صفحات العالم

الصراع في سوريا بين التفسير الطائفي والحضاري/ محمد زاهد غول

 

 

أعلنت يوم الخميس 17/3/2016 مجموعة من الفصائل الكردية في ريف الحسكة السوري عن سعيها لإقامة نظام فدرالي شمال سوريا خلال فترة محددة، وفق اجتماع عقد في مدينة الرميلان بمحافظة الحسكة شمال شرق البلاد.

والمناطق المعنية بالنظام الفدرالي هي المقاطعات الثلاث التي توصف بالكردية وهي: عين العرب (كوباني) في ريف حلب الشمالي، وعفرين في ريف حلب الغربي، ومنطقة الجزيرة في محافظة الحسكة، بالإضافة إلى المناطق التي سيطرت عليها قوات سوريا الديمقراطية مؤخراً، خصوصا في محافظتي الحسكة وحلب شمال سوريا. هذه الخطوة رفضتها قوى المعارضة السورية، وعلى رأسها الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، كما رفضتها تصريحات صادرة عن نظام بشار الأسد، بل إن بعض التحليلات السياسية ذهبت إلى أن أحد أسباب انسحاب الجيش الروسي من سوريا هو الاختلاف بين بوتين والأسد حول تقسيم سوريا أو الحديث الروسي عن قبولهم الفيدرالية في سوريا، وهذا الرفض للفيدرالية تتوافق عليه إيران وتركيا أيضا، ولعل أهم نقاط زيارة وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف إلى تركيا هي لتناول هذه القضية الخطيرة على مستقبل سوريا ودول المنطقة، أي أن هناك إجماعاً محليا وإقليمياً ودولياً على رفض مساعي بعض الأحزاب الكردية لإقامة حكم ذاتي، أو مناطق متناثرة من الحكم الذاتي في شمال سوريا.

وقد بقيت الأنظار موجهة إلى الموقف الأمريكي الذي لا يكمن التعويل عليه، بسبب تناقض التصريحات الأمريكية في كل مسألة أساسية وخلافية في سوريا، ومنها الموقف من رحيل الأسد مثلاً، ولذا فإن الموقف الأمريكي الحقيقي هو ما يؤخذ من مواقفها العملية على الأرض من ناحية، ومن ناحية أخرى من متابعة مواقف دوائر القرار الأمريكي المختلفة وليس دائرة واحدة فقط، فلكل دائرة امريكية قرارها الخاص أو رؤيتها الخاصة في سوريا، وفي الموقف من الأحزاب الكردية بما فيها الفصائل التي أعلنت صراحة عن سعيها لإقامة كيان كردي ذاتي.

إن الموقف الأول للخارجية الأمريكية ضد الانفصال، جاء على لسان المتحدث باسمها جون كيربي: «لا نؤيد قيام مناطق ذات حكم ذاتي أو شبه مستقلة داخل سوريا.. ما نريده هو سوريا موحدة بكاملها، بها حكومة لا يقودها بشار الأسد، تستجيب لتطلعات الشعب السوري.. سوريا كاملة موحدة غير طائفية، هذا هو الهدف»، وهذا التصريح جاء رداً على المحاولة الإعلامية للفصائل الكردية لإقامة منطقة حكم ذاتي في سوريا. ولكن موقف وزارة الدفاع يوحي برأي آخر، إذ قال وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر عن الأكراد «إنهم شركاء عسكريون يحظون بتقدير كبير من قبل الولايات المتحدة»، وأضاف أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ :» أظهروا أنهم شركاء ممتازون لنا على الأرض من أجل محاربة تنظيم الدولة الإسلامية.. نحن ممتنون لهم وسنواصل هذه الشراكة، مع الإقرار بتعقيدات دورهم الإقليمي».

ومن خلال هذه التصريحات يتبين أن موقف أمريكا من السعي لإعلان الحكم الذاتي الرفض السياسي أولاً، وفي الوقت نفسه التأييد الكامل لهذه الأحزاب من وزارة الدفاع الأمريكي بحجة محاربتهم للدولة الإسلامية، وفي ثنايا كلا التصريحين تناقضات، لأن السعي السياسي الأمريكي المعلن لوحدة سوريا يتناقض مع تقديم الدعم العسكري للأحزاب الكردية التي تقاتل في سوريا ليس تنظيم الدولة الإسلامية فقط، وإنما تقاتل فصائل الثورة السورية المعتدلة والجيش السوري الحر، وتحتل أراض عربية وتركمانية لا يوجد فيها تنظيم الدولة الإسلامية ولا جبهة النصرة. وحتى مشاركتهم في تشكيل «قوات سوريا الديمقراطية»، التي يشارك فيه بعض فصائل المعارضة السورية المقربة من نظام الأسد لا تنجو من اعتداءات قوات حماية الشعب التابع لحزب الاتحاد الديمقراطي، فهو يستبد بحكم المناطق التي احتلها بالقوة العسكرية والأسلحة الأمريكية والغطاء الجوي بالطائرات الحربية الأمريكية، أي أن الأحزاب الكردية تستبد بحكم المناطق التي احتلتها قبل أن تعلن حكمها السياسي لهذه المناطق، سواء تم الاعتراف بها من أمريكا او لم يتم ذلك الاعتراف السياسي، لأنها تحكم تلك المناطق بالنفوذ الأمريكي الذي يقدم لها الدعم العسكري ويحول دون منازعتها عسكريا على تلك المناطق.

إن الموقف السياسي الذي اتخذه الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوري هو رفض السعي لإقامة كيان حكم ذاتي أولاً، وتحذيره من تشكيل «كيانات أو مناطق أو إدارات تصادر إرادة الشعب السوري». ثانياً، وحجته أن «لا مكان لأي مشاريع استباقية تصادر إرادة الشعب». ثالثاً، الفكرة الخطيرة في هذه الخطوات الاحادية أنها تصادر الإرادة الحرة للشعب السوري،

فإذا تم توافق الشعب السوري على النظام الفدرالي فلا بد أن يتم من خلال الاستفتاء الشعبي وتشريع البرلمان السوري لمثل هذا النظام السياسي، وإلا فإن الصراع في سوريا سوف يتواصل على أساس طائفي وقومي وعرقي بدون توقف لعقود وسنوات مقبلة، فالخطورة هي في مواصلة الحرب بين أبناء الشعب الواحدى بحجج طائفية أو قومية أو عرقية، بينما كان أصل الصراع هو بين الشعب والنظام المستبد، فكيف تحول هذه الصراع من ثورة شعبية سلمية تنشد الاصلاح والتغيير والنهضة والدولة المدنية والديمقراطية، إلى صراع طوائف وقوميات وأعراق وأديان. يتجنب البعض الإجابة بصراحة عن سبب تحول الثورة السورية من ثورة شعبية ضد نظام مستبد إلى صراع بين أبناء الشعب السوري بكافة طوائفه واعراقه، وربما يعتبرون ذلك غلوا في الحديث عن المؤامرة الخارجية، بينما هي ليست مؤامرة وإنما مخطط تحت التنفيذ واضح المعالم والأدوات والدعم المباشر عسكريا سياسيا، فعند نقد الحديث عن مشاريع تقسيم سوريا بحجة أن هذا الحديث مجرد تبرير للفشل أو اتهام الغير وبالذات الغرب بمنع هذه الشعوب عن النهضة، فإن ذلك أصبح اليوم واقعاً بالفعل وليس حديثا عن مؤامرة خارجية، فما تقوم به أمريكا في سوريا اليوم هو تنفيذ لمشاريع تبناها الكونغرس الأمريكي عام 1984 لتقسيم دول المنطقة، من خلال ما قدمه المستشرق برنارد لويس للإدارة الأمريكية لكيفية التعامل مع العالم الإسلامي، من مشاريع تقسيم وتفتيت معظم دول العالم الإسلامي على أساس طائفي وقومي وعرقي واثني وغيرها. لذلك فإن الحديث عن الصراع الطائفي أصبح خديعة بيد الصراع الحضاري، او أحد أسلحة صراع الحضارات الذي تبنته أمريكا من مطلع عقد التسعينيات من القرن العشرين الماضي، أي أن الصراع الواسع والحقيقي في سوريا هو الصراع الحضاري العالمي، فبدل ان ترسل أمريكا قواتها العسكرية وتستنزف قدرات جيشها واقتصادها، كما فعلت في أفغانستان عام 2001 وفي العراق 2003، يكفي أن تؤيد عسكريا أصحاب النزعات الانفصالية في هذه الدول وفي غيرها، بما فيها الجمهورية التركية والجمهورية الإيرانية، وهؤلاء الانفصاليون قد يستطعون ما لم تستطعه الجيوش الأمريكية والغربية في أفغانستان والعراق وغيرها من خلال الحروب المباشرة، التي خاضها الجيش الأمريكي فيها.

لا شك أن المتابع للسياسات الأمريكية في الخمس أو العشر سنوات الماضية في البلاد العربية والاسلامية سوف يصاب بخيبة أمل كبيرة من السياسة الأمريكية، في كل القضايا التي تخص العالم العربي والإسلامي، ومن الغريب أن الرئيس الأمريكي يتذمر من الرئيس التركي أردوغان، لأنه ينتقد السياسة الأمريكية المتناقضة، التي تعبث بصداقاتها مع الدول الحليفة لصالح مشاريع عبثية في المنطقة، وينتقده لأنه لم يشارك في هذه الحروب العبثية، التي هرب منها الرئيس الروسي بوتين بعد خمسة أشهر من عدوانه على سوريا، بعد ان اكتشف انها استنزاف حقيقي بدون فائدة لأحد. إن العبث الدولي وبالتحديد العبث الأمريكي بالشعب السوري ساهم بقتل نحو مليون سوري وتشريد أكثر من عشرة ملايين داخل سوريا وخارجها في السنوات الخمس الماضية، وهذا الحال سبق مثله في العراق بعد عام 2003، فإذا كان العالم مدركا لما فعلته المخططات الأمريكية في العراق بسبب الاحتلال المباشر، فقد غفل عنها في سوريا، وظن أن ما يجري في سوريا هو صراع طائفي وبين ابناء الشعب السوري وحدهم، وإذا وسع مدى الصراع جعله صراعا طائفيا بين المسلمين من الشيعة والسنة، بحسب الإعلام الأمريكي والغربي، بينما بقي الصراع الدولي الحضاري مختفياً، وبقي الحديث عنه ضعيفا أو معدوماً، بينما يكشف الصراع الحضاري عن دوره كل يوم أكثر فاكثر، بل لم يستطع أن يخفي دوره في تأييده للأحزاب الكردية الانفصالية، ولو في سوريا وعسكريا أولاً، ولا هدف للصراع الحضاري في هذا الانفصال في سوريا أو العراق أو تركيا أو إيران إلا تقسيم المنطقة وإضعافها، وجعلها تابعاً ذليلا للحضارة الغربية التي يظنون أن التاريخ الإنساني انتهى عند قيمها وفلسفتها.

ومن السذاجة والغباء الذي تقع فيه الأحزاب القومجية الكردية اليوم أنها تقع في الفخ نفسه الذي صنعته السياسة الأمريكية لفصائل الثورة السورية، ووعدها إياها بالتأييد في المؤتمرات الدولية في جنيف1 و2 و3 و..، ومطالبتها لها بتوحيد صفوفها وتنسيق أعمالها مع الدوائر الأمريكية حتى إذا أصبحت تحت مجهرها في كل صغيرة وكبيرة اتت لها بالميليشيات الطائفية من إيران والعراق ولبنان، موهمة إياها بأن أمريكا لا تؤيد طرفاً سوريا ضد آخر، ولا تعارض أن تتدخل إيران وحرسها الثوري وميليشيات حزب الله اللبناني إذا ركزت حربها ضد الارهابيين، وكررت أمريكا الذريعة نفسها لدولة روسيا الاتحادية، ولكن بوتين هرب قبل أن يستنزف قواه في سوريا، كما فعلت إيران وحزب الله اللبناني فاستنزفا أخلاقهما وقيمهما الفكرية قبل قدراتهم العسكرية والمالية. لقد سعت أمريكا لتوريط إيران في الصراع في سوريا، ومن أجل تشجيع إيران وروسيا للتدخل في سوريا عسكريا فقد غيرت أمريكا مواقفها من بقاء بشار في الحكم أكثر من مرة، وأعربت عن قبولها لبقائه لمرحلة انتقالية بعدما كانت ترفضها في مرات سابقة، فلما استنفذت أمريكا أغراضها من الروس والإيرانيين جاء الدور على القومجيين الأكراد، ليقوموا بمواصلة القتل الطائفي الذي بدأته إيران وواصلته روسيا بدون فائدة، فهل تتعظ المليشيات القومجية الكردية وأحزابها الانفصالية، انها مجرد أدوات في الصراح الحضاري العالمي الذي تخوضه أمريكا ضد شعوب المنطقة بمن فيهم الأكراد أنفسهم.

٭ كاتب تركي

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى