صفحات الحوار

شوقي بغدادي: مجموعة «جمهورية الخوف» ترصد انهيار جدار الرعب في بلدي

 

 

دمشق – من منى كيوان:

لا تنتهي سيرة الشاعر السوري شوقي بغدادي عند حدّ تجربته الشعرية. فالرجل الذي يتجاوز الثمانين بعناد يحاول بالشعر، لا سواه، ان يفتن عالمه اليوم، المليء بالدمار والدم، حيث دمشق معشوقته تعيش أيامها العصيبة، فيبادلها بالحب والتذكر، مصارعاً بالشعر مغامرة الموت.

«القدس العربي» التقت بغدادي في بيته، إذ لا يزال يعزف العود ويكتب متحدياً الإرث الثقيل الذي يحمله أبناء جيله وخيباتهم.

■ هل أنصف النقاد تجربتك الأدبية؟

□ للأسف الشديد إن معظم النقاد كانوا متأثرين بما يمكن تسميته الإشاعات الرائجة حول الشخص، بدلاً من قراءة كل إنتاجه بعمق ونزاهة. أذكر مثلاً أنني سألت مرة صديقنا الناقد حسام الخطيب، بقولي «هل قرأت فعلا يا عزيزي كل أشعاري أو قصصي، حين ألفت كتاباً عن الأدب في سوريا، فأجابني بعد تردد: كلا للأسف فأنا لا أملك كتبك ولكنني قرأت بعض ما نشرته في الصحف وكان كافياً كما تصورت. هذا نمط من مواقف بعض النقاد. وأذكر أن الناقد محيي الدين صبحي اعترف في أواخر حياته بأنني شاعر متجدد أمام الملأ في المنتدى الاجتماعي في دمشق، ولكنه لم يكتب عني حرفاً واحداً طوال حياته من قبل.

رغم ذلك أنصفني آخرون بكتابات قصيرة مثل حسين مروة وعبد العزيز المقالح، الشاعر والناقد اليمني وشوقي بزيع، الشاعر اللبناني وغيرهم، ولكن حركة النقد عموماً أهملتني طويلاً بسبب سمعتي السابقة كما أتصور كشاعر يساري أو ما شابه من تصنيفات غير دقيقة.

■ العديد من الشعراء غادروا سوريا، لماذا لم تكن أحد هؤلاء المهاجرين؟ هل أردت معايشة تجربة يصعب تكرارها لتوثقها شعرياً؟

□ لا ليس هذا هو السبب. لقد بقيت في بلدي لأنني أردت أن أموت فيه وقد اقتربت نهايتي وقد جاوزت الثمانين. هذا كل ما في الأمر. أما عن رغبتي في توثيق هذه المحنة الكبرى التي نزلت بوطني فأنا لست موثقاً، بل أنا شاعر قبل أي صفة أخرى. وقد استوحيت مما يحدث الآن من فظائع عدداً من القصائد نشرت بعضها في ملحق جديد «السفير» اللبنانية وأنوي حالياً جمعها كلها في مجموعة شعرية قد تكون الأخيرة لي. وكل رجائي أن أنجح في إصدارها قبل أن أرحل عن هذه الدنيا الغدارة التي صنعت بوطني الحبيب أكثر وأفظع مما صنع تيمورلنك. وقد وضعت لها منذ الآن عنوانا يليق بها كما أعتقد وهو «جمهورية الخوف « بعد انهيار جدار الرعب في بلدي بعد نصف قرن تقريباً من الحكم المخيف.

■ ماذا تعني لك الجوائز المادية، وهل تضيف شيئاً للشعر وللشاعر بما يتعلق بفنه، أم أنها مجرد علاقات عامة وشعارات رنانة؟ أي منها كانت الأقرب إليك؟

□ لماذا هذا الهجوم على الجوائز؟ ألم يعرف العرب الجوائز في سوق المربد وعكاظ منذ أيام الجاهلية؟ قد لا تضيف الجائزة للشاعر سوى قرشين حلال، وهو المحتاج لها كثيراً بعد حرمانه المرير في أيام الكساد الثقافي وما أطولها وأقساها على الشعراء بشكل خاص!

■ هل تقرأ لشعراء شباب وكيف تقيم تجارب الشعر الحديثة؟

□ أقرأ بالطبع. لقد كنت لمرات عدة المسؤول في بعض الصحف السورية عن قراءة بريدهم إليها واكتشاف الشعراء الشباب الموهوبين بينهم. منهم نوري الجراح الذي غدا شاعراً جديداً مهماً بحق ومشهوراً، اسألوه ألم أكن أول من نبهه إلى هذه الموهبة الجديدة؟ وهناك غيره كثيرون.

و لكن الأمور تغيرت في ما بعد. تكاثر شعراء قصيدة النثر إلى درجة هائلة، حيث صار سهلاً على أي شاب أو شابة أن ينظم كتابة فورية ويرتبها بشكل أسطر بطريقة ركيكة أو عادية لا تتعدى كونها خاطرة سريعة وأحياناً مبهمة لا يفهمها حتى الذي كتبها. في هذا المناخ لم تعد قراءة الشعر ممتعة حقا في هذا الطوفان من الكلام.

بالطبع هذا لا يعني أن ليس بينهم شعراء موهوبون بحق، ولكنهم قلائل جداً، وحتى الذين ما زالوا ينظمون على الأبحر الخليلية قلائل جداً من هم فعلا شعراء جديرون بحمل المسؤولية الفنية.

■ لدمشق حضور كثيف في شعرك، كيف تصف لنا علاقتك بها، لاسيما أنك ابن مدينة بانياس الساحلية الجميلة؟

□ على الرغم من أنني ابن الساحل السوري لكن لا أدري لماذا سحرتني دمشق منذ مطلع عام 1946، حين انتقلت الأسرة بأكملها إلى العاصمة. حضرت هناك أول عيد للجلاء، بعد رحيل المستعمرين الفرنسيين على ضفاف نهر صاخب (كان صاخبا حافلا حينها) اسمه نهر بردى عند مدخل المدينة وقتها أو في المكان المسمى الآن «جسر فيكتوريا». شاهدت مع معظم سكان المدينة الذين هبوا منذ الصباح الباكر إلى ذلك المكان حيث العرض العسكري والشعبي الذي خلب ألبابنا وصار عيدنا الأكبر كل عام في السابع عشر من نيسان/أبريل.

كنت في المدن الصغرى الساحلية مجرد غلام صغير، وإذا بي أمام مدينة عريقة كبيرة خارقة الحسن والجمال، وعلى الأخص مدينتها القديمة بآثارها الجليلة وأزقتها الملتوية ومساجدها الواسعة العريقة وغوطتها التي تحيط بها كحزام أخضر على خصر عذراء فاتنة.

في دمشق عرفت حبي الأول كانت زميلة لي في كلية الآداب اسمها «مديحة». لم أستطع الزواج منها لأن أحد الوزراء خطفها مني وأنا مشغول بتأسيس أول رابطة للكتاب السوريين والعرب في ذاك العهد. ثم أحببت أخرى اسمها «إحسان» الذي خطفها كان الموت هذه المرة، حينما اكتشفنا إصابتها بالسل كان قد فات الأوان.

وفي دمشق اعتقلت في سجن المزة العسكري لأول مرة في حياتي أيام الحكم الناصري لمدة تسعة أشهر عام 1959. ماذا أروي لكم عن الإحداث التي مرت بي في هذه المدينة الطيبة القاسية وصنعت مجرى حياتي بين الفرح والألم، بين نشوة عشق المرأة وتراجيديا الموت المبكر، بين مشاهدة التاريخ العريق والأحياء الجديدة المغرية التي ليس لها طابع الأصالة التاريخية التي عرفت بها أقدم عاصمة في التاريخ، ثم ملاحقة التغييرات التي بدأت تشوه المنظر المألوف للمدينة القديمة وللغوطة التي بدأت تغزوها المعامل الصناعية الكبرى والمداخن والغبار والمخالفات السكنية المسكوت عنها. مما دفعني في ما بعد لنظم ديواني المسمى «البحث عن دمشق» الذي أثار اهتمام الكثيرين ليس بموضوعه الجديد فقط، بل بإسلوبه المبتكر أيضاً.

هذه هي دمشق وهذا أنا الشاعر الذي شاخ ولكنه ما يزال يعزي نفسه بأن دمشق ما تزال باقية وما يحدث فيها الآن لن يستطيع القضاء عليها وذلك لأنها معتادة منذ قديم الزمن على النكبات والغزوات والخراب ثم العودة إلى الحياة من جديد مثل طائر الفينيق الأسطوري.

■ هل كان لهذه التجربة السياسية تأثيرات إيجابية في مكان ما؟ وهل أنت نادم؟

□ نعم، لقد أفادتني هذه التجربة الفكرية، لا أقول السياسية فقط كما أضرتني على حد سواء. أفادتني لأنها فتحت وجداني للاهتمام الصادق والعميق بالبشر.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى