صفحات الرأيمحمد تركي الربيعو

المعماري اللبناني إيلي حداد: نعيش اليوم فكرة “موت المدينة”/ محمد تركي الربيعو

 

 

يعد موضوع الذاكرة التاريخية والاجتماعية للعمارة، واحدا من المواضيع التي لا تحظى باهتمام واسع داخل حقلنا الثقافي العربي، حيث ما تزال النظرة إلى مسألة العمارة وكأنها مجرد وظيفة خدماتية هدفها «تجهيز المدن» والضواحي وتأمين الحاجات الوظيفية من سكن إلى مبان حكومية ومؤسساتية، من دون أي عمق فلسفي، اجتماعي أو سياسي. وبالتالي عادة ما يتم تحجيم دور البعد الأنثربولوجي للعمارة إلى مسألة هامشية تتعلق بالذوق الشخصي للمستهلك، أو للمطور العقاري في أغلب الأحيان.

وللأسف هذا التجاهل والمفهوم الخاطئ للعمارة ولدورها التاريخي كغلاف حيوي للأنشطة الاجتماعية، بات يمتد إلى قسم كبير من التلامذة في كليات العمارة في جامعاتنا العربية، حيث اكتسح النمط الاستهلاكي الكلاسيكي لدراسة العمارة مستبدلا إياها بمفاهيم «استعراضية» تحولها إلى سلعة تسويقية ضمن مجتمع «مشهدي» بات أسيرا لطغيان استبدال التراث الثقافي أو المادي بمستوردات اصطناعية الشكل ومفرغة المحتوى، وأصبح أمرا طبيعيا لا يثير سخط المجتمع واستهجانه، لا بل ينال الاستحسان من أكثريته.

في هذا السياق يرى الأكاديمي والمعماري اللبناني إيلي حداد في كتابه «إشكالية العمارة الحداثية» ـ دار الفارابي، أننا نعيش اليوم نهاية فكرة المدينة. ذلك أن الأخطار التي تهدد مدننا ما عادت تتعلق بأمور التلوث البيئي والتزايد السكاني فقط، وإنما أخذت تمتد إلى مفهوم المدينة كجسم يجسد حضارة ما وفلسفة للحياة، خاصة في ظل خطر الذوبان داخل «الاقتصاد العالمي الحر» الذي لم يعد يتوقف عند خصوصيات معينة، بل أخذ يبرر لنفسه إزالة مناطق سكنية كاملة إذا ما تبين أن هناك حاجة إلى منشآت صناعية أو تجارية في ذلك المكان.

وبرأي حداد، فإن الإحساس الفني في فترة ما قبل الحداثة كان يلعب دورا أساسيا في وضع تصاميم جذابة وعملية للمدن، بينما يرزح عالمنا اليوم تحت القوانين والنظريات التي لا توصل إلى النتيجة المرجوة. فالفنان والمعماري في عصرنا أصبحا يفتقدان شيئا أساسيا، ألا وهو الإحساس المرهف بالأشياء وعلاقتها بعضها ببعض، أضف إلى ذلك تلزيم عملية تصميم المدن في معظم الأحيان إلى مهندسين مدنيين يرون المدينة مجموعة من البنى التحتية لا أكثر. وبخلاف المبادئ الحداثية التي تفضل تحرير الأبنية بعضها عن بعض، ومنها لأسباب صحية، عملية أو أيديولوجية، فإن المدن التاريخية كانت تشهد على مبدأ التلاصق بين الأبنية وحتى الدينية منها لا تنجو من هذا التدبير.

من جانب آخر، يرى أن النظريات الحداثية الجديدة، وأبرزها نظريات لوكوربوزيه في «المدينة المشعة» أعطت أولوية للعوامل الطبيعية مثل الهواء والشمس والضوء، ودورها في تنقية وتطهير المدينة التاريخية، لتعيد تركيبها على أسس جديدة، مترجمة بذلك فكرة الإنسان الجديد المحرر من النسيج التاريخي الذي وصفه لوكوربوزيه بـ«طريق الحمير»، الذي أخذ يعني أن المخطط المعماري في هذه المدن التاريخية لا يعدو كونه مخططا رسمته حوافر الماشية في شقها للطرق، وأن البديل يكمن في المدينة المنظمة على أسس عقلانية ومبنية على محاور هندسية تلعب فيها وسائل النقل الحديثة الدور الأبرز في رسم هيكليتيها.

العمارة وما بعد الحداثة:

من جهة أخرى، يرى حداد أن هذه النظريات الحداثية لم تلاق النجاح المنتظر عند تطبيقها داخل المدن الأوروبية والأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، فأدت لردات فعل مضادة لهذه الطروحات في الستينيات ومن مجالات مختلفة. فالباحثة في علم الاجتماع جاين جاكوبز، أظهرت في كتابها «موت وحياة المدن الكبرى الأمريكية» أن اكثر الأحياء أمانا وحيوية في المدن ليست تلك التي رسمها مهندسو المدينة في القرن العشرين، وإنما تلك الأحياء التاريخية التي نشأت بشكل طبيعي عبر القرون، ومن أبرز خصائصها الاختلاط الطبقي الاجتماعي. تنوع أشكال العمارة فيها، إضافة إلى أهمية أرصفة المشاة كأماكن للالتقاء في المدينة، وبعدها يأتي دور الحدائق العامة في الأحياء المختلفة، ومن ثم دور الأحياء السكنية في المدينة. ووفقا لحداد، فقد شكل الرصيف، هذا التفصيل المبتذل في مدننا، أحد الأسس لحياة الناس في الأحياء العربية التقليدية، حيت تشكل النشاطات المختلفة عبر النهار، من النساء اللواتي يخرجن في نزهة صباحية إلى النشاطات الاقتصادية إلى الأولاد الذين يلعبون بعد الظهر على الرصيف، سيمفونية حياتية غير ممكنة في الأحياء التي تفتقد هذا المجال الحيوي.. ووفقا لحداد، فإن ما سمي بـ»ما بعد الحداثة» لا يمثل بالضرورة عودة رومنطيقية يائسة إلى ماض لم يعد موجودا إلا في الخيال، بل هو عودة تسعى بالأساس إلى خلق أشكال جديدة تتناسب مع واقع المدينة التاريخي، وبالتالي تؤمن استمراريتها. هذه الأشكال في النتيجة تصبح عند تكوينها «جديدة – قديمة» أي تختلط فيها الحداثة مع التراث، والواقع مع الذاكرة. فالإيطالي ألدور روسي، مثلا الذي يعد واحدا من أهم رواد الرؤية ما بعد الحداثية للعمارة، رفض فكرة تحويل المدينة التاريخية إلى متحف يفتقد الحياة، بل أصر على فكرة الاستمرارية في حياة المدينة والتفاعل الدائم بين الحاضر والماضي والمستقبل..

فالصرح المدني بالنسبة إلى روسي يلعب دورا مهما في استمرارية المدينة، وهو لا يرتبط بشكل محدد أو بوظيفة معينة، إنما يتحول ويتأقلم مع الزمن، وهو لا يقتصر على الأبنية أو الصروح المهمة فحسب، إنما قد ينتشر إلى تشخيص منطقة ما أو شارع بأكمله.

وبناء على الرؤية السابقة لروسي، يجري مقارنة بينه وبين مشروع المعمارية الراحلة زها حديد، فيتبين لنا (بحسب حداد) مدى الاختلاف الشاسع بين النظرتين المعماريتين. مشروع حديد انطلق من نظرة مستقبلية إلى المدينة، تترجم بعض المبادئ التطورية من «سرعة» و»حركة» و»ديناميكة» إلى أشكال تجسد هذه الطروحات وتشكل الإطار المسبق للوظائف التي توضع فيها. في نظرية حديد، تختفي المدينة إذن بمكوناتها الكلاسيكية لتحل محلها فكرة الفضاء المفتوح الخاضع لمنظومات العصر الحديث. أما عند روسي فإن المدينة تبقى «مكانا» لحياة المواطنين، حياة أبناء المدينة الذين يؤمونها ليتجولوا في ماضيهم، كما في الحاضر، وعلى أقدامهم وليس في سيارة مسرعة في جادات واسعة بلا أفق. تبقى المدينة أكثر من حفنة تراب أو مجال للاستثمار والربح المادي في نظر المعماريين الذين يؤمنون بالدور الاجتماعي ـ الحضاري الذي تلعبه المدينة، والذي يتخطى «اللعبة» التشكيلية التي جذبت العديد من المعماريين في عصرنا. فالبناء الواحد ليس هو الأساس في عملية تكوين النسيج المدني، إلا إذا كان له دور محوري في حياة المدينة (الجامع/الكنيسة/المدرسة/المركز البلدي….) أما الجهود التي يبذلها المعماريون لإظهار كل بناء جديد وكأنه فريد في محيطه إنما هي عملية متناقضة مع الأسس المدنية المبنية على المشاركة والتفاعل والانسجام، وهذا ما أصبحنا نفتقده في الكثير من المشاريع الحديثة، كما في نظرتنا الأوسع إلى المدينة.

المدينة والفساد السياسي في بيروت

وبالعودة إلى الفكرة الأساسية التي طرحها حداد في بداية كتابه حول «موت المدينة»، يرى الكاتب أن الفساد السياسي قد أسس لفساد اجتماعي وثقافي تظهر نتائجه في مختلف أشكال الفن من نحت ورسم إلى مسرح وعمارة، وهي في معظمها تشكل إفلاسا فنيا قياسا على التجارب العالمية. وهنا يشير حداد إلى رؤية عالم العمارة العراقي رفعت الجادرجي الذي يرى «أن فن العمارة مرتبط بواقع محيطه، وليس عليه بالتالي أن يكون تابعا لأشكال العمارة التي تظهر في الغرب، بل عليه أن يلعب دوره كأحد الأسس للاجتماع حيثما ينشأ.» ولكن كما يشير أيضا هذا المعماري «فإن العمارة لا تبقى خارج تحولات العصر وإنجازاته». إن الفساد المعماري الذي نعيشه يتجلى أيضا في انهيار الأسس المدنية للعمارة التي من شأنها أن تؤمن التمايز بين المدينة والقرية وتحافظ على المساحات الخضراء والأبنية القديمة.. كل هذا يشهد الآن عملية تدمير كاملة تحت تأثير لعبة الاستثمارات العقارية وغياب تام للأقانيم التي من شأنها الحفاظ على البيئة كأساس للحفاظ على الاقتصاد والاجتماع.

ولمواجهة هذه الإشكالية، يقترح علينا الاستفادة من بعض التجارب التي حاولت التوفيق بين المفاهيم الحداثية والتقليدية للعمارة (الصين مثلا)، التي رغم استيرادها لأعمال نجوم العمارة الغربيين في العقود القليلة الماضية، في سياق مجاراتها للعبة الاقتصادية العالمية، إلا أنها لم تمنع جيلا جديدا من المعماريين الصينيين من أن يبحث عن خط وسطي يرتكز في جانب من جوانبه على إعادة إحياء التقنيات الحرفية واستعمال المواد المحلية، خصوصا الطبيعية منها، مثل الخشب والخيزران، وهو ما سمح بأن يحل البحث عن الحواس والجمالية الداخلية مكان طغيان المظاهر الخارجية المذهلة التي تطبع العمارة السطحية المستوردة من الخارج، وبذلك تعود العمارة إلى نطاق الطبيعة بدل تأكيدها الانفصال عنها، خاصة أن التاريخ – وفقا لحداد- لن ينظر بانبهار إلى الإبداعات المستوردة والمنقولة من الخارج، بقدر ما سيلتفت بإعجاب إلى نتائج المحلي الذي يأتي نتيجة تطور وصراع طبيعي مع مسلتزمات المكان والزمان وطبيعة الأرض والمناخ، ونتيجة تفاعل مع الرغبات الجماعية التي تستمد بدورها شرعيتها التاريخية من التراث والهوية، وهذه كلها يصعب على أي معماري أجنبي قراءتها أو استلهامها في زيارة مؤقتة إلى بلدان أخرى.

هذه ليست دعوة للتقوقع أو الرجوع إلى الوراء، بل إلى إعادة اكتشاف الذات، مع اليقين الكامل بموقعنا التاريخي، كي لا نفقد ارتباطنا بالزمان والمكان. ففي وجه غطرسة مفهوم «الإبداع» الذي يرتكز على الاقتصاد الحر وعلى التدمير المنهجي للنسيج المديني، لا بد لنا من تقديم رؤية أخرى للإبداع ترتكز على احترام التراث القديم والحديث وعلى مقاومة الاستيراد اللانقدي للمفاهيم الغربية. عندئذ فقط يمكننا إعادة اللحمة التاريخية مع التراث الإقليمي والمحلي، بشكل يعيد إلى الحركة التاريخية قيمتها وارتباطها بواقعها السياسي والاجتماعي…

٭ باحث سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى