صفحات الثقافة

الكلام بما هو تلحينٌ للوجود,,,/ أحمد بيضون

 

 

مَغْناكِ مُلـتَهِبٌ وَكَأسُـكِ مُترَعَـهْ / فَاسْقي أَباكِ الخَمرَ وَاِضطَجِعي مَعَهْ

لَم تُبـقِ في شَفَتَيـكِ لــذّاتُ الدِمـا / ما تَذكُـرينَ بِـهِ حَـليـبَ المُـرْضِعه

قومي اِدخُلي يا بنتَ لوطَ عَلى الخَنى / وَاِزْني فَإِنَّ أَباكِ مهّـدَ مَضجَعَـه

إِن تُرجِعي دَمَـك الشَهِــيَّ لِنَبْعَــه / كَـمْ جَدوَلٍ في الأَرضِ راجَع مَنبَعَه

(إلخ، إلخ).

لا أَعرِفُ قوافيَ عربية تفوق شِدّتُها ما لقوافي قصيدة «سَدُوم» هذه لإلياس أبو شبكة. العَيْنُ والهاءُ مَخْرجاهما من الحَلْق. فيكاد يصحّ القول أنهما تخرجان من الأحشاء. العَيْنُ هنا مفتوحةٌ على أقصاها والهاءُ ساكنةٌ ينقطع بها النفس اللاهث بغتةً. هذا كلّه يناسب مناخَ هذه القصيدة المُلَعْلِعة أحسنَ مناسَبة.

في هذه القافية، لهفةٌ أو نباحٌ للرغبة تعبّر عنه العين المفتوحة والهاء الساكنة وتكرارهما بأشدّ ممّا تعبّر الواو الجوفاء والهاءُ الساكنة في «وَهْ وَهْ» المقطع المعتمد لمحاكاة النباح.

نأخذ بيتاً من قصيدة إلياس أبي شبكة هذه، بقافيتها: العين المفتوحة والهاء الساكنة (عَهْ، عَهْ، عَهْ…):

سَكِرَتْ بكِ الدنيا سَدومُ فكُلُّها / زُمَرٌ على طُرُقِ الحياة متعتَعَهْ

ونأخذ بيتاً من قصيدة مشهورة لابن زريق البغدادي قافيتها عَيْنٌ وهاءٌ مضمومتان (عُهُ، عُهُ، عُهُ…):

أَسْتَوْدِعُ اللهَ في بغدادَ لي قَمَراً / بالكَرْخِ من فَلَكِ الأزرارِ مَطْلَعُهُ

لا يفوت الأذنَ المدرّبة أننا انتقلنا ممّا يوحي باللهاث الشديد المتقطّع إلى ما يوحي بصوت العويل. حَصَل ذلك بفعل اختلاف الصوائت (أي ما يسمّى «الحركات») مع بقاء الصامِتَين (أي الحرفين «الصحيحين» العين والهاء) دون تغيير.

في هذا إظهارٌ لأهمّية الصوائت التي لا نعتبرها حروفاً، في العادة، ونستسهل الاستغناءَ عنها في الكتابة، وهي، في حقيقة الأمر، أهمّ الحروف في نظام العربية الصرفي، سواءٌ أكُنّا نرسم الكلام أم نلفظه. يبقى، مع ذلك، أن اقتران العين والهاء، بما لهما من عمق المخرج، هو العُمْدة في الإشعار بالحالتين: اللهاث والعويل. فلا يتيسّر ذلك لأيّ حرفين صامتين يعتمدهما شاعرٌ من الشعراء قافيةً لقصيدة…

ولأَذْكُر هنا، ما دمتُ قد عرّجتُ على قصيدة ابن زريق، أنني «عارضْتُها»، في ما مضى، بقصيدةٍ أصبَحَت قديمةً ومَطْلَعُها:

ساقي الحُمَيّا وهل تُحْصى مَصارِعُهُ / ثاوٍ على الرمْلِ تَرْثيهِ أَصابِعُهُ

ما كـان يُــمْسِــكُ أنـفـاساً مـروَّعــةً / لولا بقـيّةُ صَحْـبٍ لا تُشَيِّعُهُ

صَـحْـبِ الكؤوسِ إذا دارَت يقولُ لهمْ / نَفْسي فِـداءُ وَلِيٍّ لا أُشَفِّعُهُ

(إلخ.، إلخ).

تلك قصيدة كانت تباري في العويل قصيدة ابن زريق. ولا أشكّ أنه كان لقافيته نصيبٌ من سَوْقها إلى هذا المناخ. أي أن ثمّة ههنا تفاعلاً لا فعلاً من جهةٍ واحدة: لا يملي المناخُ النفسيّ، من جهته، قافيةَ القصيدة وسماتٍ أخرى لبنيتها الصوتية العامّة وحسب وإنما تستدرج القافية والسمات المشار إليها صوراً وتعابير نفسية تمليها على الشاعر. فيشترك «الشكل» (إذا أجزنا هذا التقابل) في تعيين «المضمون» بعد أن يكون قد استجاب لهذا الأخير.

٭ ٭ ٭

هذه الملاحظة الأخيرة تردّني إلى جدالٍ كبير يتعدّى نطاق الشعر إلى نطاق اللغة أو إلى ما قد تجوز تسميته الشاعرية اللغوية. نعرف بدايةً لهذا الجدال عند أفلاطون الذي تتواجه في حواره المسمّى «كراتيلوس» نظريتان في أصل اللغة، ترى الأولى منهما في الكلمات أشباحاً أو صوراً صوتية للموجودات وترى الثانية في الكلمات ثمرات اصطلاح وتواطؤ أو تواضع في الجماعة اللغوية بحيث يتحدّد لكلّ دالٍّ مدلوله من غير افتراض محاكاة للأخير من جهة الأوّل. وقد كان أفلاطون من أصحاب الرأي الأوّل إذ هو الرأي الموافق لنظرية «المُثُل» بافتراضه أن الكلمات إنما تلتمس الشبه، لا بالأشياء، بل بالماهيّات التي تجسّدها المُثُل في عالمها العلوي… وأما لغويّو العربية فقد ذهبوا بهذا الجدال نفسه مذهباً دينيّاً فقال فريق منهم بالاصطلاح والتواضع ورأى فريق آخر في اللغة «وحياً» و«توقيفاً» يهتدي بهما الناطقون بها إلى المواءمة المرغوب فيها ما بين الدالّات ومدلولاتها…

لم تكن بنت يومها، إذن، نظريّة السويسري فردينان دو سوسور الذي اعتُبر منطلقاً للمدرسة البنيوية كلّها، في ميدان اللغة وفي ميادين أخرى كثيرة، لإرسائه نظرية العلامة اللغوية على ما سمّاه «التحكّميّة» أي على استبعاد الشبه، إجمالاً، ما بين اللفظة، بما هي سلسلة صوتيّة، ومدلولها، بما هو تصوّر. ذاك مبدأ من اثنين ثانيهما ما سمّاه سوسّور «خطّية الدالّ» وهو لا ينطوى على نظيرٍ للشحنة الجدلية التي في الأوّل. وأمّا «التحكّمية» تلك فهي ما يبيح اعتبار متن اللغة ـ أي معجمها ـ «نظاماً» للفوارق يتحدّد كلّ من عناصره، لا بذاته، بل بموقعه فيه، أي بالحيّز الذي تفسح له فيه شبكة العلاقات ما بينه وبين عناصر أخرى تتوسّع دوائرها باطّراد حتّى تشتمل على اللغة كلّها. ذاك تصوّر لمتنِ اللغة نسجه سوسور على منوال النظام الذي رآه متمثّلاً في بنية أصوات اللغة. فهو قد وجد أن هذه الأصوات إنما يتحدّد كلّ منها بالفارق الذي يرسم له موقعه في فئته من بينها، أوّلاً، وفي جملتها، بما هي منظومةٌ، على الأعمّ.

كانت السوسورية حين فرضت نفسها نموذجاً احتذي، على أنحاءٍ مختلفة، في علوم الإنسان والمجتمع كلّها وفي الفلسفة، تجد الحجّة الأوثق التي تسند إليها مبدأ «تحكّمية العلامة» في واقعة تعدّد اللغات بما هو بديهة حسّية نطاقها عالم البشر كلّه… فيتعذّر نكرانها أو التجاوز عن البحث في دلالتها. فإذا كان الدالّ، بما هو سلسلة صوتيّة، «يحاكي» مدلوله (على ما افترض أفلاطون مثلاً) فكيف جاز أن تتكاثر الدالاّت للمدلول الواحد هذا التكاثر كلّه وأن تختلف هذا الاختلاف البيّن كلّه من لغةٍ إلى أخرى. فلا يظهر شبه، لجهة التشكيل الصوتي، ما بين أسماء البقرة، مثلاً، في كلّ من اللغات العربية والإنكليزية والفرنسية؟

هذا السؤال بذلتُ محاولة منشورة للمجادلة فيه قبل نحوٍ من أربعين سنة. وقد أعود إلى فحوى هذه المحاولة في عجالةٍ أخرى. واليوم يعتبر المنحى البنيوي ذاوياً أو متروكاً بعد عزّ. فهو قد راح يفقد نفوذه بسرعة قبل أربعة عقود أو خمسة، وإن يكن لا يزال يجرّ هنا وهناك أذيالاً لما بناه من أمجادٍ متوسّلاً في ذلك صمودَ أعمالٍ كبرى للذين اعتمدوه أو استوحوه، لا في علوم اللغة على التخصيص، بل في الأنثروبولوجيا والتاريخ، على الأخصّ، وفي غيرهما من علوم الإنسان والمجتمع.

ذاك مجالٌ رحبٌ لا نجاوز هنا الرغبة في إثارة شهيّة القارئ للإلمام به إن كان من غير الملمّين. ولعلّنا نعود إلى بعض مسائل اضطربت بها جنباته في فُرصٍ أخرى تُواتي. وما ابتداء كلامنا هذا من الشعر وقوافيه وتخلّصنا من هناك إلى مسألة العلامة اللغوية إلا إشارة إلى توزّع المواقف في تلك المسائل، على تنوّعها، وفي النظمات المعرفية التي تتداولها، ما بين طرفَيْ إشكالٍ أصليّ واحد.

كاتب لبناني

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى