بكر صدقيصفحات سورية

الكردي الجيد والكردي السيئ/ بكر صدقي

 

 

 

يبدأ كثير من المتكلمين السوريين كلامهم بشأن المسألة الكردية بمديح «الأخوة» الكرد وفضائل التعايش والتسامح، وغيرها من المقدمات اللطيفة، لينقضّوا، بعد ذلك، على كل مطلب سياسي لهذا القوم الإشكالي، بذريعة ممارسات قوى سياسية كردية، قد لا يختلف كثير من الكرد أنفسهم على مساوئها. والحال أن الكردي الجيد، في نظر الرأي العام العربي، هو ذلك الذي «يعرف حدوده» وحدود مطالبه، بصرف النظر عن حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، وممارسته السياسية أو مشاريعه الكانتونية أو الفيدرالية أو التوسعية. سبق لي تناول سياسات وممارسات هذا الحزب، في مقالات عدة، ولا يتسع المجال هنا لتكرارها في مقال مخصص لزاوية نظر أخرى إلى الموضوع.

مر الرأي العام العربي في سوريا، في تعاطيه مع المسألة الكردية، بعدة مراحل: أولاها التجاهل التام، بل قل الجهل النابع من عدم الاكتراث؛ وثانيتها بداية الاهتمام بالمسألة بوصفها خطراً على وحدة البلاد، مع تطوير مقاربات مختلفة لتفادي هذا الخطر؛ وثالثتها بداية الصدام المباشر.

ليست المراحل المذكورة أطواراً في الوعي وإعمال الفكر، معزولة عن الوقائع، بل هي انعكاسات مطابقة، إلى حد كبير، لتطورات الواقع المتحرك. فقد ارتبط الجهل والتجاهل وعدم الاكتراث مع حقبة طويلة من استفراد السلطة بمعالجة المسألة الكردية من منظور أمني، أي بوصفها خطراً على الأمن القومي ووحدة البلاد. من أبرز مفردات هذه المعالجة، الإحصاء الاستثنائي للعام 1962 الذي حرم عشرات آلاف الكرد من الجنسية السورية، تحولوا إلى مئات الآلاف مع توالد أجيال جديدة من هؤلاء «الأجانب» حسب التوصيف الرسمي؛ ومشروع الحزام الأخضر الذي قام على تغيير ديموغرافي لتشتيت الوجود الكردي جغرافياً، وإنشاء عازل بشري بين كرد سوريا وأبناء جلدتهم في تركيا. لا يمكن التعاطي مع المسألة الكردية اليوم بتجاهل هذه الوقائع، أو القفز من فوقها، أو الوعد بتلافي نتائجها، كالقول إن قيام نظام ديمقراطي على أساس المواطنة المتساوية كفيل بحل كل المشكلة الكردية. أو كالقول إن نظام الأسدين ظلم الشعب السوري بكل فئاته، فلا مظلومية تفضل على أخرى. لم تتعرض كل فئات السوريين لإسقاط جنسية قسم منها، أو لتغيير ديموغرافي، أو لحظر استخدام لغتها الأم وثقافتها الخاصة، أو للتهميش من مواقع معينة في جهاز الدولة لأسباب غير سياسية. هناك سوريون آخرون تعرضوا لاضطهاد سياسي، بلغ درجة الإبادة، لا شك أن آلامهم تفوق آلام الكرد، كتدمير مدينة حماه على رؤوس ساكنيها، في العام 1982، وقتل عشرات الآلاف من أهل المدينة المنكوبة. بيد أن موضوع حديثنا هنا لا يتعلق بدرجات الألم التي قد لا يفيد إجراء مقارنات فيما بينها، بل بأساس المظلومية القائمة على الانتماء الذي لا خيار للمرء فيه. لم يقتل الحمويون لأنهم حمويين أو سنّة، بل لأن النظام اعتبرهم حاضنة اجتماعية لحركة التمرد المسلح الإخوانية. في حين يقف وراء إجراءات كالإحصاء الإستثنائي والحزام العربي، اعتبار العنصر الكردي خطراً على وحدة البلاد، الأمر الذي لا يمكن مواجهته إلا بتطهير عرقي شامل، لم تكن الظروف مواتية لتنفيذه بصورة كاملة، في أي وقت من عمر الكيان السوري. فلم تقم تمردات كردية كبيرة إلى الحد الكافي لتبرير تطهير عرقي واسع النطاق.

تخبرنا وقائع التاريخ السوري بأن الإجراءات المذكورة (وملخص فلسفتها موجود في الكتيّب الشهير للضابط محمد طلب هلال) بدلاً من أن تحقق مقاصدها بإزالة «الخطر الإنفصالي» المفترض، أدت إلى العكس تماماً: نمو الوعي القومي للكرد وتطور مطالبهم التي بدأت برفع المظالم والحقوق الثقافية، لتنتهي إلى إرادة الاستقلال. هذا منطقي: أنت لا تعتبرني جزءًا من الشعب السوري، بل خطراً على وحدة البلاد، ثم تطالبني بالتمسك بالهوية الوطنية. هذا غير منطقي ولا عادل. أنت لا تراني جزءًا منك، ليكن إذن، أنا لستُ جزءًا منك. هذه هي المعادلة الأساس في المسألة الكردية في سوريا. بل أكثر من ذلك، فالإطار المرجعي الذي يدور الحديث عليه، الكيان السوري، هو إطار إشكالي تكوينياً. فلم تشهد سوريا، طيلة تاريخها القصير، إجماعاً وطنياً على شرعية هذا الكيان، بل احتقرته الإيديولوجيات الرائجة (القومية العربية والإشتراكية والإسلامية والقومية السورية) لمصلحة كيانات افتراضية أو متخيلة. فما الغريب، والحال هذه، أن يلقى المصير نفسه لدى الإيديولوجيا القومية الكردية، خاصةً وأنها الشقيقة الصغرى لتلك الأيديولوجيات ولا طموحات مركزية لديها، أي الإمساك بالسلطة في سوريا؟

حين لعب الدكتاتور الراحل حافظ الأسد بورقة حزب العمال الكردستاني للصراع مع تركيا، منذ منتصف الثمانينات، لم يلق هذا الحزب أي اعتراضات من الرأي العام، بما في ذلك التيارات المعارضة للنظام، مع أنه كان يجند الشبان الكرد السوريين ويرسلهم للقتال في تركيا، ويجبي الخوات من المقتدرين الكرد السوريين لتمويل حربه في تركيا. بل إنه بلغ الأمر ببعض قوى المعارضة حد الاعتراف بحق تقرير المصير للكرد، ما دام الأمر لا يتعلق بسوريا.

المرحلة الثانية تقابل انتفاضة 2004 وما تلاها من سنوات. فلأول مرة، في تاريخ الكيان السوري، يقوم تمرد شعبي واسع النطاق ضد النظام. بدءًا من تلك اللحظة بدأ اهتمام جدي بالمسألة الكردية في سوريا. لكن الاهتمام كان نابعاً من خوف. فهذا الكردي الضعيف الذي طالما اتهمناه بالنزعة الانفصالية، بغير وجه حق، أثبت أنه يملك القوة ويستطيع أن يفعل الكثير. ما الذي يضمن عدم مطالبته بالاستقلال، إن لم يكن اليوم، فغداً أو بعده. وإذا كان النظام اختار مزيجاً من الحل الأمني العنيف وشيئا من السياسة، في مواجهة الانتفاضة، فالرأي العام، بما فيه المعارضة، اختار المواجهة الإيديولوجية: فاكتشف أن كرد سوريا بأكثريتهم جاؤوا من تركيا، وإذا كان لا بد من تقديم بعض التنازلات، فلتكن محصورة بالحقوق الثقافية ورد بعض المظالم كالإحصاء الاستثنائي، على ألا تصل درجة التنازل عن جزء من الأرض السورية. وتقابل المرحلة الثالثة سنوات الثورة السورية وتداعياتها المستمرة إلى اليوم. كانت ثورة آذار 2011 فرصة حقيقية لتشكل شعب سوري وهوية وطنية سورية لم يوجدا قط قبل ذلك. الفرصة أهدرت، ليس فقط فيما خص المكوِّن الكردي، بل كل السوريين بمختلف انتماءاتهم الجزئية. وبخصوص الكرد والمسألة الكردية، لا يتحمل ما أسميناه بالرأي العام (العربي) وحده مسؤولية هذا الإهدار، بل يشاركه في المسؤولية الرأي العام الكردي المبني، إلى حد كبير، على ردات الفعل. وهذه، في نهاية التحليل، حصيلة تراكم تاريخي يغطي معظم عمر الكيان السوري.

الشروط المعروفة لتصدر الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المشهد الكردي في سوريا، أدت إلى تعقيد المسألة الكردية بأكثر مما كانت في السابق. وجاء استقواء هذا الحزب بالأمريكيين والروس لتوسيع مناطق سيطرته خارج المناطق الكردية، ليشكل نذير صراع عرقي لا سوابق له في تاريخ سوريا، باستثناء نموذج مصغر عنه في انتفاضة 2004.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى