صفحات الناس

يوميات شاعر ينقذ ضحايا الحصار في حلب  

 

 

نشرت صحيفة غارديان البريطانية ما دوّنه الشاعر والناشط السوري محمود رشواني عن تفاصيل الحياة تحت الحصار وقبله في حلب، حيث يصور فرحة الناس بهجوم الثوار وكسرهم حصار المدينة. وتاليا ما يقوله رشواني الذي عمل منقذا ينتشل الضحايا من تحت الأنقاض:

طوال الشهر الماضي لم أكن بحاجة لضبط المنبه لإيقاظي في الصباح، لأن المقاتلات الروسية والسورية تقوم بذلك بدلا عني. استيقظ كل صباح في السابعة تماما على صوت صاروخ أو برميل متفجر. واعتدت على صوت التفجيرات حتى أصبحت لا تقلق نومي.

افتقدت متعة الاستيقاظ ببطء صباحا والبدء بالنظر إلى صورة زوجتي وطفلتنا زارا التي ألصقتها على الحائط أكثر من أي شيء آخر. توجب عليَّ القفز من سرير النوم كل يوم والإسراع إلى موقع آخر هجوم للمساعدة في أعمال الإنقاذ.

أصبحت خبيرا في انتشال الضحايا من تحت الأنقاض، وفي تمييز العمق الذي توجد به الضحية المدفونة من صوت الصراخ.

القوة التي يحضنني بها الضحايا الأطفال بعد إنقاذهم من تحت خراب منازلهم لن تنمحي من ذاكرتي أبدا، كما لا أستطيع تنظيف قمصاني من دمائهم التي علقت بها. وبدأت زوجتي تتساءل عن السبب وراء شرائي عشرة قمصان كلما أزورهم في تركيا. أقول لها “لقد فقدت قمصاني القديمة” حتى لا تفزع، خاصة أنها عندما ولدت زارا قبل ستة أشهر أصحبت عالية الحساسية تجاه كل ما يتعلق بالأطفال.

استعادة الجثث

أعود إلى منزلي كل يوم في التاسعة مساء، اغتسل وأحاول إدراك ما حدث خلال اليوم وما فعلته. ملامح الأجساد التي أخرجتها من تحت الركام مطبوعة في ذهني، والرعب الذي يلف أولئك المنتظرين ليعرفوا ما إن كان أحبابهم سيُنقذون أحياء، أو على الأقل ستتم استعادة جثثهم كاملة قطعة واحدة. فكثير من الجثث تتقطع وتتبعثر أو تحترق.

بعد إحدى الغارات وجدت امرأة تحتضن ساق بنت شابة، مجرد ساق، وتصرخ “وجدتها، إنها ساق بنتي. لن أتركها، إنها ساقها”.

ولكي أهزم اليأس الذي يتسرب إلى شقتي، أقوم بالاتصال بزارا التي تبعد عني 90 كلم، لكنني لا أستطيع رؤيتها إلا على الشاشة الصغيرة المسطحة، وأنا على يقين أنها لا تستطيع التمييز بين رؤيتها لي ورؤيتها للعب الصغيرة التي تتقافز على سريرها. فأنا بالنسبة لها مجرد شكل يتأرجح تراه على حاسوب أمها لدقيقتين قبل أن تفقد اهتمامها وتبتعد بنظرها عنه.

زارا بدأت تتحرك بجسدها وتتململ على المهد. افتقدتها وافتقدت رؤية تناولها وجبتها الصباحية، ولو استمر الحصار سأفتقد كل بداياتها، حبوها وخطواتها الأولى وأولى كلماتها. أنا الذي نجوت من كل شيء خلال السنوات الخمس الماضية سيقتلني فقدان هذه الأشياء الحميمة.

أُصبت بجروح مرة أخرى الشهر الماضي عندما سقط صاروخ روسي على بعد 20 مترا من سيارتي. لم أشعر بشيء إلا بتحوّل العالم فجأة إلى لون أبيض، إلى حد فقداني السمع والنظر. واحتجت لبضع دقائق لتبيُن مكاني وما جرى.

أخيرا جاء شخص ما وكسر باب السيارة لإخراجي. منقذ سابق يحتاج لمن ينقذه الآن. لا أستطيع إنقاذ نفسي، وذلك لأنني في صدمة، ولأنني لا زلت أعاني من إصابة سابقة في كتفي.

إذلال مفرط

قبل خمس سنوات، في الجزء الآخر من حلب، حيث أنتمي، اعتقلتني قوات الأمن وضربتني ضربا مبرحا وأطلقت الرصاص على رجليّ عدة مرات. وارتميت عاجزا على الأرض عندما وضع ضابط يُدعى علاء رجله بجزمته على رأسي وبدأ يطحنه على الأرض ويلعن كل فرد من أسرتي، ويتهمني بالخيانة لمشاركتي في الاحتجاجات السلمية ضد النظام.

بعد ذلك سمعت أحدهم يقول: “علاء. لا تقتله. نرغب في الاستمتاع بتعذيبه”. أنقذ ذلك الصوت حياتي.

مؤخرا كنت أعمل على بعض المشروعات لمساعدة المدنيين المحاصرين على البقاء لأطول فترة ممكنة، خاصة الزراعة المنزلية الصغيرة. استشرنا الأصدقاء الذين أصبحوا “خبراء حصارات” بعد سنوات من حصارهم وعزلهم الكامل في داريا والغوطة الشرقية. وكانت نصيحتهم الأولى هي الزراعة. وقد كان. اشترينا كثيرا من الآنية وزرعنا فيها الطماطم والباذنجان واليقطين مما حصلنا عليه من المجلس المحلي. ونصحنا أكبر عدد من الجيران والمنظمات الناشطة بالزراعة المنزلية.

أستغرب سماع أن الروس يقترحون “ممرات إنسانية” لإخراجنا نحن المدنيين من الحصار، لأن المناطق التي ظلوا يقصفونها بشدة أكثر من غيرها هي التي اختاروها لتكون ممرات للهروب.

كسر الحصار

وعندما أعلن الثوار هجومهم لكسر حصار حلب، لم نصدق. ونزل كل من أعرفه إلى الشارع فردا فردا يسألون عما يمكن أن يساعدوا به الثوار. بدأ البعض يجمع الإطارات المستعملة لإحراقها على أسطح البنايات وفي الطرقات لإطلاق ما يكفي من الدخان للتعتيم على طائرات الموت الروسية والسورية.

وحوّل الأطفال ذلك إلى لعب. وشرعوا في التسابق بالطرقات يطلبون من الأهالي إعطاءهم المزيد من الإطارات. الأطفال سعيدون بخروجهم مرة أخرى من المنازل بعد أيام من القصف الكثيف وبعد أوامر آبائهم ومدرسيهم بالبقاء تحت الأرض.

كنت أقوم بتوزيع صناديق الشتلات على الأهالي، وعندما عدت أعطيت الأطفال -من فرط فرحتي بهجوم الثوار- إطارين لم أتذكر أنهما جديدان وغير مستعملين، اشتريتهما لسيارتي بثلاثمئة دولار.

وطوال أسبوع الهجوم لكسر الحصار لم ينم الناس، وظلت الشوارع مكتظة بحشود الناس كل ليلة وكأنها تعيش عيدا. وأخيرا أعلنوا أنهم كسروا الحصار. شعرت بذلك الفرح الذي غمرني عندما فتح السجان باب زنزانتي قبل خمسة أعوام وقال لي :”اخرج. أنت الآن حر”.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى