صفحات المستقبل

يوم في زنزانة ….. ( 1


كنت قد نسيتُ ملامح وجهي .. ليس لطول المدة أو قصرها دور – بالنسبة ليّ على الأقل … لكنني أبداً لم أكن أتوقع بأنني سأنسى ملامح وجهي بهذه السرعة . بالتأكيد أتذكر ملامح جميع من سُجنوا معي و بأدق تفاصيلها .. و كذلك زوايا الزنزانة الفارغة إلاّ من  عبوات ماء فارغة مصنوعة من البلاستك , المصفوفة بعناية بجانب باب دورة المياه ذات الكوة الصغيرة و الوحيدة لها المتعلقة ببابها و المطلة إلى داخل الزنزانة و ليس إلى خارجها .

قام أحد المعتقلين بتعبئة إحداها بالماء و جعلها وسادة له على أرضية الزنزانة العارية إلاّ من حرارتها الشديدة … و حذا الجميع حذوه و كانت هذه أول اختراعات السجن الإبداعية … الوسادة المائية على فراش خرساني قام

السّجان بإختراعه منذ سجنه الأول في تاريخ البشر .

كانت أقصى أمنيات … أربع أشياء …  نسمة هواء باردة عليلة … تهبّ علينا من النوافذ الصغيرة المصممة أصلاً لعدم دخولها … و جرعة ماء بارد .. فمن خبرني يعرف كمّ أعشق الماء البارد حتى في عمق الشتاء … و فنجان قهوة من يد زوجتي العروس التي لم تكمل معيّ شهر زواجها الثاني … و حمامٌ ساخن أزيل به وعثاء ليلتي الأولى في مضافة الحرية هذه . لم يكن خروجي من بين تلك الأماني و هذا ما أثار إندهاشي … كانت جّل رغباتي ما ذكرته آنفا … و

فقط . أما الغالبية من الرفقة فقد زادوا عليها رغبة واحدة فقط .. لفافة من التبغ .. و كوب من الشاي الساخن بدل القهوة … التي أردتها .

لم أشعر يوماً بأنني حراً كما الآن , و أنا مكّوم بداخل الزنزانة العارية … برفقة باقة من شباب بأعمار مختلفة .. منهم من كان يكبرني بقليل , أو يصغرني بقليل أو بكثير … سقطت العشيرة هنا و للمرة الأولى في هذا البلد و سقط الإنتماء للحيّ و الشارع و للدين و التحصيل الثقافي و المرتبة العلمية ..  و البحبوحة المادية … جميعها سقط في هذه الزنزانة الضيقة بمساحتها .. الشاسعة بحنانها للفيف أبناءها الأحرار .. ليبقى الإنتماء للوطن الواحد بجميع أبناءه عالياً شامخاً .. أراد أن يتجاوز عِنان السماء

سقطت كل الأشياء من حولي و بقيّ شيء واحد متلألأ بعنفوان بجانب مصباح الإنارة الكئيب المتدلى من السقف الفَرِح بشرفٍ بإستضافة أبناءه القادمين من صراخ الحرية الأحمر المرمي بفوضى في شوارع مدينة الرقة العتيقة …

لم أكنّ سعيداً يوماً .. كما كنت مع هذه اللمّة الجميلة  من أبناء الحيّ الذي أسكنه .. و من مفارقات القدر معظم أبناء الزنزانة الذين التقيتهم هم جيران ليّ منذ قديم الحيّ و الزمان و التقيتهم للمرة الأولى في زنزانة الشرف هذه … لكننا كنّا كما التاريخ في عراقته و كما قصائد الحبّ و الوفاء التي أنجبتها صحراء العرب الخالدة على مرّ العصور و الأزمان …

زاد سعادتي .. بوجود زميل دراسة قديم ليّ .. تذكرته و لم يتذكرني … و آخر .. تذكرني و تذكرته … ثلاثة .. كنّا .. المرة الأخيرة التي التقينا فيها كانت منذ ما يقارب العشرين عاماً … هنا نحن الآن … ليكتمل العقد جمالاً بإنضمام طبيب و طالب طب … فأرقص يا يا وطن فرحاً بأبناء زنزانة من جموع زنازين كاد تفوق عدد صفوف مدارس الوطن .

تقاسمنا .. بفرح و إيثار ( صندويشة ) الفلافل مما جاد به أهل بعضنا .. و كذلك الماء البادر الذي يجود به السّجان بين الحين و الآخر علينا … أما الفرح العارم … فلم نتقاسمه … تركناه كما هو … نستحم به جميعاً كل يوم .. دون أن ننقص منه شيء … و ما زاد منه في جنبات الزنزانة … كنّا نتوضأ به … قبل صلاة الأمل و بعد فرض الحرية …. و حيّ على الحرية … الله أكبر

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. “و ما زاد منه في جنبات الزنزانة … كنّا نتوضأ به … قبل صلاة الأمل و بعد فرض الحرية …. و حيّ على الحرية … الله أكبر”

    الله يتقبل … والحمد لله ع السلامة .. وأرجو لك حياة سعيدة مع عروستك …وشكراً للمقال الجميل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى