أيمن الشوفيصفحات الناس

تحوّلات المدينة السوريّة وسلطة الحرب/ أيمن الشوفي

 

 

ترتدي المدينة في سوريا منذ سنوات لباس الحرب، تتغيّر ملامحها تدريجياً، فتصير جزءاً من أزمة خمولٍ حسيّ ومعرفي مركّبة، لدرجةٍ يصعب معها تصديق ما آلت إليه، وحال المدن السوريّة ليس متشابهاً سوى بالقليل، إذ استدرجت عسّكرة الصدام بين السلطة والمجتمع أصنافاً من التصفية العسكرية لمدنٍ بأكملها، أو لأجزاء منها، كما حيّد المسار الجغرافيّ للحراك الشعبي الذي بدأ في آذار/ مارس عام 2011 وطبيعة حوامله الاجتماعيّة مدناً أخرى عن خطوط النار والاشتباك المباشر مع النظام القائم، وتلك صارت مع الوقت تُعرف باسم «المناطق الآمنة».

لكن المدينة كتعبير واقعيّ عن مقدار التراكم المادي والمعرفيّ والجماليّ ظلّت تستقبل نتائج السياسة والحرب من دون أن تنتج فعلاً حياتيّاً ملموساً يقبل القياس لا في المدن الآمنة، ولا في المدن المنكوبة، ظلت المدينة السوريّة مترددة في تخطيّ الصورة النمطية لها حين تُظهرها كمدينةٍ تهدّمت مبانيها، ونَضُبَت من قاطنيها بعدّما هجّرتهم متوالية القصف اليومي، أو كمدينةٍ ابتلعها الغلاء وصارت تتعايش مع تقنين قاسٍ طال كلّ مستلزمات الحياة الأساسيّة فيها، وفي كلا النمطين تكون المدينة السوريّة قد خسرت فاعليّتها الأساسيّة في توليد السياسة، وفي خلق منظومات الإنتاج الفكريّ الحرّ، فهي قبل هذا كانت نسقاً من أنساق تفكير النظام القائم، أرادها أحد منتجاته المشوّهة، فجرّدها من الديناميّة السياسيةّ خلال نصف قرن من احتكاره للسلطة، ما جعلها تعيش عطباً طويلاً، ثم روّضها داخل سراديبٍ مغلقة، تاركاً إيّاها تتمدد إلى مجرّد عشوائياتٍ سكنيّة سخيفة ظهرت على أطراف المدن الكبرى منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي.

ثم وشمت الحرب المدن السوريّة بالحواجز العسكريّة والأمنية، فالكثير منها ينتشر داخل العاصمة دمشق وعلى مداخلها الرئيسيّة، مثلما ينتشر على طول الطرقات السريعة التي تربطها مع باقي المحافظات، وهذا أنتج مدينةً مفككة ماديّاً ومعرفيّاً، يتعثر التفكير والتنقلّ فيها، ويصير صعباً الوصول إليها من باقي المدن، وأنتج أيضاً سلسلة طويلة من مركّبات الخوف الاجتماعي، ومن تكريس التفكير المناطقيّ الانعزالي داخل الجغرافيا السوريّة التي تشظّت بمرور الوقت، فصارت مدناً منعزلة بعضها عن بعض، ونما التخندق الطائفي لدى الأقليات الدينيّة الموالية بمعظمها للنظام القائم، في حين تقلّص اتساع المدينة ورحابتها، وتقوّضت دعائهما الأساسيّة حين فكّك الظرف الموضوعيّ معظم الطبقة الوسطى وهي عصب المدينة وفلسفتها، بحيث ضاقت عليها فسحة الحياة الممكنة داخل المدن السورية المهدّمة منها، والآمنة على السواء مُشرِعةً الباب أمام هجرةٍ خارجية بلغت ذروتها خلال الأعوام الثالث الماضية، حتى أن الأنتلجنسيا باعتبارها أحد مكوّنات الطبقة الوسطى انفضّت عن مواصلة العيش في عاصمة البلاد، فبدأت تغادرها تباعاً منذ العام 2012، وهذا زاد من تطبيع المدينة السوريّة ومن إفلاسها أيضاً.

كما أن المدينة ليست أبنيّةً طابقية، وكثافةً سكانيّة فحسب، بل هي أيضاً نمط تفكير وإنتاج، وترجمة متقدّمة لمفردات العقد الاجتماعي، وانعكاس موضوعي لعقل السلطة، ولاجتهاد المجتمع في فهم مدنيّته، وهذا يضع المدينة السوريّة من الأصل في موضعٍ متخلّف، ثم تجيء الحرب فتزيد عليه تقهقراً إضافياً، إذ يصعب الآن تصنيف المدن السوريّة كلّها ضمن خانةٍ واحدة، ثمة مرجعيّات واقعيّة أعادت خلال السنوات الماضية تشكيل وجه المدينة في سوريا، بحيث تعيش المدن في المناطق الآمنة انتعاشاً ملحوظاً في البناء السكنيّ، وتوسّعاً في المخططات التنظيمية بعدما صارت أشبه بالأوعية الادخارية لفوائض السيولة النقديّة المنهوبة خلال الحرب، فيما يزداد نصيب المدن المدمّرة من الخراب ومن التهجير الممنهج يوماً بعد يوم، هذا عدا عن تجارب الحكم الذاتي لبعض التنظيمات الاسلامية المتشدّدة (داعش والنصرّة) في إلحاق نمط المدينة المعاصرة بنموذج المدينة التجاريّة التي أسسها الاسلام مع بداية دولته.

ولعل انحسار فاعليّة المدينة يعود أساساً إلى لحظة سقوطها في انقلاب 8 آذار / مارس عام 1963، حين وصلت إلى الحكم مجموعة ضباطٍ بعثيّين من أبناء الريف، كان سقوط المدينة وقتذاك سقوطاً مدوّياً لحاضرة البلاد، وكان حضور الريف السوريّ في السلطة حضوراً ثأريّاً اعتقل مفهوم المدينة وعذّبه، ملحقاً إيّاه مع مرور الوقت بمفهوم القرية المغلقة، وإن بمكوّن عمرانيّ وسكّانيّ أكثر اتساعاً مما هو عليه الحال في القرية النمطيّة، وهذا أسس مدنناً فقيرة، لا تصدّر السياسة، ولا تصنع السلطة، وإنما تُكمل دوراً ديموغرافيّاً مفترضاً في نظام شموّليّ أعاد إنتاج المكوّن المادي والمعرفي للمجتمع وجعله من لونٍ واحد لا يتبدل.

ولعلّ تهشيم المدينة السوريّة على هذا النحو باعتبارها مقياساً كميّاً ونوعيّاً لا يخطئ في تحديد سويّة تطور المجتمع جعلها عاجزة عن تحديد طبيعة القوى الاجتماعيّة الواقعيّة فيها، وهذه غابت عن مفاوضات «جنيف» بنسختها الحديثة، وبنسخاتها القديمة أيضاً، لتحضر بدلاً عنها سلطة الأمر الواقع من نظام الحكم الحالي، ومن قوى المعارضة، بذلك تظلّ المدينة في بؤرة الإلغاء، مهددة بمزيد من الشتات الوجوديّ، وبالشطب الحسابيّ من قائمة الموجودات لدى مكوّنات الدولة الراهنة.

فالمدينة السوريّة التي توهّجت في أربعينات وخمسينات القرن الماضي لتصنع سياسة البلاد وسلطتها، هي نفسها المدينة السوريّة التي بُترت أعضاؤها خلال حكم البعث الطويل فعاشت إعاقة طويلة امتدت لنصف قرن، وهي المدينة الحالية بصورتها المدمّرة، والمنهوبة، والهامشية والطاردة لقاطنيها، أو المستقطبة للمال المنهوب، وهي أيضاً المدينة العاجزة، المخذولة، العارية، وغير الآمنة، هي المدينة التي أدارت لنا ظهرها ببساطة حين أدرنا لها ظهورنا جميعاً.

كاتب سوري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى