صفحات سوريةعمر قدور

وهم النفوذ السعودي في سوريا/ عمر قدور

 

أثارت المقايضة التي طرحها وزير خارجية السعودية، والتي تنص على منح روسيا نفوذاً أقوى في المنطقة مقابل التخلي عن الأسد، ردَّ فعل روسي مستنكر على الصعيد الإعلامي، بينما يصح وصف العرض ذاته بأنه إعلامي في المقام الأول، وغايته إحراج موسكو بإظهارها متمسكة بشخص بشار على حساب مصالحها الأوسع. وصف دوائر مقربة من الكرملين الجبير بأنه شاب تنقصه الخبرة الدبلوماسية لا يراعي تاريخه الدبلوماسي الشخصي، لكنه من ناحية أخرى يقرأ العرض الإعلامي بواقعية، إذ لو كانت هذه الصفقة تمتلك حظاً من التطبيق لما أُعلنت هكذا، ولكانت أُبرمت بتفاهمات بعيدة عن وسائل الإعلام.

الأقرب إلى المنطق أن العرض السعودي أتى على أرضية العجز عن التأثير في الميدان، وأنه تتويج لفشل الدبلوماسية السعودية في التأثير على الحليف الأميركي أولاً، ومن ثم الفشل في التأثير على الكرملين عبر زيارات عديدة لمسؤولين سعوديين كبار. وقد يُضاف إلى سجل الوزير الشاب تكرار تصريحاته التي تنص على أن بشار سيرحل بالمفاوضات أو بالقوة، بينما كانت القوات الروسية تغيّر الوقائع على الأرض، بمباركة أميركية شبه علنية. فتكرار تلك التصريحات حتى وقت قريب، بلهجة من يمتلك زمام المبادرة، كان مفارقاً للواقع الدولي، ومفارقاً للفعالية السعودية نفسها في الميدان السوري على رغم تعويمها معنوياً برعاية تشكيل الهيئة العليا للتفاوض.

وكما هو معلوم، سبل الوصول إلى الميدان السوري تنحصر باثنين، الجنوب والشمال. في الجنوب تسيطر الإدارة الأميركية بحزم تام على المعبر الأردني للإمدادات، ويعلم الجميع ألا قطعة سلاح واحدة يمكن تهريبها بعيداً عن التنسيق بين المخابرات الأميركية والأردنية، مثلما يعلم الجميع عدم قدرة فصائل الجبهة الجنوبية على خوض أية معركة في غياب خطوط الإمداد. أما في الشمال، مع وجود تأثير للقرار الأميركي أيضاً، فالالتفاف على الأخير يتطلب تنسيقاً عالي المستوى بين الرياض وأنقرة، الأمر الذي كان يُستبعد حدوثه سابقاً، ويمكن القول بانقضاء أوانه حالياً.

لقد اتُخذ قرار ضبط الجبهة الجنوبية من قبل إدارة أوباما مبكراً، منذ خريف عام 2012، وهو الذي أدى إلى انقطاعها عن جبهات ريف دمشق، بمعنى إنهاء الخطر المباشر على النظام في دمشق. أي منذ ذلك التاريخ لم يعد من منفذ للرياض سوى المنفذ التركي، وفي ظل علاقات أقل ما يُقال عنها إنها فاترة بين الرياض وأنقرة كان يستحيل على الأولى تكريس واقع ميداني تسيطر عليه وتستثمره سياسياً، على رغم ما أعلنه وزير خارجية قطر السابق عن نقل الملف السوري آنذاك من العهدة القطرية إلى السعودية.

يمكن إضافة تعامل الإعلام السعودي مؤخراً مع محاولة الانقلاب في تركيا كمؤشر إضافي على الفتور تجاه حكومة حزب العدالة، لكن الخلافات بين الجانبين ظهرت بقوة مع تباين موقفيهما من انقلاب السيسي المدعوم سعودياً. الملف السوري كان تفصيلاً ضمن تفاصيل أخرى في العلاقة الشائكة، فلم يعمد الجانبان إلى تجزئة الملفات والتعاون في الملف الذي يُفترض ألا يكون مثار اختلاف، مع إصرارهما كلٌّ بمفرده على شرط رحيل بشار، ومن المرجح أن نظرة كل طرف إلى الإخوان المسلمين ككتلة واحدة عابرة للحدود قد حكمت سياستيهما.

بعبارة أخرى، لم يكن النفوذ السعودي في سوريا ممتنعاً بسبب التدخل الروسي، والإيراني قبله، بل كان الحائل دونه الحليف الأميركي من الجنوب والعلاقات السيئة مع تركيا من الشمال، مع حفظ التأثير الأمريكي شمالاً وجنوباً لجهة منع وصول أسلحة نوعية لفصائل المعارضة. ويجوز القول بأن توزيع الأدوار في المنطقة لا يمنح السعودية حصة أكبر من انقلاب السيسي في مصر ومنع انقلاب الحوثيين في اليمن. المقايضة الحقيقية بالنسبة للرياض ربما تكون قد حدثت حقاً بالموافقة على تدخلها العسكري في اليمن والقبول بالسيسي دولياً، مقابل منع النفوذ السعودي في سوريا وانحساره فعلياً في لبنان، على رغم عدم رضا القيادة السعودية بهذه القسمة.

على ذلك، يفتقر تصريح الجبير الأخير إلى الجدية، وتعلم موسكو قبل غيرها أن الرياض غير مخولة أميركياً بلعب دور يتخطى الخطوط المرسومة لها، بالقدر الذي تدرك فيه أن تدخلها العسكري في سوريا يقع ضمن هذه الخطوط. وينبغي الانتباه جيداً إلى أن المنطق النظري لا يتحكم في تقاسم النفوذ، بالقدر الذي تتحكم فيه القوى الفاعلة ميدانياً، فالرياض أقرب نظرياً إلى ما هو معلن في السياسة الخارجية لإدارة أوباما؛ هي مشاركة بشكل فعال في الحلف الدولي ضد داعش، وهي تخوض حرباً حقيقية لأسبابها الخاصة ضد مختلف تنظيمات الإسلام السياسي بما فيها الإخوان، وهي تدعو إلى حل سوري يضمن عدم سيطرة الإسلام السياسي على مقاليد الحكم. وإذا أخذنا في الحسبان تجربة السعودية في لبنان، فهي أكثر جهة إقليمية لها خبرة في تقاسم النفوذ وتقسيمه داخلياً. لكن هذه العوامل كلها قاصرة بسبب العجز السعودي عن الوصول إلى العمق السوري، على العكس من طهران التي تملك خطوطاً مفتوحة عابرة للحدود تصل إلى الجنوب اللبناني، والأهم أن خطوطها غير خاضعة لابتزاز أي طرف آخر.

لا شك في أن الدبلوماسية السعودية شهدت نشاطاً أعلى من السابق، على خلفية الأوضاع غير المستقرة في المنطقة، ولا شك أيضاً في أنها تخلت عن شيء من الحذر التقليدي، ما أدى إلى استخدام القوة العسكرية في اليمن. لكن، بخلاف الحقبة السابقة، تبدو السعودية اليوم كأنها تلعب لمصلحتها خارج إطار التحالفات التقليدية السابقة، بل تصطدم أولاً بسياسة الحليف الأميركي حيث لا تخفي إدارة أوباما تحفظاتها الشديدة إزاء سياسات المملكة ككل، بما فيها الداخلية، وحتى رغبتها في تحجيم الدور السعودي باطراد. ولأن العلاقات السعودية التركية غير مهيأة لانقلاب دراماتيكي، فات أوان تأثيره أصلاً، يبقى النفوذ السعودي في سوريا رهنا بسياسة الإدارة المقبلة، ورغبة تلك الإدارة في فتح المعبر الأردني أمامه. أغلب الظن، إذا حدث ذلك، لن يكون وزير الخارجية مضطراً لاقتراح صفقات مجزية لموسكو.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى