سانت أكزوبري أو ألعب الشطرنج مع نفسي… من هنا رحت أعمل على العاري، (عملت وأعمل أيضاً على الكثير من الموضوعات الأخرى إلى جانبه)، هروبًا من مناخ الموت، وروائح الموت، وعفونة الموت، إلى ما هو باقٍ لدى البشر… الجمال. هل مقاومة الموت خيانة للشعب السوري؟ أم أنها تمجيد لما هو عظيم فيه: التصميم على الحياة رغم كل بشاعات القتل وبشاعات الموت.

ـ 18 ـ

ربما ما لا يعرفه الصارخون بأعلى أصواتهم، الذين يشتمون بعضهم ويشتمون المثقفين ويشتمون النظام ويشتمون كل شيء، في محاولة للانتقام من فترات الصمت والخوف التي عاشوها على مدى عقود أنهم بسلوكهم هذا مازالوا عبيدًا للنظام الفاشي – الذي يعارضونه – باستخدامهم لغته وثقافته، لغة الاتهامات وثقافة الإقصاء.

ـ 19 ـ

انفلات الغرائز البدائية، ليس سياسة، وليس ثقافة. إذا أردتم معارضة النظام (وأنا لا أشك بحسن نواياكم) فلا تنصروه علينا. هو قوة الموت، نحن قوة الحياة. من نافل القول إن المطلوب لغة العقل والنقد والحوار القائم على احترام الذات والآخر، مهما تتباعد الرؤى.

شتم النظام يجعل المرء معارضاً، لكن لنصبح بشرًا أحراراً علينا أن نتحرّر منه.

ـ 20 ـ

اليوم الشعب السوري مطعون في قلبه، حياته مدمرة مثل مدنه؛ وشهداؤه لا تحصى أعدادهم، ولا معتقَلوه. إذا كان فيكم ذرة شرف عليكم أن تساعدوا هذا الشعب لا أن تتكالبوا على أبنائه، الذين لم يبيعوا، ولم يشتروا، ويموتون كل يوم… «وما بدّلوا تبديلا».

9/1/2017

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى