صبحي حديديصفحات الثقافة

شكسبير وسيرفانتس: ملاكمة الجبابرة!/ صبحي حديدي

 

 

تمرّ، يوم 23 نيسان (أبريل) المقبل، الذكرى الأربعمئة لرحيل وليام شكسبير (1564 ـ 1616)؛ وقد شهد العالم بأسره ـ أكثر من بريطانيا ذاتها، كما للمرء أن يشهد ـ احتفالات شتى بهذه المناسبة الرفيعة. أطرفها، في حدود ما تعلم هذه السطور بالطبع، ما بادرت إليه مجلة «ماغازين ليتيرير» الأدبية الفرنسية، منذ حلول العام في شهر كانون الثاني (يناير) الماضي. لقد كرّست غلافها لرسم تمثيلي يضع شكسبير في مواجهة ميغيل دي سيرفانتس (1547 ـ 1616)، الذي توفي قبل الشاعر الانكليزي بيوم واحد، مع اختلاف التقويمين الغريغوري والجولياني: كلاهما يرتدي قفازات الملاكمة الحمراء، متحفز متأهب يتربص بالآخر، وعنوان الغلاف يقول: «المباراة ـ شكسبير سيرفانتس»!

موادّ الملفّ غنية حقاً، ومتنوعة، ولا تستهدف قارئ الأدب المختص بل القارئ العريض عموماً، بالنظر إلى أنّ مسرح شكسبير وشعره، أسوة برواية سيرفانتس الخالدة «دون كيخوته»، أعمال كونية عابرة للحساسيات والثقافات والأنواع الكتابية. ثمة قراءات مدققة في سيرة الرجلين، تتوغل نحو ما هو أعمق من التفاصيل المتفق عليها؛ واستكشاف احتمالات تأثر أحدهما بالآخر (من جهة شكسبير أكثر، فهنالك نصّ ضائع بعنوان «كاردينيو»، يُقال بأنه يقتبس سيرفانتس مباشرة)؛ وكيف اشتركا في سمة مدهشة، هي تعرّضهما لسخرية «النُخب» الأدبية في بريطانيا وإسبانيا؛ ومدى تأثر الرواية الإنكليزية في القرن الثامن عشر (والتر سكوت، توبياس سموليت، هنري فيلدنغ، صمويل ريشاردسون…) بأسلوبية وتقنيات «دون كيخوته»؛ ثمّ الأدوار التي لعبها أدب شكسبير وسيرفانتس في فرنسا عصر الأنوار، فولتير وديدرو وماريفو…؛ وكذلك في الفنّ التشكيلي، خاصة دولاكروا ودومييه وفراغونار ودويه وبيكاسو…؛ والأوبرا، لدى فيردي وريشارد شتراوس خاصة؛ ثمّ السينما، والحديث فيها يطول ويبهج بالفعل؛ فضلاً عن تأثيرات كبرى أخرى، في آداب عالمية عديدة؛ وسؤال/ استبيان ختامي: هل أنت، عزيزي القارئ، هاملت أم دون كيخوته؟

في الجانب العربي من هذه الذكرى، ورغم تعريب أعمال شكسبير وسيرفانتس، مرّات عديدة للعمل الواحد ذاته في الواقع؛ فإنّ المكتبة العربية تفتقر إلى دراسات نقدية متخصصة في أدب العملاقين؛ إذا استثنى المرء تلك المقدمات التي تمهّد لترجمة هذه المسرحية أو تلك، والقصائد الغنائية، الـ»سونيت»، عند شكسبير؛ أو ترجمات «دون كيخوته» العديدة. كذلك أجدني أستثني تلك الجهود، على أهميتها بالطبع، التي تفحصت مختلف التجليات والانعكاسات والإشارات، أو حتى الاقتباسات، ذات الأصول العربية في مسرح شكسبير وأدب سيرفانتس؛ فهذه لا تشتغل على الفنّ مباشرة، أو خصيصاً، وبالتالي فإنها لا تتناول، ثمّ لا تنصف استطراداً، إلا النزر المحدود من خصائص الإبداع الأعمق والأثمن.

في الميدان الشكسبيري أشير إلى استثناءات مثل غالي شكري، «شكسبير في العربية»؛ وفاطمة موسى، «وليام شكسبير شاعر المسرح»؛ وشفيق مجلي، «شكسبير فكراً وفناً»؛ ورجاء النقاش، «نساء شكسبير».

أمّا الاديب الإسباني فإنّ حظه من القراءات العربية كان أقلّ بكثير، ولعلّ معظم ما توفّر اقتصر على إبرازه من خلال التعريف بالأدب الإسباني عموماً؛ أو عرض الدراسات الإسبانية التي تناولته (كما فعل محمود صبح، أميرة حسن نويرة، نادية ظافر شعبان، وهدى بن جديد، على سبيل الأمثلة).

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ عبد الرحمن بدوي، الذي ترجم «دون كيخوته» سنة 1956، اعتبر أنّ «روائع الأدب العالمي» أربع: «الإلياذة» لهوميروس، و«الكوميديا الإلهية» لدانتي، و«فاوست» لغوته، بالإضافة إلى عمل سيرفانتس (أو ثيربانتس، حسب النطق الذي اعتمده)؛ وبالتالي لم يُفسح مكاناً لأيّ من أعمال شكسبير!

كذلك تقتضي هذه الذكرى الأربعمئة إشارة خاصة إلى مدرسة نقدية مميزة، بمعنى اختلافها عن معظم السائد، في الدراسات الشكسبيرية؛ هي «التاريخانية الجديدة»، التي تقارب العلاقة بين النصّ Text والسياق Context من زاوية الحاجة الملحّة إلى النظر في التشعّبات السياسية التي تكتنف العمل الأدبي، لا سيّما حين يكون مبدأ التأويل واحداً من أبرز أركان الدراسة.

جوناثان دوليمور، على سبيل المثال، يقتبس قلق الملكة إليزابيث من مسرحية شكسبير «ريشارد الثاني»؛ ليس بسبب ما يحتويه النصّ في ذاته من نقد للملكية البريطانية، بل بسبب أنّ المسرحية عُرضت 40 مرّة في الهواء الطلق، في الشوارع والبيوت والبارات الشعبية، كاسرة بذلك الحاجز بين الفنّ والواقع، وبين علم الجمال والسياسة. ذلك لأنّ النصّ، هكذا، أصبح مرئياً في سياقات عابرة للخشبة، وأخذ يهدّد بكشف مفاسد التاج أمام العامّة، في الهواء الطلق وليس داخل مساحة التخييل الفنّي.

ومن الخير اختتام هذا العمود الاحتفائي باقتباسَين: من سيرفانتس، على لسان بطل الرواية ـ النبيل الإسباني الشيخ، والفارس في عصر بلا فروسية: «قد تُمطّ الحقيقة حتى تصبح نحيلة، لكنها لن تنكسر، وهي دائماً تطفو فوق سطوح الأكاذيب، كما يطفو الزيت على الماء»؛ واقتباس ثانٍ من شكسبير، في السوناتا 18 الأشهر، بترجمة بدر توفيق: «فما دامت للبشر أنفاس تتردد وعيون ترى/ سيبقى هذا الشعر حياً، وفيه لك حياة أخرى».

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى