صفحات سوريةمحمد العطار

يوميات سوري في اليمن

 

    محمد العطار

لا أمكنة كثيرة دافئة في استقبال السوريين اليوم خارج بلادهم، التي تدمَّر أمام أعينهم. عندما يحظون بمثل هذه الأمكنة، فللأمر إذاً أسباب وجيهة. في اليمن، يتعرف السوري سريعاً إلى ما يتجاوز طيبة الناس وحسن ضيافتهم، وخصوصاً عندما يعلمون أنك قادم من “الشام”. مرّ من هنا نظامٌ عائلي عشائري ومافيوي أيضاً، لا يزال اقتلاعه جارياً، الثورة لم تنته، هذا يوفر على السوريين الكثير من مشقات شرح الهموم.

في اليمن عبرٌ كثيرة للسوريين، ليس منها بالتأكيد الاقتداء بالحل اليمني لإنهاء المعضلة السورية. لكن أحدها أن تصغي بإنصات لأحد بلاطجة الأمس إن التقيته قرب ساحة التحرير، يحدثك عن حبّه لليمن، ولن تشكّ في ذلك للحظة، وستصدّقه أيضاً حين يتكلم بمرارة عن فرار الرئيس بأموال طائلة وبقاء آخرين ممن ركبوا قطار الثورة للمحافظة على أموالهم المكتنزة. من الأحاديث الشائقة في صنعاء مع الشباب المصممين على المضي قدماً في ثورتهم والحذرين من نصرٍ لا ينصف تضحياتهم، يتعلم السوري أيضاً أن المساومات وإن بدت حيناً ضرورية، يجب ألاّ تُغيّب العدالة، التي بدونها، سنخمد ناراً ونبقي جمرها مشتعلاً. تكاد تستشعر حرارة هذا الجمر في اليمن، وأنت ترى كيف بقي بعض زعماء الفساد من حلفاء الطاغية، يحرسون حصونهم وثرواتهم في اليمن حتى اللحظة.

مشاهد الحرمان ليست نادرة في صنعاء. في قرية متهالكة أعلى جبل في بيت بؤس بضواحي صنعاء، تصطدم بمناظر فقر مدقع. هناك من يقطن هذه البيوت المتهالكة المهجورة، وبين بقايا هذه البيوت، التقيتُ بمحسن، وهو رجل في عقده الرابع، يعيش وأسرته المعدمة هناك، يتقلد خنجراً ضخماً جداً. أخبرني بثقة العرّاف: “بشّار راحل”، لكنه طلب مني أن أقول للسوريين: “كونوا على قلبٍ واحد”. في صنعاء المُحاطة بتلال شيّد عليها الطاغية وأقرباؤه قصوراً  كالحصون، تطالعك على الجدران صورٌ تفطر القلوب، تخلد ذكرى معتقلين مغيبين من زمن الطاغية الراحل، مضى على اختفاء هؤلاء عقود. يعيد شباب الثورة تخليد ذكراهم اليوم عبر حملة “الجدران تتذكر وجوههم” في تأكيدٍ بديع لاستعادة ملكية الفضاء العام. الجدران في صنعاء اليوم دفاتر للتذكر والبوح ولنبش ألمٍ دفين. لم تعد جدران خوفٍ صماء وبليدة. تكاد مظاهر الفقر والبطالة تنجح في التعمية على ملامح التفاؤل بغدٍ أفضل بعد الثورة. المشكلات الهائلة، قد تدفعك لوهلة إلى اليأس. هناك الجنوب الذي يعلو فيه صوت الحراك الانفصالي، وهناك الحدود الشمالية حيث معضلة الحوثيين، فيما تدور حرب استنزاف مع “القاعدة” في بعض مناطق الجنوب. لكأن مشكلات الفقر والبطالة ومؤشرات التنمية المتدنية لا تكفي! يرث اليمنيون اليوم بلاداً عمل النظام البائد على إغراقها بالمشاكل الجهوية وعلى نهبها بصورة ممنهجة. تخلّف أنظمة الاستبداد وراءها تركاتٍ ثقيلة، ومن قبل فإنها تربط وجودها بلقمة العيش وبمصالح وتوافقات تحرص على أن تبقى هشة، وبتخويف الجماعات بعضها من البعض الآخر. يرى السوري هذا في اليمن كوجه عملة آخر لنظامه “الأستاذ” في هذا الحقل. من قلب الأوضاع الاقتصادية والسياسية القاتمة تتسرب بلا كلل عزيمة التغيير، وملامح روح متفائلة. حدث أن توقفتُ لأشتري الماء من صبي في الشارع، فسألته عن اسم جامع مهيب يلوح بالقرب منا، فأجابني بابتسامة عذبة “جامع المخلوع”، ثم مضى لمتابعة يومه الشاق.

في الحُديدة، التي يسمّيها صديق يمني “عاصمة البؤس”، يخالجك الشعور بأن الزمن توقف منذ عقود. ليست مظاهر شظف العيش الواضحة ولا الأعداد الكبيرة من المشردين الذين يفترشون الشاطئ هي وحدها التي تخبرك ذلك، وإنما بساطة الناس وعاداتهم المتحررة من كل قيود المدينية! في الحُديدة، لا يزال كبار السن يشيرون إلى جهة الشمال باسم طريق الشام، وإلى جهة الجنوب باسم طريق اليمن! في القسم الشمالي من المدينة هناك حارة الشوام، وبالطبع هناك القات الشامي. على جدران الحُديدة حرب شعارات طاحنة بين مؤيدي صالح ومعارضيه. لا يزال صالح يحظى بتأييد كبير في عاصمة البؤس، هناك شرائح واسعة في المدينة تعتقد أن الرئيس كان عازماً على تحسين الأوضاع الاقتصادية، وأن مزيداً من الفوضى وتردي الأوضاع الاقتصادية هو ما يحدث الآن. في أحد الأحاديث المتكررة مع مؤيدين لصالح، في مخزن لبيع العسل، غضب اثنان مني حين افترضت أنهما لا بد يناصبان الثورة السورية العداء، طالما أنهما فعلا ذلك في اليمن! أحدهما قال غاضباً: “عندكم غير، نظامكم مجرم”. ليس كل الطغاة سواسية إذاً!

في عُشة متهالكة على شاطئ البحر في الحُديدة، حيث يجتمع الرجال لتخزين القات لساعات طوال، كتسلية يتيمة في مكان يمر به الوقت متثاقلاً، لم يكن التغلب على بعض الفروق الثقافية أمراً مجهداً. أصعب ما في الأمر أن تقنع أحدهم وهو أُمّي، حادّ الذكاء، يخزّن القات بشكل مفرط، أننا في سوريا لم نكن نستطيع ذكر اسم القائد الرمز بسوء حتى في التاكسي، أو صالون الحلاقة، بل حتى في بعض الجلسات الخاصة. بقي الرجل غير مصدّق، واعتبرني أغالي في روايتي. حين أقنعه رفاقه بالتصديق، بدافع اللباقة أمام الضيف، فعل ذلك على مضض وهو يواصل التخزين.

في الحُديدة تبدو الصعوبات الاقتصادية، وقضايا التنمية والتعليم ومجابهة آفات اجتماعية مستعصية كالزواج المبكر، أكثر استفحالاً بما لا يقاس من صنعاء العاصمة. في المقابل تصادف شباناً مصممين على مواصلة العمل والكفاح لتحسين واقعهم. هناك مسحة تفاؤل حملتها الثورة لا يمكن نكرانها. هناك إحساس بالإنجاز، سيكون من العار حقاً إن تم سرقته. في طريقي إلى مطار الحُديدة الصغير، كان الوضع في سوريا كالعادة محور حديثي مع سائق الباص (وهو الاسم الذي يطلق على التاكسيات الصغيرة هناك). قالي لي: “الحقيقة أننا فوجئنا عندما رأينا الصور الآتية من سوريا”. أجبتُ بأنه محق لأن صور الدمار لا تحتمل. فقال مصححاً: “لم أقصد صور المآسي، قصدتُ صور الأحياء الهامشية والأرياف الفقيرة، اعتقدنا أن لا شيء من هذا موجود حقاً في سوريا”. أجبته: “هناك سوريون أيضاً لم يعلموا أن هذا موجود”. قال ضاحكاً:” تحيا الثورات لتفضح المستور وتقرّب الناس بعضهم من بعض رغماً عنهم”. ثم ودّعني بدفء يشبه كل ما قابلني في اليمن.

كاتب سوري

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى