صفحات الناس

يطفىء نار الغربة بالوطن/ دلال البزري

 

 

في بداية ثمانينات العقد الماضي، حاول رشاد العودة إلى وطنه الأصلي، مصر. كان قد مضى على هجرته إلى كندا عقدان، أسّس خلالهما عائلة كبيرة وقاعدة مهنية قوية في جامعة مونتريال. وقتها، دافعه للعودة كان العائلة، الأهل، أماكن الطفولة… وكلهم افتقدهم في بلاد الصقيع الطويل. في القاهرة، أمضى عامين عانى خلالهما أولاده من الحنين نفسه، ولكن إلى كندا، حيث عائلتهم وأهلهم وأصحابهم وأماكن طفولتهم؛ فيما هو حاول، عبثاً، إحياء ماضيه. فبدت العودة إلى هناك من البديهيات. هكذا، استجمع رشاد قوته من جديد، وعاد إلى حيث الدفء الإنساني الكندي.

حكاية رشاد تلخّص، إلى حدّ بعيد، تلك القشْعريرة التي تضرب كل مهاجر في صميم كينونته: من انه، مهما نجح أو صعد أو سعِد… يبقى هناك أمر ناقص، هو وطنه الأصلي. وما يشتاق اليه أكثر من أي شيء آخر هو العائلة، الأهل، الوشائج، الأماكن… وكأن اللدغة دائمة حاضرة، لا ينقصها سوى الخروج نحو الكلمة. ولكن عندما يحقق أمنيته بالعودة، يكتشف المهاجر بأن ذاك الذي وخزه في غربته من دون إنقطاع، لم يكن سوى وهمٍ صنعه البُعد والذكريات وكل العواطف التي تجيشها الغربة، والتي تحول الوطن-الجحيم الذي هرب منه المرء إلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار… فيكتشف، كما حصل مع رشاد، بأن ما كان يعتقد انه ينقصهم في المهجر، ليس موجود إلا فيه، وان الروابط التي بناها هناك أعمق وأصفى من تلك التي تخيل انه تركها على براءتها الأولى في وطنه الأصلي.

سؤالان يحضران الآن: الاول، عن تلك الوشائج الدافئة الحميمة الجميلة التي نسجها المهاجر عن الوطن الاصلي. أنظر الى المواطن الذي لم يهاجر: أكثر ما يلدغه هو الآخر هو بالضبط ما يلسع المهاجر، هو الحنين الى المكان الأصلي والعلاقات الدافئة المحبة. المكان نفسه لم يعد كما كان، عمّه الخراب والفوضى والبشاعة، ومثله الوشائج المفكَّكة المتكسِّرة. بحيث ان أي مهاجر لن يجد في رحلته إلى وطنه الأصلي أي شيء مما بناه في مخيلته من تصورات مُحبّة للوطن… أو القليل القليل منه. يعود المهاجر الى الوطن بحثا عن ذاك الدفء الخرافي، فلا يجد غير الحقيقة: ان العلاقات القديمة تحطمت، كما فقدت الأحياء ملامح ذاكرتها، وتبعثرت في فوضاها المستمرة… فيما المقيم ينافسه بغربته.

أما السؤال الثاني فهو: إذا كان هذا هو واقع الحال، فلماذا يعاود المهاجر الكرة مرة ثانية، متوهماً بأن الوطن ما زال كما كان أيام جبران خليل جبران؟ قد يكون الجواب في حالة الهجرة نفسها: فما ان تطأ قدماه موطنه الجديد، وقبل ان يستقر فيه، حتى تدبّ فيه الذاكرة ولا تعفيه من لسعتها إلا إذا أعاد تركيب وطنه الأصلي، أو بالأحرى ملامح منه، في هذا الموطن الجديد. هكذا تجد في أحياء مونتريال او تورنتو الكنديتين، “مدنا” مصغّرة عن الصين وإيطاليا واليونان والبرتغال وفرنسا الخ. عشق الماضي هو من سمات الأرض الجديدة، وهذه مفارقة إنسانية ضرورية؛ انها العلاج بالذاكرة، باستحضار مكوناتها، باحياء صورها وتاريخها ولغتها. وماذا يكون “ماضي” المهاجر غير بلاده الأصلية؟

وما يسمح بالمزيد من المفارقة، انك، لو صرتَ كندياً، محبا لكندا، ساكناً مطمئناً فيها… فهذا لن يعفيك من الإجابة على سؤال يومي يطرحه أحدهم عليك: “من أي بلاد اتيتَ؟”، ليس باللهجة العدائية التي تريد ان تصنّفك “غريبا”، إنما بتلك الإبتسامة التي تود التأكيد على التنوّع الكندي الخارق.

ليس هناك من “حل” لهذا التأرجح اليومي بين الهويات والأمكنة. المهاجر وأولاده، وحتى إشعار آخر، سيبقون عرْضة له؛ بل قد يكون مصدر إلهامهم، وطاقتهم، وقد يكون راسماً لملامح هويتهم أبنائهم وأحفادهم. وما يمنح هذا التأرجح قدرة على الإستمرار هو التطور الهائل في وسائل الإتصال، بحيث ان التجربة “الهويتية” الجديدة قد لا تستغرق أكثر من عقدين، ترتسم خلالهما ملامح الهوية المهاجرة الجديدة، التي لن تكون نسخة منقحة عن إحدى الهويتين، الأصلية أو المكتسبة، إنما شيء جديد تماما، كل ما ندرك منه الآن هو مزيج من الإلتباس والقلق، وليد الغربتين، في الوطن وفي المهجر.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى