صفحات الثقافة

بودلير: يخيفني الشعراء/ روبير كوب

 

منذ مستهلّ آذار من عام 1866، كان بودلير مقيما في بروكسيل لسنتين خلتا. كان قد غادر باريس آملا في إجرائه بعض المحاضرات حول دولاكروا، وحول غوتييه، أو حول «الفراديس المصطنعة»، وأن يجد له ناشرًا أعماله الشعرية الكاملة، ولِمَ لا يكن لاكروا وفربوخوفن، الناشر الذي يُعنى بأعمال فيكتور هوغو؟ وباتت أشغاله تزداد صعوبة، وراح يسعى الى إحداث إنجازات في قصائده النثرية، التي نُشر بعضها في «مجلّة باريس»، وتقدّم بقصائد جديدة من «أزهار الشرّ» من تلك التي ضمّها بوليه ـ مالاسيس الى «القطع المدانة» في العام (1857) وظهرت تحت عنوان «الفضلات» وصدرت في أمستردام. وكانت شهرة الشاعر قد ذاعت، في الحلقة الضيّقة التي ضمّت كلًّا من غوتييه، وبانفيل، ولوكونت دوليل، وتجاوزت شهرة كلّ من فيكتور هوغو وسانت بوف، وأطلق عليه حينا لقب ألويسيوس برتران «الانحلال» وحينا آخر «الرائي» الذي أسبغ على الشعر رعشة جديدة» (على حد وصف فيكتور هوغو).

في حين أطلق عليه نقّاد الأمبراطورية الثانية (فرنسا) «أمير الجيَف» ورسّامو الكاريكاتور. وما إن هلّ القرن العشرون حتى توالت الأوصاف على بودلير سلبية في الغالب؛ إذ لقّب «بالكاتب النافث الكبريت والملعون لإساءته الى الأخلاق العامة والتقاليد، والذي تثير قراءة بعض قصائده الحواسّ لواقعيّتها الفجّة التي تخدش الحياء». ولم يتمّ ردّ الاعتبار القانوني اليه إلا في العام 1949. والحال أنّ أجيالا صاعدة من الشعراء والمؤلّفين سعت، في أواسط الستينيات من القرن التاسع عشر الى البروز، إبان الحقبة الأمبراطورية، من أمثال: ليون دياركس، وهنري كازاليس، وفرنسوا كوبيه، وشارل كرو، ولويس كزافييه دو ريكار، وأرمان رينو، وأوجين لوفيبور، وروبير لوزارش. بيد أنّ هؤلاء لم يخلّفوا ـ لضآلة إبداعهم ـ أثرًا يعتدّ به المتأدّبون ويستذكرونه. ما عدا مالارميه وفيرلين اللذين كانت لهما إسهاماتهما في الحياة الشعرية الفرنسية لا تُنكر ولا يمكن أن يُعزى الفضل فيها الى بودلير. وبالمقابل، لم يكفّ الشعراء الأوائل عن الإشارة الى تأثرهم ببودلير وانتمائهم الى مذهبه الشعري. وليس أدلّ على ذلك من مجلة «البرناسي المعاصر» التي ضمّت في عددها الصادر في 31 آذار من العام 1866، مساهمات لكل من غوتييه وبانفيل ولوكونت دوليل، الى جانب من ذكرناهم أعلاه (ليون دياركس وآخرون) جنبا الى جنب، وهو اليوم الذي شهد سقوط الشاعر في كنيسة سان لو بمدينة نامور، والذي خرج من سقطته مفلوجًا ومنعقد اللسان. وقد اعتبر بارباي دوريفيللي هؤلاء الشعراء يدينون ببنوّتهم لبودلير الذي يعدّ دانتيه عصره، في حين اعتبرهم موريس بارّيس، في كتابه «لطخات حبر» الصادر عام 1884، «شعراء بالنثر منحطّين ويصدرون مباشرة من معين واحد هو بودلير».

الجرأة

وفي مقابل التكريم الذي لقيه هؤلاء الشعراء، من على صفحات مجلة (لارتيست) «الفنان» في الأول من شباط 1865 ووصفهم بالسيمفونية الأدبية، على حدّ قول مالارميه، لا يبدي بودلير أيّ شعور حيال هؤلاء. وكان فيرلين قد سبق له تكريم بودلير في ثلاث مقالات أفردها له وحده في مجلة «الفن»، أيام 16 و30 تشرين الثاني، و23 كانون الأول العام (1865). وقد أسرّ له بارباي دوريفيللي لبودلير قائلا: «لقد كُرّمت جيّدا من على صفحات جريدة منشأة حديثا وهي الفن. ولئن كان الفريق جيّد الإعداد وأدبيا للغاية، من حيث طبيعته العميقة، فإنّه عديم الخبرة على نحو بيّن! لكم يظنّون امتلاك الدنيا أمرًا يسيرًا، وكم أخشى أن نعاود تكرار هذه اللازمة الأبدية عن الجرأة، والفرق بينها وبين الصلف، وكبوات الفشل واليأس التي شهدناها مرات متتالية في الثلاثين سنة الأخيرة! إنّ ما ينقص هؤلاء الوافدين الجدد (الى ميدان الشعر) هو التقليد (بمعنى التراث)، تقليد نسبيّ، أو فيلق يحسن بهم أن يلتحقوا به، حتّى وهم يستمسكون بقافلة الشباب، طوعا أو كرهًا، أو بسلطة، أو وسيط وحي، أو شاعر مستشار».. ولمّا تلقّى بودلير، بعد شهرين من الكلام المشار اليه، النص الذي كتبه فيرلين عنه، كانت ردة فعله أشد قسوة. إذ قال لسكرتير سانت بوف، جول تروبا: «لقد تلقيت من السيد لومِرّ عددين من مجلة الفن (لار) اللتين تحويان المقالة التي تخصّني.. تصفّحتُ هاتين المجلّتين. هؤلاء الشباب لا تنقصهم الموهبة، ولكن كم من الجنون (في ما يأتونه)! كم من المبالغات! كم من الافتقار الى الدقة! الحق يقال، إني أخشاهم خشية عظيمة! وبي رغبة عارمة أن أكون وحيدا». ولم يلبث، في النهار نفسه، أن خاطب أمه قائلا: «إنّ لدى هؤلاء الشباب موهبة، ولكن ما هذا الجنون لديهم! ما هذه المبالغات، وما هذا التنفّج الجدير بالفتيان! منذ سنوات عديدة تفاجئني، من هنا وهناك، العديد من محاولات تقليدي. إني لا أعرف أمرًا أشد إثارة للشبهة من المقلّدين، وما أكثر ما أحبّ الوحدة! ولكنّ هذا الأمر غير ممكن، ويبدو أن مدرسة بودلي قائمة».

كليشيهات

والواقع أنّ فرلين، في مقالاته عن بودلير، كان يعترض على الكثير من الكليشيهات التي لطالما ربطت بودلير بالرومنطيقيين الصغار. فقد رأيته، بالضدّ من ذلك، يشدد على «الفرادة العميقة» التي يتميّز بها مؤلّف «أزهار الشر»، والذي بدا له أنه يمثّل الإنسان المعاصر خير تمثيل وعلى نحو جوهري»، لا «الإنسان الأخلاقي، أو السياسي، والاجتماعي»، إنما الإنسان «النفساني المعاصر، على نحو ما صنعته الحضارة المتطرّفة، الإنسان المعاصر بحواسّه الشديدة التيقّظ والمرتعشة، وروحه الثاقبة، ودماغه المتشبّع تبغًا، ودمه المشتعل كحولاً». يستعيد شعرُ بودلير المواضيع الكبرى التي يقاربها أيّ شعر، لا سيّما «الحدود المشتركة»، من مثل الحب، والموت، والسكَر. وقد أضاف اليها موضوع باريس، الذي كان سبقه اليه الروائيون، من دون الشعراء وغيره الكثير. على أن مجرّد المقارنة بين قصائد بودلير وبين قصائد فرلين، تبيّن أنّ الأخير اقتبس من بودلير عددا من العبارات والعناوين والصوَر، من مثل «أغنية الخريف» و «مساوئ القمر» الذي بات لدى فرلين «محاسن القمر».. حتى ليقول بول فاليري عن فرلين: «انه لولم يقرأ فيرلين بودلير في زمن حاسم «أزهار الشر لما كان فرلين» (الشاعر المعروف). وهذا ممّا وافقه عليه العديد من شعراء زمنه، في النصف الثاني من القرن التسع عشر.

عن مجلة «ماغازين ليترير» (الفرنسية، تشرين الثاني 2016)

ترجمة : أنطوان أبوزيد

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى