صفحات الرأيمحمد تركي الربيعو

المؤرخ الفرنسي أندريه ريمون: لا وجود لمدينة «نمطية» في التاريخ الإسلامي/ محمد تركي الربيعو

 

 

مع بداية القرن العشرين توزّع النقاش الدائر حول تاريخ المدينة الإسلامية في وجهات نظر متنوعة. فمن جهة كانت لدينا الرؤية التي أجمع أصحابها على فرضية وحدة شكل المدينة الإسلامية.

واستناداً إلى المعلومات المحددة التي جمعها بعض الباحثين أمثال وليام وجورج ماسية عن المدن في شمال أفريقيا، فإن هؤلاء المؤرخين سرعان ما صاغوا نموذجاً مدينياً معيناً طبقوه بعد ذلك على كل المدن العربية الإسلامية والتركية والإيرانية والأندلسية. وغالباً ما كان يرسم هذا النموذج بوصفه يتكون من السوق والمسجد والقلعة وأسوار المدينة، التي بمجموعها تمثل السمة المشتركة لكل المدن الإسلامية. من جهة أخرى، قام بعض المؤرخين أمثال الفرنسي جان سوفاجي، ببحث مشابه في بعض المدن السورية مثل مدينة اللاذقية ودمشق وحلب، ليتوصل من خلال هذا البحث إلى أن البنية المدينية الإسلامية للعديد من المدن السورية تخفي تخطيطاً هيلينياً بالأساس.

بيد أن وجهات النظر هذه، خضعت مع خمسينيات القرن العشرين لنقد أولي، كما في حالة إدموند باوتي الذي عمل على تصنيف جديد للوحدات المدينية الإسلامية استناداً إلى عوامل جغرافية واجتماعية واقتصادية بدل النماذج النظرية السابقة، وقد اقترح في هذا السياق التمييز بين المدن المنظمة والعفوية، مستنتجاً أن الملوك والسلالات هم من أسسوا العديد من المدن الإسلامية. وعلى الرغم من هذه المحاولات الفردية لتوسيع البحث حول المدينة الإسلامية ليشمل مناطق أخرى من العالم الإسلامي ومعالجتها من زاوية بنيتها المادية، فقد استمر البحث – حسب دراسة الباحثة الإيطالية جوليا نغليا «ملاحظات تاريخية ـ بيانية حول المدينة الإسلامية» لغاية ستينيات القرن العشرين، داخل الحقل المتعلق بدراسة تاريخ المدينة يعيش في ظل هيمنة للمؤرخين الفرنسيين وعلماء الاجتماع الإنكليز الذين استمروا في دراسة المدن الشمال أفريقية من أجل تحديد نموذج مديني يسري على مدن العالم الإسلامي كافة. لكن بعد عام 1970، وفي إثر نقد مقاربة البحث حول المدينة الإسلامية، بدأ النقاش (حسب الدراسة السابقة) يتنوع بفضل مساهمة علماء الجغرافيا والاجتماع والمعماريين الإنكليز والأمريكيين الذين رفضوا النموذج الموحد والمجرد الذي تم اقتراحه حتى تلك الفترة. وبدلاً من ذلك، صب هؤلاء اهتمامهم على دور الدين والاقتصاد والمجتمع في ترميز الشكل المديني والمجتمع الإسلاميين، ما أدى إلى تغيير في المقاربة وإلى اتجاه جديد سيطر على حقل الدراسات التاريخية للمدينة الإسلامية. في هذا السياق مثلت دراسات المؤرخ الفرنسي أندريه ريمون التي حملت عنوان «المدن العربية الكبرى» حجر أساس لهذه المقاربة البديلة، إذ رفض معظم المزاعم الاستشراقية التي تحدثت عن ركود المدن الإسلامية العثمانية وتخلفها اقتصادياً، كما أنه رفض في الآن نفسه بعض التأويلات المعاصرة التي قدمها بعض المؤرخين والمعماريين من أمثال يسيم حكيم (المعماري في جامعة هارفرد) الذي رأى في دراسته «القانون والمدينة» أن معظم القرارات المعمارية المتعلقة ببناء مواقع المساجد والسوق وترتيبه، بالإضافة لقرارات البناء على مستوى الجار والحارات، كانت بالأساس تدور في مدار الشريعة الإسلامية، الأمر الذي رفضه ريمون انطلاقاً من أن أي رؤية للظواهر الحضرية من زاوية دينية فحسب، سوف تُظهِرُ الظواهر المدينية والحضرية في المدينة كثوابت في إطار استمرارية تاريخية تمتد ثلاثة عشر قرناً، وعلى امتداد عالم إسلامي يغطي ثلاث قارات وصولاً إلى الصين البعيدة. وفي السياق نفسه، أشار ريمون إلى مشكلة أخرى حيال الرؤية للمدينة الإسلامية، هذه الإشكالية تتعلق بـ«نفي الزمن»، فالمستشرقون وكذلك غالبية المؤولين المعاصرين، تصرفوا كما لو أن المدينة القديمة الموجودة أنقاضها تحت أنظارهم توفر رؤية قابلة للاستعمال المباشر عن المدينة «الكلاسيكية» (من القرون الوسطى). في حين أنها – حسب ريمون – ليست سوى النسخة المعاصرة أي العثمانية عن هذه المدينة، كما تكونت على مر ثلاثة أو أربعة قرون. كما أنه لا يمكن إعادة بناء المدينة الكلاسيكية فقط من خلال تحليل يستند إلى المصادر القديمة حصراً. فتاريخ هذه المدن كان من الطول ومن التعارض بحيث يصعب علينا تقديم تفسير متجانس عابر للمراحل التاريخية لها.

ووفقاً للاعتبارات السابقة، توصل أندريه ريمون في دراسته «التنظيم المكاني للمدينة» إلى نتيجة مفادها أنه «لا وجود لمدينة مسلمة» نمطية واحدة كما ظن بعض المستشرقين. ذلك أن الفكرة القائلة بوجود مجال حضري مشترك من المغرب إلى أفغانستان على الأقل، لا تستند فقط إلى انطباع بوجود قواسم غامضة مشتركة، أو إلى حس عام مباشر. هنالك بالتأكيد مجال حضري مشترك يتجاوز المجال العربي: سمات بنيوية حضرية معينة مثل (تمركز الأسواق في قلب المدينة، وجود الأحياء المغلقة، غلبة المساكن ذات الباحة المركزية) وهي موجودة من مراكش إلى هرات، إلا أن هذه السمات ليست إسلامية حصراً، فقد سبقت الإسلام أحياناً وبدلاً من ذلك يقترح ريمون أن تجري محاولة وصف مدينة عربية، متوسطية خلال الفترة الأخيرة من تطورها، خاصة منذ بدايات القرن السادس عشر وقبل التغيرات الكبرى التي طرأت منذ القرن التاسع عشر وما بعده، وهو ما يمكننا من دراسة التطورات الحضرية للمدينة ومقارنتها ببعض المدن الإسلامية في البلقان والأناضول وإيران، بحيث يساهم ذلك في تبيان مدى تنوع المدينة الإسلامية بدل الرؤية النمطية السائدة عن المدينة بوصفها تتكون من (سوق، جامع، سور). وكمثال عن هذه الرؤية النمطية يناقش ريمون فكرة لطالما رددها بعض المستشرقين وبعض المؤرخين المعاصرين حول مواقع الفقراء والأغنياء داخل الحيز المكاني للمدينة، الذي كان يتسم برأيهم بالتنوع والاختلاط داخل الحي، الأمر الذي ردوه لكونه ناتج عن المساواة التي يفترض أن يتميز بها المجتمع الإسلامي (مجتمع المؤمنين). بينما يرى ريمون أن هذه الرؤية تبقى غير دقيقة (رغم أنها تدعم فكرة مجتمع إسلامي مثالي)، ذلك لأننا نجد في مدينة مثل القاهرة كيف أن الفضاء المكاني في القرن الثامن عشر قد انقسم إلى ثلاث مناطق تتدرج من المركز ويوجد فيها مسكن ميسور ومسكن عادي ومسكن متواضع. وفي معرض دراسته لمختلف فئات البناء القديم في حلب، لاحظ جان كلود ديفيد وجود منطقة سكنية رفيعة المستوى في المركز قرب «المدينة» والقلعة، ومنطقة سكنية متواضعة أبعد منها ومنطقة سكنية شعبية في الأرباض.

وبالتالي كانت المناطق المجاورة للمركز داخل بعض المدن التقليدية العربية تحتوي إذن على مساكن ميسورة وبرجوازية على غرار تلك الموجودة في فاس وتونس العاصمة والقاهرة، والتي تتميز بباحتها المركزية وبكبر مساحتها، وهو ما يسمح بالتوسع في استعمال الغرف وبتنميق الزينة. في المقابل كان وجود مسكن ذي طابع جماعي من نوع الربع (المباني المؤجرة شققاً) يسهل وصول الطبقة الوسطى في القاهرة إلى المناطق المجاورة للمركز، وغالباً ما أدّت الخانات (الفندق، الخانة، الوكالة) هذا الدور بالنسبة للطبقة الوسطى في القاهرة وفي المدن الكبرى الأخرى. وفي المناطق «الوسيطة»، حافظت المنازل على السمات العامة المتمثلة في المنزل ذي الباحة، إنما بقياسات أصغر، وكان هنالك منازل أكثر بساطة بدون باحة.

بالإضافة لذلك، يرى ريمون أن هذا التنوع في المساكن يخالف بشدة الرؤية الاستشراقية القائمة على وحدة النموذج في ما يتعلق بالمنازل الإسلامية المرفقة بباحة داخلية، إذ بدا أن أغلبية النماذج المدروسة، ولاسيما في فاس والجزائر العاصمة وتونس العاصمة والقاهرة وحلب، هي كناية عن قصور كبيرة أو صغيرة لا تخص سوى الطبقة المتوسطة والطبقة الغنية في هذه المدن، ناهيك بالمسكن العال غير المرفق بباحة الذي تكثر نماذجه في منطقة البحر الأحمر.

وفي جانب آخر، يرى ريمون أنه لا بد من تصحيح فكرة تتعلق بإدارة المدينة الإسلامية، ولا سيما أن موقف المستشرقين الذين قادهم باحثون من أمثال الفرنسي جان سوفاجي في هذا المجــــال، كان سلبياً جداً، وذلك لإشاعتهم لفكرة أن المدينة المسلمـــة كانت تدار بشكل ضعيف لا بل أنها لم تخضع لأي إدارة. في حين أظهرت أبحاث أكثر عمقاً – بحسب ريمون- أن غياب الإدارة المزعوم على مستوى المسؤولين السياسيين من نسج الخيال، إذ أن بناء ونقل بعض الأسواق في القاهرة أو تونس العاصمة، كان حدثاً حاسماً في مجال البنية الحضرية، وعادة ما كان يجري اتخاذه على أعلى المستويات (السلطان في القاهرة والباي في تونس)، كما أننا نجد أن توسيع مدينة مثل حلب في القرن السابع عشر قد تمت عبر إجراءات منسقة اتخذها الباشوات.

وقد أدت الطوائف تحت إدارة شيوخها دوراً مهماً في إدارة المدينة وشؤون السكان. فهي نظراً إلى تنوعها الكبير وإلى تنوع المناطق الجغرافية التي وجدت فيها (المناطق المركزية فيما يتعلق بالاتحادات والمناطق السكنية فيما يتعلق بتجمعات الأحياء)؛ شكلت شبكات محكمة في استطاعتها ممارسة رقابة متعددة الأوجه على السكان وعلى الحياة الحضرية. فقد ضمت القاهرة نحو 250 اتحاداً مهنياً و100 تجمع داخل أحياء، إضافة إلى طوائف دينية وإثنية مختلفة. ولربما هنا يتوجب البحث عن مؤسسات موازية للمجتمع المدني الذي يقلق غيابه الواضح اختصاصي العلوم السياسية.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى