صفحات العالم

روسيا الجديدة إذ تخبط خبط عشواء


نسيم ضاهر *

تعافت روسيا، تحت قيادة بوتين، من عقدة النقص حيال المجتمع الدولي، لتسقط في إسار استخدام الفيتو الممانع للتحولات. وعلى قدر طموحها المغالي، استنسبت الوقوف حامية للأنظمة المتشددة، علَّها تستعيد دوراً معتبراً بين الكبار. هذا شأن الباحث عن عظمة مفقودة، دونها محددات القطبية، ولوازم الصدارة بين الأمم، من قدرات مادية وباع يحاكي العولمة في مختلف تجلياتها الاقتصادية والمعرفية والتقنية، ناهيك عن وهج القلعة الصامدة ومنبت المبادرات ذوات البعد الكوني والترجمة الرسالية، المناهضة بحق للمعسكر المقابل.

على هذا المعنى، انعطفت روسيا، مستديرة على الوقائع، تستحضر حرباً باردة بأدوات صدئة فاتت صلاحيتها، وتقرأ في كتاب أحيل الى أدراج المحفوظات منذ أفول النمط السوفياتي وانتفاء الحاجة اليه على خريطة العالم المعاصر. وقد يكون لافروف، مؤيداً من مساعديه في جهاز الخارجية، كمن قتل الأب الصارم للتخلص من قيده في البيت والأسرة، وشرع يتمثل به في المجال البرّاني توسلاً للمقام.

ساق تحليل الموقف الروسي، سواء في مجلس الأمن أو تبعاً للزيارة الدمشقية من جانب لافروف المصحوب بمدير المخابرات العسكرية الخارجية، الى جملة تفسيرات انطوت على جوانب ديبلوماسية بأبعاد استراتيجية في محيط روسيا الاوروبي والآسيوي. كما أضاءت على حاجات بوتين، المرشح الرئاسي العائد الى قمة السلطة، بغية حشد المؤيدين بالطرق على وتر العزّة القومية، وإظهار الاتحاد الروسي في موقع الند القادر على مواجهة الناتو، وبناء تحالف صلب توأزره الدول الناشئة.

لكن رهان موسكو باء بالفشل، إذ خذلته مجموعة دول البريكس (باستثناء الصين العاملة منذ الفيتو على توليفة اعتذارية تحفف من وقع ردود الفعل وآثاره السلبية، وتشير الى محاولة ترميم الجسور مع الجانب العربي والمعارضة السورية)، ولم يلقَ الصدى المأمول لدى جمهوريات وسط آسيا السوفياتية سابقاً. الى ذلك، لم يبد الاتحاد الاوروبي، وكذلك تركيا، اهتماماً ملموساً بالرسائل الروسية، بل ازداد تصميماً على ضرورة تنحي الرئيس الأسد واقتلاع نظام حكمه من جذوره.

وفي الحقل الداخلي، يواجه بوتين معارضة لا تلين، تجاوزت لغته الشعبوية، ومن غير المرجح أن يخرج بعوائد تعزز رصيده وصدقيته وتحسم الانتخابات المرتقبة لمصلحته في شكل كاسح يعدِّل ميزان القوى الراهن، بدليل الانتقادات الصادرة عن مجلس الدوما بالذات إزاء السياسة الخارجية المتبعة، على غرار مراكز الأبحاث وقطاع الأعمال. في المحصلة العامة، تجمع الآراء على شطط رسمي مؤكد يعوزه التروي، ويتسم بمخاطر غير مدروسة الايـقـاع، تـقـود الى تـأزيم العـلاقات الدولية ومخاصمة معظم الاسرة الدولية مقابل استئناس بقاء حفنة من المستبدين.

ثمة خطأ شائع يقع فيه القائلون بعودة النهج السوفياتي الى أروقة الكرملين. الحقيقة ان الجاري يختلف عن المدرسة السوفياتية في المضمون والأداء، وإن سجل بعض التشابه في الشكل. فقد عرف عدم تهور الخارجية في المجال الدولي، وإبقاؤها الدائم على أقنية تحاور جانبية حرصت الاجهزة، من مخابرات وكادرات متمرسة، على الحذر الشديد من تفلت ادارة الصراع، والانزلاق الى مواجهة انفعالية تعظّم المردود المحتمل وفق حسابات مغلوطة ضيّقــة أحـاديــة المنحى ومبــسطة التركيب. أي ان المعادلة كانـت تبنى على قـاعـدة مصالح الدولة العليا بامتـيـاز وتـأنٍ، قياسها المكاسب والتبادلية الواقعية، فلم يتعين عليها اللهث وراء إثبات مقدرة الاتحاد السوفياتي على النهوض بصيغة القطب المعترف به، وبيان ذلك بالمشاغبة الفارغة من مضمون استراتيجي مثبت يتعدى المقاولة ويجانب الاحتجاز ضمن خطوط اللاعودة والتفريط بالتسويات.

ففي المجمل، وبخلاف اللعبة الدعائية، لربما صحَّ نعت الديبلوماسية السوفياتية السابقة بالمحافظة والنقلات البطيئة، بعيداً من مقولة التضحية على مذبح الانظمة الحليفة او الموالية، ومن مفردات الثورة والنفوذ العائم على مشترك إيديولوجي وإغراءات موعودة عبر معطيات تجميلية تقارب الشيكات التي بلا رصيد. من هنا، يتبين حجم الخطيئة التي ترتكبها روسيا حالياً في المجال العربي، والشرق أوسطي عموماً، فلا التسهيلات البحرية في طرطوس تمتلك صفة القاعدة الثمينة، ولا سورية الأسد (أو البعث) المتهالكة بذلك البديل المرموق عن المجموعة العربية، باقتصادها ونفطها وثرواتها وموقعها الاستراتيجي وآفاق التعاون معها.

حتى ان مسألة النفوذ الروسي ووجود اسطوله في البحر المتوسط الدافئ، لا تفيد في أمرها معاداة الثورة الشعبية العارمة في سورية، بخاصة أن المعارضة قد أبدت صراحة استعدادها لضمان المصالح الروسية والتعامل مع موسكو من موقع الصداقة التقليدية المستمرة.

دخلت الازمة السورية غرفة العناية الدولية نتيجة إمعان النظام في الحل الامني/ العسكري، وتجاوب موسكو، المثير للقلق والسخط، معه. على هذا الاساس، يتم امتحان قادم عثرات روسية في المحافل الدولية، فيما العلاقات العربية / الروسية سائرة نحو مزيد ضمور يوصل الى القطيعة.

المؤسف ان روسيا قد منحت اهل النظام في سورية اجازة مفتوحة للقتل، وهي تنطلق من تدعيم موقع البيدق السوري كحقل تجارب لبلوغ مآرب ونشاطات عسكرية الطابع، التفافية، تؤذن بتزخيم جولة مستحدثة من بناء الأحلاف والضغط على اوروبا بخاصة في مجال الطاقة، ما يهدد بإرهاق اقتصادها وتجفيف مصادر الاستثمار.

بذلك تندرج الحركية الروسية خارج السياق، بعدما جاهدت لنيل عضوية منظمة التجارة العالمية، والإيفاء بشروط الانتساب الى نادي النخبة، في موازاة خفض وتيرة الارتياب من الحلف الاطلسي، وإبداء المرونة في التعامل مع ملفات النووي والدرع الصاروخية.

عبثاً يتوقع أحرار سورية لفتة انسانية او كلمة طيبة من لافروف وأقرب معاونيه. على العكس من ذلك، وعلى رغم المناشدة الصادقة بلسان هيئة التنسيق ونفر من معارضة الداخل، ثابر ثلاثي الخارجية السورية على ترداد معزوفة المؤامرة على النظام السوري، مشفوعة بكيل تهمة العنف للمحتجين وإلصاقها بالضحية عوض الجلاّد.

المغزى من ابتعاد المؤسسة الرسمية الروسية عن كل اعتبار انساني، وإنكارها هول الجرائم المرتكبـة يـوميـاً ضد المدنيين الأبرياء، بذريعة ضرورة استتباب الأمن في بؤر التوتر والتصدي للأعمال المسلحة.

نهاية الامر مأساة مزدوجة خبط عشواء في مبناها يُستدل عليها من السلوك الروسي، على صعيد المصالح الحيوية المشكوك في فاعلية النهج المدافع عنها، على المدى البعيد، فضلاً عن صلاحية التشخيص العائد الى أصحاب القرار حيالها.

من جانب آخر، اكثر إيلاماً للمشاعر، وأشد وقعاً على الرأي العام عبر القارات، لن يمحو مقبل سنوات الأثر الصادم والمدان، الذي أنجبته سياسة خرقاء، مثابة وصمة ستلاحق سمعة روسيا ومكانتها الدولية لحمايتها الشمولية والاستبداد فوق شلال من الدماء.

* كاتب لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى