صفحات سورية

بين شيخ عقلها وعقولها… للسويداء حكمتها واحتجاجها الخاص

 

 

ماذا يقول أهل «الثورة السورية الكبرى»

عـن جارتهـم درعـا وحـراك سـوريا؟

غدي فرنسيس

إسأل من تشاء في سوريا ـ من أعلى الهرم الاجتماعي والسياسي والعسكري، إلى أدناه ـ عن السويداء وموقفها، سيكون الجواب واحداً: «السويداء مع الرئيس حتى العظم».

لكنك لن تحصد إعجاباً أو تضامناً مع «النظام الأمني» أو مصطلحات مثل «مندس» و«مخرّب» سوى ربما عند مزارع بسيط يعتمد على الإعلام الحكومي ويثق به، وهو يمثل شريحة تعكس نصف المجتمع السوري اليوم. ستلمس في الشارع «حساسية» تجاه أهل درعا ربما، نسبة لما يسميه الشارع «صراع الأخوين» التاريخي بين المحافظتين. ولكن إسأل شيخ العقل، سيجيبك: «حوران واحدة بسهلها «درعا» وجبلها «السويداء».. ونحن مع الرئيس وضد المؤامرة».

سر قليلاً في الأسواق، بين المتاجر ستعثر على بائع معترض متذمّر مقهور، يلازمه الحاسوب و«الفيسبوك»، يتابع «الانتفاضة» بنهم المشتاق. اسأل عن الشيوعي، عن القومي، عن اليساري العلماني المستقلّ، ستجده هو أيضاً يتخبّط بين الأحداث والواقع ويحاول بلورة رأي واضح. أنا مع مَن، وضد مَن؟ أنا لن أضع نفسي في خانة محددة، هناك ما أوافق عليه وما أرفضه في الطرفين: الشارع والنظام. أنا السويداء، جبل «الكرم والكرامة» الملاصق لدرعا. أنا الثورة السورية الكبرى وسلطان باشا الأطرش، يوميّاً أقول «ثورة» عشرات المرّات، وانقلها وأورث قيمها من جيل إلى جيل. أين أنا من هذا الحراك الذي سمّاه البعض «ثورة»؟

الجزء الأول: «العقل» هو الشرع الأعلى

في «سهوة البلاط»، مضافة لشيخ عقل مختلف عن نظيريه في مشيخة السويداء الثلاثية. اسمه الشيخ حمود يحيى الحناوي. الشارع بضفتيه يعتبره موئلاً معتدلاً، وملجأ عاقلاً هادئاً، ومرشداً. فهذا شيخ لا رفاهية في مضافته ولا اتصالات هاتفية يومية مع المسؤولين في رصيده. شيخ حزّمت أظافره صبغة التراب البركاني الأسود من كثرة التقائه بالأرض لزراعتها، كأنه حجر آخر من أحجارها، أو شجرة من أشجارها.

تحت صورة جدّه وإرث أبيه، يفاخر الشيخ حمود بتاريخ أهل الجبل في قهر المحتل ودحره. لوحة جده، شيخ العقل الأول لطائفة الموحدين في جبل العرب الملقب «سيف الدين»، تروي وحدها الحكاية. في الرسم، شيخ خلع عمّته وحملها في يمينه ليسدّ بها مدفعاً تركياً في إحدى معارك التاريخ.

أما الحفيد، الذي يقارب السبعين من العمر، ففي وجهه وكلامه اتزان المثقف المتعقّل. درس الأدب العربي ودرّسه 27 عاماً، في سوريا وفي مهجره في الخليج. عمل في جريدتين خليجيتين أثناء اغترابه. اختلط وخالط المجتمع وأفكاره حتى اكتسب رؤية عامة ميّزته في الشارع عن نظيريه في المشيخة.

تعرّض كلامه للتحريف و«القصقصة» في منابر الإعلام السوري الرسمي، فولّد ذلك عنده توجّساً من الإعلام. ولكن في مضافته، يحكم على مقولة «سيماهم في وجوههم»، ويبوح لصحافية لبنانية، عن معاناة السويداء ووضعها الاقتصادي، كما يعبّر عن رأي السواد الأعظم من الشارع. فالمشيخة كانت ولا تزال، المرجعية الاجتماعية والسياسية والفكرية الأولى في جبل العرب. صمام أمان تحلّ تحت سقفه النزاعات وتعقد المصالحات. معبر مطالب السويداء إلى قصر الشعب، ومعبر محبّة قصر الشعب إلى قلوب أهل الجبل.حوران واحدة… حاولنا لمّ الجراحفي وصف العلاقة بين درعا والسويداء، يقول «هما معاً حوران، السويداء جبلاً، ودرعا سهلاً». البيئة واحدة ومستوى المعيشة واحد والمعاناة واحدة. ما يؤلم المحافظتين يؤلمنا جميعاً. لم نكن لنتمنى ما جرى. حاولنا منذ اللحظة الأولى لمّ الجراح وتدخّلنا مع إخواننا في حوران، وبالاتصال على مستوى رفيع في الدولة التي كانت إيجابية إلى أبعد حدود. لم نوفّق بالتواصل الإيجابي نظراً لتطوّر الأحداث داخل درعا وخارجها. كان مسعانا قائماً على الخير ورأب الصدع وإنهاء الأزمات. لكن الأمور على ما يبدو، كانت فوق طاقتنا كأفراد… ونأمل «أن تعود المياه لمجاريها لنعيش بأمن وسلام».

وبالحديث عن المياه ومجاريها، فإن حوران الواحدة، بسهلها درعا وجبلها السويداء، تعاني من مشكلة الري. لطالما كانت آبار الري سبباً لغيرة السويداء من درعا. رغم أن درعا لم تكن واحة المياه للمزارع، بل لأصحاب الامتيازات من المستثمرين إلا أنها تشتهر أيضاً بالكثير من الآبار المخالفة التي غضّ الأمن الطرف عنها، مقابل الرشوة التي هي خبز يومي في مفاصل فساد الدولة في الدوائر الرسمية.

يشرح الشيخ عن معاناة السويداء من الجفاف وقحط المياه، للشرب والري، وجفاف بعض الآبار. كما يعطي نبذة تاريخية عن هذه المعاناة وحلولها من أيام الرئيس الأب إلى الابن. يفيد أنه أخيراً أثبتت الحقائق العلمية والوقائع المكتشفة أن السويداء تعوم فوق أحواض مائية ضخمة. يرد الفضل إلى الرئيس بشار الأسد فهو «أمر بحفر هذه الآبار، التي بلغ عددها مئة بئر، منها ما أنجز ومنها ما هو قيد الإنجاز، وهذه لفتة لن تنساها السويداء وأهلها».

أموال الاغتراب وعراقيل الصناعة

بالنسبة للدخل في السويداء، فإنها تعتمد وبشكل أساسي على الاغتراب في فنزويلا والخليج. فكل مشروع أو منشأة صناعية أو خدماتية ستجد خلفها مغترب. الأبنية والمعامل، مصنع «البلاستيك» ومعمل «عصير الجبل» اللذان يورّدان إلى جميع المحافظات السورية، وحتى الفرن على مدخل السويداء لصاحبه الشاب ذي اللباس واللهجة الأميركية، كلها أموال استثمار جمعت من الخارج.

يلمح الشيخ في سياق الحديث عن الصناعة عن امتعاضه من صعوبات الصناعة، وهو على الأرجح اشارة ضمنية الى سيطرة الأمن وضباطه على إعطاء الرخص والتسهيلات الصناعية والرشوة. ولكن في لغته التي تراعي موقعه، قال: «أما بالنسبة لاستخدام الطرق الحديثة على المستويات كافة، من بداية الطريق كنا نلحظ دائماً أن أي توجّه صناعي في المحافظة، يواجه بعراقيل تستدعي التساؤل، ومع هذا كانت السويداء تترفع عن كل الجوانب التي تعيق السير الوطني، وتحتفظ بكرامتها وعزة نفسها وإبائها رغم الحرمان».لماذا لم تتضامن السويداء

مع أختها درعا«هذا سؤال طُرح علينا كثيراً» يردّ الشيخ الحناوي. وكما ذكر سابقاً، كان هناك تضامن «وفاقي» يقوم على مسعى الخير منذ البداية. هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى بحسب شيخ العقل، «لم نكن على اطلاع بشكل دقيق على الأهداف التي تقع خلف هذه الأحداث. لذلك لا نستطيع أن نحدد موقفنا من دون معرفة وعلم ودراية. لم تتم استشارتنا بالمواقف المتخذة حتى نبيّن رأينا الذي ينطلق من مصلحة البلد وأمنه. لا نستطيع أن نسير في طريقٍ من دون رؤية واضحة وسليمة. هذا الوطن الذي ضحّت محافظة السويداء بأكثر من خمسة آلاف شهيد من اجل استقلاله وجبلت ترابه بالدم، لن نفرّط أو نغامر بذرة تراب من ترابه.

نحن لا يمكن أن نضع أنفسنا في مواقف غير مدروسة وغير واعية من دون أن يكون لنا رأينا المعتمد على الحقيقة والضمير الوطني. نحن إسلاميو الانتماء، توحيديو المذهب، سوريو الوطن، عروبيو الأصل، إنسانيو النزعة. لا نفتي بالقتل إلا بحق، ولا نسفك الدماء إلا من اجل الوطن.

المطالب مشروعة ولكن

المطالب مشروعة، ولكن الوصول إلى الأهداف النبيلة يحتاج إلى وسائل سلمية وعاقلة. التخريب والفوضى عرقلة للإصلاح. الهدم والحرق وتدمير البنى التحتية وسفك الدماء وسائل منحرفة. حتى يتم الإصلاح علينا تحديد أسباب الفساد.

ليعلم رجال الدين أن رسالتهم أمانة في أعناقهم لنشر الوئام والمحبة والتسامح واجتناب القتل. من هو الذي يموت ومن هو الذي يستشهد؟ إبن، أخ، شقيق، أب. القتل لا يجوز إلا دفاعاً عن الأرض والعرض. من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً.

هذا في حديث الشيخ الظاهر، وفي الخلفية خوف طبيعي من «بعبع» متوارث ومتفق عليه في صفوف الأقليات المسيحية والدرزية في سوريا. وهذا ما يتضح ختاماً في حديث شيخ العقل الحناوي «الطائفة الدرزية ليس لها أهداف انفصالية. نحن عرب سوريون لا فرق عندنا بين مذهب ومذهب، ولا حزب وآخر، ولا عرق وآخر. لا تمييز ولا تكفير ولا تصنيف. السوريون كلهم في حمى الدستور وظل القانون. ما نؤمن به هو الاحترام المتبادل وعدم إلغاء الآخر. نشدد على الحرص في تغليب العقل لمعالجة الأمور.

الجزء الثاني: بعيداً عن النظرة الدينية، النظرة العلمانية تعارض

قد يعبّر رأي شيخ العقل عن تريّث وانكفاء غالبية أهل السويداء عن الحراك. فهو أصلا مجتمع ديني تقليدي مرجعيته الدائمة المشيخة. لكن هناك من خالف تقليديته. كسر اليساريون والحزبيون والنقابيون وبعض الشباب والبنات الثائرات، كما كسرت ابنة «سلطان باشا»، منتهى الأطرش، هذا العرف. هناك شريحة لا بأس بها من المجتمع، لم تكتف بالسكوت، لكنها تتريث عن الحراك في ظل القبضة الأمنية. ولها رأي مخالف لرأي مشيخة العقل، وداعم لانتفاضة كسر الخوف. ومعارض للنظام الأمني القابض على حياة السويداء مثل أختها درعا. لكنهم يتخبطون اليوم، يمثلون نموذجاً عن «تكسير الرأس» بالأفكار الذي يسود في كل لقاءات السوريين. هذه الموضة الجديدة في مقاهي المعارضة: أسئلة وتجاذب وأخذ ورد يدور حول الفلك ذاته: نريد دولة ومواطناً، لا «فزاعة» و«مدعوس».

شاعرة ثائرة: ضد الخوف، مع الدولة المدنية

شاعرتنا صاحبة خمسة دواوين. شعر جريء يرقص على إيقاع جسد المرأة والحب والثورة والرفض للمجتمع التقليدي الذي ولدت فيه. تقضي أميرة أبو الحسن أيامها مكتفية بثورة الإنترنت اليوم، رافضة أي رأي داعم للنظام من أينما أتى. فبرأيها، عندما تكون الدماء في الأرض، لا يحق لأحد ألا يتضامن.

«أنا أثور ضد الخوف. أنا علمانية لا يحكمني انتمائي الديني. لو لم أولد لأم وأب درزي، لكنت أي شيء آخر. رفضت انتمائي الديني لأن فيه هو خوف أيضاً. الخوف شرير، هو عدوي الثاني من بعد «الكذب». كيف أرضى بدولة إعلامها يبني الحواجز بين الناس في اللغة والخطاب، على مبدأ فرّق، تسُد».

اليوم، ليس من الممكن الرجوع إلى الوراء. ترى أميرة أن عجلة الانتفاضة لن ترتدع إلا إذا بانت إصلاحات حقيقية في شكل حياة المواطن وتفاعله مع الدولة. إلا إذا أصبح هناك مواطنة حقيقية تنصف الناس.

«ما يزعجني أني أخاف، من كلمة أكتبها، أني أخاف من التبلــيغ عن الفــساد، من قوة وسلطة الفاسدين». مشروعــها وثورتــها لإعادة بناء المواطــن الســوري عبر تعديــل المناهج التربوية.

ليست مع الشكل «الاسلامي» للثورة، لكنها متضامنة إلى أبعد حدود. فرغم أنها ترفض النقاب رفضاً قاطعاً مثلاً، تراها متضامنة مع حراك دوما ودرعا وغيرها الذي اتخذ شكلاً إسلامياً. فبرأيها، أن النظام وحكمه هو الذي أوصل المجتمع إلى تطرفه. فلم يكن هناك منبر سوى المنابر الدينية في ظل قبضة الخوف والظلم. «هم كبّروا الدين ليحموا أنفسهم». ما تريده: سوريا مدنية، فصل الدين عن الدولة. لكنها وبعينين مستديرتين تعلن انزعاجها من أسلوب التخوين ومن «تمثيلية الممانعة» كما تسمّيها. فبرأيها إن إسرائيل وأميركا ترتعبان من فكرة سقوط النظام السوري.

القومي والشيوعي:لا نتفق إلا على الدولة المدنية

للحزبين مشاكلهما التي يدركها المناصرون والمخاصمون. لكن رواد الفكر، ماركسي كان أم سوري قومي اجتماعي، لا يستطيعون أن يجدوا انفسهم ضمن نظام الحزب البعثي الواحد. لكن ما يختلف عليه الاثنان، وفق شابين ينتميان الى الحزبين: هو أن الشيوعي يريد الثورة كيفما كانت، أما القومي فيريدها ضمن الثوابت. الاثنان ينتقدان بقسوة. فعبارة «بلطجية الأمن» على لسان شاب سوري قومي، لم تكن لتسمع من قبل. كما أن خريج الإعلام الثلاثيني يدافع عن حراك النخبة في السويداء: «تحرّك المحامون ورفعوا بياناً فتصدى لهم «البلطجية»، أيعقل أن يجــابه المحامي بشاب أمي يحمل عصا؟ ورغم موقــع حزبــه في الجبهة وموقف حزبه اليوم الذي اتخذ «الإصلاح» سقفاً لخطابه المتأخر، إلا أن «حمد» يطالب بتحقيق الإصلاح عبر مبــادئ حــزبه الإصلاحية: فصل الدين عن الدولة، إلغــاء الحواجز بين المذاهب والطوائف، منع رجال الدين من التدخّل في السياسة. ويقوم مع رفاقه القوميين بدوريات يومية لتفقّد أمن وأمان القرى، كما يتدخّلون في مساعي التهدئة مع من لهم «مونة» عليهم حين يعلو صوت ثأري يتهدّد السلم الأهلي.

أما الصحافي، سالم ناصيف، المتحدّر من عائلة شيوعية ناضلت وسجن أفرادها بسبب آرائهم، ففي حدة معارضته سقف أعلى: ضد كل النظام بشكله الحالي، ومع كل أشكال الثورة. وينفي وجود أسلحة أو مندسين، ثم يعدل فيقول «ربما».

ورغم أن حزبه وفكــره يتعارض مع مبدأ النخبة، يتغنى بأن معارضة السويداء تتشكل من أطباء ومحامين وكتّاب وشعراء ومثقفين. ورغم اتضاح الشعارات الطائفية، يتهم السلطة بالترويج لها: «الشعار الطائــفي معروف يخدم من.. لا يخدم الثورة». وقبــل أن يذهب إلى الأخير في معارضته، يضيف: «إسقــاط النظــام لا يعني حكماً إسقاط بشار، فالنظام هو أجهزة الأمن».

إن أكبر خطأ ارتكبه النظام السوري، برأي الصحافي الشـــيوعي انه اعتمد أسلوب «ترييف» المدينة و«تمدين» الريــف، ما فرّغ الناس من أي موقف سوى الدين. بينــما يعتبر السوري القومي الاجتماعي أن الخـــطأ الأكبر كان في تعزيز دور المنابر الدينية والتضــييق على الأحزاب النهــضوية. لكنـــهما يتفقان على شيء جوهري واحد: المشــكلة في المجتمع، والحل في الدولة المدنية. والحــل يتبلور بتعديلات دستــورية وإصلاحات ملموسة. يختمان «حتى الآن، لم نلمس شيئاً من الإصلاح المنشود».

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى