صفحات الرأي

أضْرِحَةٌ رقميّة…/ أحمد بيضون

 

 

قبلَ أربعة أشهر تقريباً، أنشأتُ مدوّنة جديدة احتفظتُ لها باسم القديمة المتوفّاة التي ذكرتها في عجالتي الماضية. وفي أربعة أشهر أصبح في المدوّنة الوليدة نحوٌ من 140 عنواناً كثرتهُا الكاثرة عناوين لمقالات وبينها نيّفٌ وعشرة كتب، وهذا كلّه موعودٌ بالزيادة… ما الذي حملني على هذه الردّة التي لم يلبث أن واكبها تقليص صارم جدّاً لنشاطي الفيسبوكي؟ أعتقد أن الأمر الأهمّ هو عودة صمدَت إلى انتظامٍ أسبوعي في الكتابة. مضى على هذه العودة ثلاث سنوات وبضعة أشهر ولكن تخلّلتها عطلتان شاسعتان مجموعهما أقلّ من نصف هذه المدّة بقليل.

ومن اعتمر قبّعة المعلّق الصحافي لا يلبث أن يلاحظ أمرين. الأوّل أن المقالات يتكاثر عددها بسرعة وتروح تبدو شتاتاً يستحسن جمعه وتنظيمه. وثانيها أن المدوّنات تبدو (بسبب الأمر الأوّل) وكأنّما أنشئت لكتّاب المقالة الصحافية. وذاك أن خمسة كتبٍ أو عشرين كتاباً لا تستلزم مدوّنة ولا تستحقّها. وأمّا مئة مقالة صحافية أو مائتان (ناهيك بألفٍ أو بضعة آلافٍ في حالة الصحافيّ المخضرم) فتستدعي المدوّنةَ بل توشك أن تفرضها فرضاً. وذاك أن المدوّنة، بخلاف الفيسبوك وتويتر وغيرهما، تتيح، فضلاً عن مزيّة البحث وعن التتابع وفقاً لتاريخ النشر، مداخل متعدّدة للتبويب يعيّنها المدوّن نفسه ويسعها الوصول بالنصوص إلى ما يشبه الفهرسة. وفي هذا علاج سائغ لآفة الكثرة في العناوين والتشتّت في الموضوعات.

وأمّا آفة المدوّنة، لمن جرّب الفيسبوك مثلاً، فهي العزلة، لذا استبقيتُ، متّبعاً سُنّةَ آخرين، جداري الفيسبوكي متاحاً للإعلان عمّا أنشره في الصحيفة وأنقله إلى المدوّنة. وأمّا الفيسبوك بسائر ما زاولتُه لسنواتٍ من وظائفه، وعلى الأخصّ كتابة الخاطرة، فقد ضجرتُ منه وتنحّيت عنه للمرّة الخامسة أو العاشرة: لا أعرف. ومن يبحث عن أسباب للضجر من الفيسبوك لا يعدمها، فهي كثيرة… كثيرةٌ كثرة المغريات بالإقبال عليه. وأمّا أنا فأملّ المكثَ في أيّ موضع أو نوع إذا طال بي المكث. عليه أمنح نفسي حرّية التنزّه بين ما أظنّ أنني أُحْسنه من أعمال جانحاً نحو ما أشعر بجاذب إليه، في وقتٍ بعينه من الأوقات. وهذا بمقدار ما تعطى هذه الحرّية لواحدنا… فهي نعمة تحدّ منها أو تُبْطِلها ضروراتٌ عملية شتّى ولا يضمن دوامها ولا مجرّد وجودها شيء.

أيّاً يكن الأمر، قد لا يرى المدوّن في عزلة مدوّنته أمراً ينتقص من الحاجة إليها أو، على الأعمّ، من شرعية الإبقاء على هذه الصيغة من صيغ الظهور الشخصي في الشبكة. وهذا حقّ محفوظ لصاحبه. على نحو ما ينبغي أن يبقى محفوظاً الحق في الندوة المغلقة التي يُقْتصر حضورها على عشرة أشخاصٍ، مثلاً، ومعه الحقّ في المناظرة المتلفزة التي يشاهدها ملايين يُمْنحون مبدئيّاً الحقّ في طرح الأسئلة على المتناظرين! الحقّ في إنشاء مدوّنة لعشرين متصفّحاً، على غرار ما صنع صديقي الذي نوّهتُ بأريحيّته في عجالتي الماضية، ينبغي أن يبقى محفوظاً ومعه الحقّ في عرض النفس على جماهير الفيسبوك ليلَ نهارَ إلى حدّ إلغاء الحياة الحميمة (أو الإيحاء بإلغائها بالأحرى) وإغراق المتصفّحين بتوافه الحركات والسكنات. هذا حقّ وذاك حقّ ويبقى في سماء المُثُل الحقوقية متّسع للحقّ في نقد هذا وذاك أيضاً!

أدرجت مقالاتي الأسبوعية في المدوّنة إذن ومعها الكتب. وأُزْمع استعادةَ نصوصي القديمة (أو ما أتمكّن من تحصيله منها)، بما فيها تلك السابقة للعهد الرقمي ما دام «المسح» قد أصبح يتيح إخراج صيغ رقمية لها. ولكن جمعها وترتيبها يقتضيان وقتاً… سأنشر المقابلات أيضاً، بأنواعها، وقد أعلنت الصيام عن الجديد منها من سنوات. وقد أنشر ما في حوزتي من مراجعات لأعمالي كتبها آخرون. وقد أجد غير هذه كلّها ما أستنسب نشره أيضاً.

وما دامت مقالتي الأسبوعية تنشر في وقتها، أي ما دام الصحافيّ حاضراً في سيرتي العملية، ستبقى المدوّنة حيّةً أيضاً تنتعش بهذا المدد الذي لا يخطئ ميعاده. ولكن لا يوجد ما هو أضعف احتمالاً من استمرار الحضور المذكور. فأنا لا أفلح في اعتياده ولا أنفكّ أحلم بوقفه. فإذا انقطع هذا الحضور ستخبو حركة المدوّنة وتوشك أن تنغلق، شأن القوقعة، على عناوينها الكثيرة المتزاحمة وقد تموت أو تكاد: شأنَ مدوّنة صديقي الظريف الذي كفّ من زمن غير قصير عن النشر في مدوّنته وعن إرسال الرابط إلى حواريّيه العشرين.

وحين يكون المرء قارئاً لعبّاس بيضون (ودعكَ من صلة القربى) لا يُستغرب، مع الوصول إلى حديث المدوّنة الميّتة، أن يحضر لناظرَيْه عنوانٌ بعينه لمجموعة من مجموعات عبّاس الشعرية: «مدافن زجاجية». وذاك أن المدوّنات، إذا هي ماتت بعد اكتمال، تستوي لأصحابها ما هو خلاف «المدافن الزجاجية». تستوي «أضرحةً رقميّةً» لهم. فإذا كان العنوان «العبّاسيّ» يستدعي صورةً صاعقةَ المادّية هي صورة الجثّة الآخذة في التحلّل، يشفّ عنها الزجاج، فإن الجَدَث الرقميّ، بما هو مركّبٌ لا مادّي، يحيل ساكنه إلى فقيد أثيري مادّته كلمات قد أصبحَت ـ بخلاف ما كان مألوفاً في الكلمات ـ في غنىً عن الحبر وعن الصوت معاً. على الرغم من هذا، قد يبدو الضريح الرقمي، لمن يشفع النظر فيه بالقهقهة المناسبة، شبيهاً بمزار شيعيّ كثير البهارج وقد يبدو أشبه بجدثٍ وهّابيّ مستجيب للسُنّة القائلة «إن خير القبور الدوارس». ولا تحول تلك الحال ولا هذه دون أن يغرق الضريح في رمال وحشته قبل أن يلحق به منشئه. ولا تحول أيّ من الحالين أيضاً دون أن يبقى للضريح ـ بخلاف ذلك ـ زوّار يحضرون لقراءة نصّ ما، مستودَعٍ فيه، أو يحضرون مستغفرين لساكن الكلمات ذاك ذنوباً لا تحصى بقيت مقيمةً معه في أثير ضريحه.

٭ كاتب وأكاديمي لبناني

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى