صفحات الرأي

الصين والشرق الأوسط: ملامح مقاربة جديدة


 عزت شحرور

إن الصينيين عادة ما يخلطون بين الإسلام كدين والعروبة كقومية، ويعتبرون إيران دولة عربية وأن خلافاتها مع جوارها الإقليمي تعود في مجملها إلى خلافات ذات جذور دينية (الجزيرة)

إن استعمال الصين للفيتو في المسألة السورية يشي بأنها لم تعد في حاجة إلى مسك العصا من منتصفها. فهي لم تعد تحرص كثيرًا على إرضاء الجميع وعدم إغضاب أحد، ولم تعد بحاجة ماسة إلى دول صغيرة لكسب أصواتها في الأمم المتحدة ضد تايوان، أو لانتقاد سجلها في حقوق الإنسان، لقد تم الاعتراف بها قوة دولية ناهضة بعد أن فرضت نفسها كقوة اقتصادية كبرى، واكتسبت مزيدًا من الثقة بالنفس. لقد تغيرت مصالحها الإستراتيجية، وتغيرت معها علاقتها بالقوى الكبرى، وبالتالي لابد أن يفرض ذلك تغيرًا في سياساتها وفي سلوكها الدبلوماسي.

بعبارة أخرى باتت الصين على أعتاب مرحلة جديدة من التحول الجيوسياسي والإستراتيجي، ووضع قواعد جديدة في تعاملها مع القوى الكبرى وإبراز حضورها على المسرح الإقليمي والدولي، لاسيما في الشرق الأوسط الذي يضم المنطقة العربية وإيران بحسب المنظار الصيني.

“الشرق الأوسط” في الإستراتيجية الصينية

تميل الصين عادة لاستخدام مصطلح “غرب آسيا وشمال إفريقيا” كبديل عن مصطلح “الشرق الأوسط” لتعريف تلك المنطقة، ووفق هذا التقسيم الجغرافي تقوم بهيكلة مؤسساتها الحكومية والحزبية المعنية بإدارة العلاقات مع دول المنطقة. ومن المعروف أن الصينيين بمجملهم -بمن فيهم أيضًا بعض المسؤولين الحزبيين والحكوميين- لا يفرّقون كثيرًا بين القوميات والشعوب والملل والنحل في تلك المنطقة، بل عادة ما يخلط كثير منهم بين الإسلام كدين والعروبة كقومية، ويعتبرون إيران دولة عربية وأن خلافاتها مع جوارها الإقليمي تعود في مجملها إلى خلافات ذات جذور دينية.

على الرغم من العلاقات التاريخية الموغلة في القدم والتي تعود لعدة قرون خلت، إلا أن منطقة “الشرق الأوسط” لم تكن يومًا ما محور اهتمام في الإستراتيجية الصينية كما هي عليه اليوم، كما أن دول المنطقة من جانبها لم تنظر إلى الصين كلاعب دولي يمكن الاعتماد عليه، فقد ظل الدور الصيني محدودًا وهامشيًا يقتصر على التبادلات التجارية والثقافية، ولم تسعَ بكين إلى وجود فعلي أو إلى إقامة مناطق نفوذ لها في المنطقة أسوة بالقوى الدولية الأخرى.

كانت الصين دائمًا تنظر إلى الشرق الأوسط بثرواته وموقعه الإستراتيجي باعتباره “منطقة تشابك” في الصراع المحتدم والمتواصل بين القوى الدولية المتنافسة على مناطق النفوذ، وترى أن حسم الصراع لصالح أية قوة دولية سيتحدد في رمال هذه المنطقة الملتهبة.

بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، ظل اهتمام الصين في المنطقة منصبًّا على البحث عن شرعيتها وتوسيع دائرة الاعتراف الدبلوماسي بها في منطقة كانت معظم دولها تعترف بتايوان؛ لهذا ركزت الدبلوماسية الصينية في بداياتها على محاولة الدخول إلى المنظقة من بوابة الوقوف إلى جانب حركات التحرر الوطني، والسعي للحؤول دون خضوع المنطقة لهيمنة شاملة من قبل القوى الخارجية. وظل السلوك الصيني يقوم على أسس “المبادئ الخمسة للتعايش السلمي” التي أطلقها الزعيم الراحل شوان لاي، وظلّت بكين متمسكة بشعار “مشاكل الشرق الأوسط  يجب أن تُحل عن طريق شعوب المنطقة وبعيدًا عن أية تدخلات خارجية”.

لم يرق مفهوم “الأمن القومي الصيني” إلى درجة “حماية المصالح” وظل محكومًا لعدة عقود منذ تأسيس الجمهورية بقناعة راسخة تقتصر على “حماية الحدود” أو ما يُطلق عليه نظرية “سور الصين العظيم”، وهو كناية عن التقوقع داخل الحدود والانكفاء عن لعب أي دور حيوي خارج هذه الأسوار. لكن مع التطورات الأخيرة يبدو أن الصين شرعت بتوسيع رؤيتها لمفهوم الأمن القومي آخذة بالاعتبار النمو المتسارع لاقتصادها، واتساع رقعة المصالح الصينية في الخارج، وبروز “أمن الطاقة” كأحد أهم مرتكزات الأمن القومي الذي يضمن استمرار عجلة الاقتصاد الصيني بالدوران. وتبعًا لذلك يبدو أن اهتمام الصين بمنطقة الشرق الأوسط سيكون أكبر من السابق -لكن دون الانخراط الفاعل في قضاياها مراعاة للأسس التي تحكم سياستها الخارجية- لأنها أهم مصدر من مصادر الطاقة في العالم كما أنها أحد أهم الأسواق الاستهلاكية. ويمكن القول حاليًا: إن ميزان التبادل التجاري مع أية دولة هو المقياس الوحيد لمستوى تطور العلاقات مع الآخرين من وجهة النظر الصينية، وقد هيمنت العلاقات الاقتصادية على معظم تحركات الصين وسلوكها الدبلوماسي في منطقة الشرق الأوسط في تأكيد على تصدر هذه العلاقة أولويات صنّاع القرار في الصين.

كانت بكين إذا ما اضطرت تحت وطأة ظروف إقليمية أو دولية ضاغطة لتحديد موقف واضح، تقوم بذلك وفق خطوات حذرة وقلقة ومرتبكة، أو تصر على التموضع في المنطقة الرمادية والتمسك بدعوة الأطراف المعنية بأية أزمة إلى الحوار والتفاوض دون الخوض بأية تفاصيل أو تقديم أية مبادرات؛ فالمنطقة -وفق الرؤية الصينية- تعج بالمتناقضات الدينية والعرقية وبؤرة خطرة في الصراع والتنافس الدولي، واللعب فيها محفوف بالتحديات والمخاطر ويحتاج إلى الكثير من الأدوات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والثقافية والإعلامية التي لم تمتلكها بكين بعد، وإن امتلكت بعضها فإنها لا تجيد استخدامها بمهارة كافية.

الصين وأميركا: شركاء

لم تحاول الصين في أي وقت من الأوقات منافسة اللاعبين الرئيسيين في المنطقة وكانت تقر بمحدودية دورها أو تتهرب من القيام به. نعم حاولت في فترات مختلفة عرقلة نفوذ بعض القوى الدولية في المنطقة واللافت أنها كانت أكثر صلابة في مقاومة النفوذ السوفيتي منها في مقاومة النفوذ الأميركي، وذلك في ذروة “توهجها الثوري”؛ حتى إنها نسجت علاقات في ذلك الحين مع أكثر الأنظمة عداء للشيوعية وقربًا من واشنطن، كعلاقتها المميزة مع نظام الشاه في إيران والنميري في السودان وسياد بري في الصومال، ومع اليمن الشمالي في مواجهة اليمن الجنوبي القريب من السوفيت، بل إنها ذهبت إلى حد اعتبار السادات بطلاً قوميًا حرر بلاده من النفوذ الأجنبي عندما قرر طرد الخبراء السوفييت والانفتاح على واشنطن.

وهنا لابد من الإشارة إلى معادلة تغيب أحيانًا عن أعين المراقبين وهي عدم وجود فروقات جوهرية كبيرة بين الرؤية الصينية والرؤية الأميركية لقضايا المنطقة؛ فالصين وقفت ولا تزال إلى جانب واشنطن في حربها على ما يسمى بالإرهاب، ولم تعارض بشدة الاحتلال الأميركي للعراق واعترفت مباشرة بنتائجه وإفرازاته، وساهمت إلى حد كبير في مشاريع إعادة الإعمار.

وفي الصراع العربي-الاسرائيلي فإنها تعتبر التفاوض هو الحل الوحيد وتؤيد تسوية تفاوضية تتفق عليها الأطراف المعنية، ورفضت التوقيع على وثيقة تعتبر القدس عاصمة للدولة الفلسطينية في مؤتمر التعاون العربي-الصيني في مدينة تيانجين عام 2010 ما اعتُبر تنصلاً من مواقف سابقة. كما رفضت الاعتراف بحكومة حماس بعد فوزها بالانتخابات، وسارعت إلى المساهمة بإرسال قوات إلى خليج عدن لمكافحة القرصنة، كما أنها تتوافق من حيث المبدأ مع واشنطن في موضوع الملف النووي الإيراني بالحيلولة دون تمكين طهران من حيازة السلاح النووي. واستجابت بكين مؤخرًا -بسلاسة نسبية- للضغوط الأميركية وقلّلت من اعتمادها على النفط الإيراني بزيادة وارداتها من دول الخليج نزولاً عند رغبة واشنطن.

إذًا وباختصار، إن سياسة بكين تجاه الشرق الأوسط خلال السنوات السابقة كانت تتجه إلى التعاون مع واشنطن وليس إلى التصادم معها أو حتى منافستها، وإن الكثير من مواقفها لم تخرج عن الإطار التكتيكي ولم تدخل في الإطار الإستراتيجي.

القلق الصيني من واشنطن

لوحظ في مراحل لاحقة أن الصين تسعى إلى زيادة التورط الأميركي في قضايا المنطقة بشكل مباشر والتخبط أكثر في وحولها ورمالها، بل والعمل على إطالة أمد هذا التورط قدر المستطاع لكسب مزيد من الوقت لبناء قدراتها الذاتية بعيدًا عن “نكد الأميركيين وتدخلهم في شؤونها الداخلية”.

غير أن قرار الرئيس أوباما بالانسحاب من العراق وإعلانه عن إستراتيجيته الجديدة بالتحول إلى الاهتمام بمنطقة آسيا والمحيط الهادئ واعتبارها على رأس أولويات الإستراتيجية الأميركية، أثار قلقًا وهواجس دفينة وكبيرة لدى بكين، وقلب حساباتها وفرض عليها إعادة النظر هي أيضًا في تغيير رؤيتها الإستراتيجية لتتوافق مع التحديات القادمة والمتسارعة والتي تشاركها موسكو في بعض منها.

ويأتي هذا في وقت يزداد فيه الخناق على بكين في محيطها الإقليمي بشكل غير مسبوق (علاقاتها مع معظم دول الجوار في أسوأ أحوالها منذ عقود، كعلاقتها مع اليابان وفيتنام والفلبين والهند وأستراليا وكوريا الجنوبية وتايلاند، وحتى مع حلفاء تقليديين كبورما) فضلاً عن الرحيل المفاجئ للزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ إيل، ثم هناك عودة التوتر إلى مناطق وجزر متنازع عليها في بحري الصين الشرقي والجنوبي في ظل دعوات لإيجاد آلية دولية لحل قضية جزر سبارتلي المتنازع عليها. ناهيك عن تحديات الأمن والاستقرار الاجتماعي في الوضع الداخلي الصيني حيث تزداد حالات التظاهر والاحتجاج والتي سجلت خلال العام الماضي أكثر من مائة ألف حالة كان آخرها الأحداث الدامية في بلدة “وو كانغ” في إقليم غوانغ دونغ جنوب الصين، احتجاجًا على انعدام العدالة الاجتماعية وتفشي الفساد والبطالة واتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء، إضافة إلى التوترات العرقية في عدة أقاليم كالتبت وسينكيانج (تركستان الشرقية).

وجميع ذلك يشكِّل تحديات حقيقية أمام الصين في مرحلة حرجة ودقيقة، وهي على أعتاب نقل للسلطة إلى جيل قيادي جديد يتميز باحتدام الصراع بين مراكز القوى والنفوذ داخل الحزب حتى يتم حسمه في المؤتمر العام للحزب في أكتوبر/تشرين الأول القادم. كل تلك الأسباب مجتمعة أدت إلى تحديد هامش المناورة أمام بكين ووضعتها في زاوية تفرض عليها البحث عن آفاق جديدة، وكذلك الاصطفاف إلى جانب قوى كبرى تشاركها القلق وتتفق معها بالتكتيك، وإن اختلفت معها بالإستراتيجية. وهذا ربما ما يفسر اصطفافها إلى جانب موسكو في مجلس الأمن في قضية على درجة من الأهمية الإستراتيجية والجيوسياسية بالنسبة لروسيا ألا وهي الشأن السوري، على أمل أن ترد موسكو الجميل وتقف إلى جانب بكين في قضايا تحظى بنفس القدر من الأهمية الإستراتيجية والجيوسياسية بالنسبة للصين، وهي قضايا ملحّة وقادمة لا محالة وربما في وقت قريب.

إيران في الإستراتيجية الصينية

يعود التاريخ المكتوب للعلاقات الصينية-الإيرانية (الفارسية) إلى نحو ألفين وخمسمائة عام. وتحديدًا إلى القرن الثاني قبل الميلاد، واستمرت تلك العلاقات بالنمو في إطارها التجاري والحضاري من خلال طريقي الحرير البري والبحري. وتعتبر هذه العلاقات بين هاتين القوتين الحضاريتين الآسيويتين والتي لم تشهد أية مواجهات عسكرية على مدار التاريخ من أكثر العلاقات رسوخًا واستقرارًا واستمرارية، إلاّ أنها لم تشهد كذلك تأثرًا وتأثيرًا فكريًا أو لقاحًا حضاريًا يُذكر، وربما يعود ذلك إلى النزعة القومية القوية لدى كل منهما، بالإضافة إلى البعد المكاني والطبيعة الجغرافية الوعرة التي تفصل بينهما.

ومع تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949 احتفظت الصين بعلاقات طيبة مع نظام الشاه. وكانت بكين تستعد لاستقباله في زيارة تاريخية ببناء سفارة ضخمة على الطراز الفارسي شُيدت خصيصًا ليفتتحها الشاه خلال زيارته التاريخية إلى بكين لولا ثورة الخميني (عام 1979) التي أطاحت بنظامه وألغت الزيارة. ومن الجدير بالذكر أن الصين وقفت موقفًا بدا أقرب إلى جانب الشاه وسلبيًا تجاه الثورة؛ إذ اعتبرتها “اضطرابات وأعمال تخريب تحركها أياد خارجية سوداء” -وهو موقف شبيه إلى حد كبير بمواقف الصين الحالية تجاه ثورات الربيع العربي- لكن سرعان ما استطاعت بكين تجاوز تلك المرحلة واستئناف علاقات طيبة مع نظام الثورة بعد انتصارها، وذلك على الرغم من الاختلافات الأيديولوجية والعقائدية بين الجانبين -وبالمناسبة تحاول الصين تكرار السيناريو نفسه مع الأنظمة التي أنتجتها وتنتجها الثورات العربية الحالية.

وعلى أي حال فقد وجدت طهران التي طرحت شعار “لا شرقية ولا غربية” نفسها أمام ضرورة الانفتاح على خيار ثالث شكّلت الصين نموذجه الأمثل. وبالمقابل فإن بكين التي كانت لا تزال ترفع لواء معارضة هيمنة أي من القوتين العظميين في ذلك الحين (الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة) على أي من مناطق الاشتباك والنفوذ بينهما والتي كان الشرق الأوسط يُعتبر محورها الأبرز -وفق الرؤية الصينية- فإن بكين اختارت أن تفتح أبوابها أمام الثورة الإيرانية الوليدة. ولقد عزز ذلك شعور الجانبين بتشابه كبير في ظروفهما النفسية والتكوينية المشتركة كالكتمان الشديد والعمل بسرية مطلقة، والصبر اللامحدود ( صناعة السجاد والمنمنمات والفنون اليدوية الدقيقة) وانعدام الثقة بالمحيط، والإحساس الدائم بالاستهداف والتآمر عليهما من الآخرين، ونزعة التعصب القومي. وكذلك حديثًا باعتبارهما إفرازين لثورتين راديكاليتين وعلى درجة كبيرة من الحساسية تجاه الغرب ناتجة عن عقود من الاحتلال والعقوبات والحصار والتدخل في شؤونهما الداخلية، بالإضافة إلى نزوعهما لإحياء وبعث ماض مجيد.

ومع نشوب الحرب العراقية-الإيرانية سرعان ما شهدت العلاقات بين بكين وطهران نموًا متسارعًا وشكّلت الصين مصدرًا مهمًا وأساسيًا لتسليح طهران في حربها مع بغداد التي استمرت ثمانية أعوام. واعتبرت مبيعات الأسلحة عنصرًا مهمًا في العلاقات بينهما؛ فقد قُدِّر حجم صفقات السلاح التي وفرتها الصين وحليفتها كوريا الشمالية نهاية ثمانينيات القرن الماضي بحوالي 70% من احتياجات إيران. والتي أدت إلى قيام صدام حسين بقطع علاقاته الدبلوماسية مع بيونغ يانغ. وفي نفس الوقت حاولت بكين من خلال موقفها الرسمي المعلن من الحرب أن تبدو كعادتها أنها تقف على الحياد وعلى مسافة متساوية من الجانبين المتنازعين، بمطالبتها إياهما وقف الحرب وتسوية النزاعات عبر الحوار والتفاوض، ومعارضة أي تدخل للقوى العظمى، وعدم توسيع رقعة الصراع بما يهدد الأمن والاستقرار في منطقة الخليج.

مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، وخضوع العراق لسنوات الحصار الدولي ومن ثَمَّ الحروب التي شهدتها منطقة الخليج؛ فإن تلك الفترة وما رافقها من ظروف موضوعية فرضتها المصلحة المشتركة، ومعاناة الجانبين الصيني والإيراني من عزلة سياسية وعقوبات دولية شكّلت فرصة ذهبية أمامهما لتطوير وازدهار العلاقات بينهما بشكل غير مسبوق، وبدخول قوي للشركات الصينية إلى إيران للمساهمة في إعادة الإعمار ومشاريع البنية التحتية التي دمرتها الحرب. وكذلك مساعدة إيران في إعادة بناء صناعاتها العسكرية وتطويرها.

كانت بكين في ذلك الحين قد خضعت لعزلة سياسية دولية وعقوبات أوروبية وأميركية مماثلة في أعقاب أحداث ميدان تيان آن مين عام 1989. ولم تكن بكين حتى ذلك الوقت تقيم علاقات دبلوماسية مع معظم دول الخليج. وكانت المملكة العربية السعودية هي آخر دول الخليج التي تعترف بالصين وتقيم معها علاقات دبلوماسية عام 1990. وحتى ذلك الحين لم يكن النفط بعد يشكِّل أولوية و أهمية كبرى في علاقات الصين الدولية.

شكَّل التعاون النووي عنصرًا جديدًا من عناصر التعاون بين الجانبين في التسعينيات، واعتُبرت بكين الشريك النووي الرئيسي لطهران عام 1997. لكن سرعان ما تخلّت بكين عن ذلك تحت وطأة ضغوط أميركية، وانتقل التعاون الإيراني إلى بيونغ يانغ تحت عيون صينية. لكن بكين ظلت ملتزمة بالدفاع عن البرنامج النووي الإيراني في مجلس الأمن والمنظمات الدولية طالما كانت طهران تؤكد على سلميته وبقائها في إطار معاهدة الحد من الانتشار النووي. ونجحت بكين عدة مرات بالحيلولة دون إحالة الملف إلى مجلس الأمن وإبقائه في إطار الوكالة الدولية للطاقة الذرية دون أن تضطر إلى استخدام الفيتو.

مع تنامي الأهمية الجيوستراتيجية لدول آسيا الوسطى سعت موسكو وبكين إلى تأسيس “منظمة تعاون شنغهاي”، وسرعان ما أصبحت إيران عضوًا مراقبًا فيها عام 2005 لكن العقوبات المفروضة على طهران تحول دون انضمامها كعضو كامل وفق دستور المنظمة. وعلى جميع الأحوال فإن الصين ترى في تنامي الدور والنفوذ الإيراني في منطقتي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى تقاطعًا مفيدًا لأجندتها الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية.

مع تصاعد حدة الضغوط الدولية على إيران بدأت العقوبات الاقتصادية تؤتي أكلها، خاصة العقوبات تجاه البنك المركزي الإيراني، وفقدت العملة الإيرانية نسبة كبيرة من قيمتها، وازدادت معاناة الشركات الصينية والتي شمل بعضها تلك العقوبات واضطرت أخرى إلى تجميد مشاريعها أو إلى الانسحاب.كما اضطرت الصين إلى تقليص وارداتها من النفط الإيراني بنحو 290 ألف برميل يوميًا خلال شهر يناير/كانون الثاني الماضي فقط. ودخل الجانبان الصيني والإيراني في خلافات حول تسعير النفط وحول كيفية دفع فواتير كبيرة سابقة.

ولقد أثارت التصريحات الإيرانية حول إغلاق مضيق هرمز هلعًا صينيًا جعل بكين تسارع إلى إيفاد نائب وزير خارجيتها إلى طهران للتحذير من مغبة القيام بخطوة كهذه.

الرؤية الصينية والتحولات الراهنة

إن التحولات في المشهد الدولي وازدياد حدة التنافس بين القوى الدولية من جهة وتشابك علاقاتها وتعقيداتها من جهة أخرى، وفي ظل التحديات الداخلية والإقليمية والدولية أمام الصين، وبانتظار تشكل القيادة الصينية الجديدة في العام القادم، وبالنظر إلى التحولات الكبيرة التي أفرزتها ثورات الربيع العربي في المنطقة ومواقف الصين تجاهها خاصة مع بروز الإسلام السياسي كقوة مهمة في المشهد وما يعنيه ذلك من تنامي القلق لدى بكين والذي عبّرت عنه معظم وسائل الإعلام الصينية، كل ذلك لن يؤدي إلى تغيرات جذرية وجوهرية على سياسة الصين تجاه المنطقة وقضاياها، لكنها بالتأكيد ستحتاج إلى إعادة صياغة خطابها السياسي ليكون أكثر وضوحًا وربما تضطر بكين إلى الخروج أحيانًا من المنطقة الرمادية إذا دعت الحاجة، بما يتلائم مع التطورات الجارية؛ فالوقت الذي كانت بكين تقيس مواقفها وفقه تجاه مجمل قضايا المنطقة تحت سقف الموقف المصري أو موقف ما كان يُسمَّى بدول الاعتدال قد تغير أو أنه في طور التغير.

إن أمن الطاقة من حيث المصادر وطرق الإمداد سيظل المحرك الرئيسي للسياسة الصينية تجاه المنطقة، ولهذا فإنها لا يمكنها أن تتخلى تمامًا عن النفط الإيراني وتضع كل بيضها في سلة دول الخليج لأنها تدرك أن دول الخليج ستكون أكثر تكيفًا مع المطالب الأميركية عندما تستدعي الظروف. وهي كذلك لا يمكن أن تعتمد بشكل كامل على النفط الروسي حتى وإن نجحت بمد أنابيب بين الجانبين؛ وذلك لأسباب إستراتيجية.

قد تسعى الصين إلى تعزيز حضورها في القطاعات الإنتاجية للنفط في مناطق مختلفة معتمدة في ذلك على أسعارها التنافسية وشروطها المقبولة بشكل أكثر من الشركات الغربية. كما أنها من المتوقع أن تواصل السعي لوجودها العسكري من خلال زيادة قواتها المشاركة في عمليات حفظ السلام أو مكافحة القرصنة، وفي نفس الوقت السعي لإيجاد قواعد عسكرية لحماية إمدادتها النفطية. وقد بدأت بالفعل مفاوضات مع باكستان وأخرى مع سيشل* في الوقت الذي تقوم فيه بتطوير قدراتها البحرية وبناء حاملة طائرات.

أما فيما يخص إيران فمن المتوقع أن تحاول الصين مواصلة الضغط على طهران لإبداء مرونة أكبر في التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومواصلة التنسيق والتقارب مع موسكو للحيلولة دون وقوع حرب كارثية، أو إلى تأجيل وقوعها ومحدوديتها.

ولعل مقارنة علاقة بكين مع طهران بعلاقتها مع إسلام أباد يوضح بشكل أكبر موقع إيران في رؤية الصين الإستراتيجية؛ حيث لم تصل العلاقات الصينية-الإيرانية إلى درجة التحالف أو حتى إلى درجة اعتبارها “ربيع في كل الفصول” كما توصف العلاقات الصينية-الباكستانية. وذلك أمر موضوعي تفرضه أسباب كثيرة منها أن الدبلوماسية الصينية لا تزال ترفض مبدأ التحالفات في علاقاتها الدولية باستثناء بعض العلاقات التي تُعتبر “فوق طبيعية” مع بعض الدول التي تمليها ضرورات إستراتيجية تاريخية وجغرافية كالعلاقة مع كوريا الشمالية، وكذلك وإن بدرجة أقل مع باكستان. بالإضافة إلى أن إيران ليس لها حدود مشتركة مع الصين كما هو الحال مع باكستان.

كما أن إيران في مواجهة مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي ومحيطها الإقليمي، بينما باكستان تواجه الهند المنافس التقليدي للصين، كما أن الجوار الاقليمي يختلف بين كل من البلدين؛ فجيران الهند ينظرون إلى الصين كعامل توازن إقليمي أما جيران إيران من الدول العربية فإن ذلك غير وارد في حساباتهم وذلك بالنظر إلى علاقاتهم الوطيدة مع واشنطن.

ولهذا فإن علاقة الصين مع إيران ستظل مهما بلغت من التقارب مجرد ورقة تفاوضية ولن تتحول بأي شكل من الأشكال إلى علاقة إستراتيجية. على الأقل في المدى المنظور. وكذلك علاقة الصين بالمنطقة ككل؛ فعلى الرغم من تنامي أهمية المنطقة بالنسبة للصين إلا أنها تظل جزءًا من علاقتها مع القوى الكبرى.

عزت شحرور-متخصص في الشأن الصيني ومدير مكتب الجزيرة في بكين.

هامش

(*) جمهورية سيشل، هي مجموعة من نحو 115 جزيرة تبعد نحو 1600 كيلومتر من ساحل إفريقيا الشرقي، في الاتجاه الشمالي الشرقي لمدغشقر على المحيط الهندي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى