صفحات الثقافة

”فرانك أندروود” حيوان سياسي لغوي/ محمد العباس

 

 

قبل يوم واحد من استئناف عرض حلقات الموسم الثاني لمسلسل ( بيت من ورق ) House of Cards طلب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية باراك أوباما من محبي المسلسل عدم إفساد متابعة أحداثه بالكلام المسبق عنه، وهو الحريص على متابعته منذ أول حلقاته في فبراير/شباط 2013، لأنه يجد في البطل والمسلسل شيئاً منه ومن مجايليه، وذلك عبر تغريدة في موقع تويتر، حيث نُسبت إليه مقولة يتمنى فيها لو أن الأمور في البيت الأبيض تسير كما تبدو عليه في المسلسل، وحينها جاءه الرد أن مارس السياسة مثل فرانك أندروود (كيفن سبيسي) ثم تحدث عن المتعة والإثارة، واستمر إنتاج المسلسل الدرامي السياسي وعرضه إلى الموسم الرابع الذي يحايث الانتخابات الأمريكية لعام 2016 بما مجموعه 52 حلقة، ليُستكمل، حسب الشركة المنتجة، بجزء خامس سيُعرض عام 2017.

أما فرانك أندروود، النائب عن الدائرة الانتخابية الخامسة في ولاية كارولينا الجنوبية، وزعيم أغلبية الحزب الديمقراطي في مجلس النواب الأمريكي، فهو البطل المركزي للمسلسل، وحوله تدور الأحداث في واشنطن، حيث كان يطمح في نصب وزير الخارجية، إلا أن الأمور لم تكن في صالحه حيث تم تهميشه بدعوى حاجتهم له في المجلس، ومنذها صار يحاول الانتقام والتنكيل بكل من خذلوه وضيعوا عليه فرصة المنصب، وعلى هذا الأساس يستظهر المسلسل أبشع ما في النفس البشرية عندما يتحول الإنسان إلى حيوان سياسي، ليس بالمعنى المدني الأرسطي، ولكن بالمعنى المقلوب، أي التوحش وتفعيل قانون الغاب، فهو يغدر ويخون ويقتل ويكذب ويدلّس، حتى زوجته كلير أندروود (روبن رايت) هي مجرد شريك في المؤامرات وصياغـــة التحـــالفات المدنّسة، لدرجة أنها تجهز على أمها المصابة بالسرطان لتكسب تعاطف الناخبين وتفوز بالترشيح كنائب للرئيس، فعلاقتهما لا تعني أي شيء في إطار الحياة الزوجية، إلا ما يحتمه منظرهما أمام الجمــهور الذي يصفق لمهرجان استعراضي زائف.

فرانك أندروود أمام جمهور الانتخابات وعشاق الفرجة على ما يجري في كواليس البيت الأبيض، يقدم نفسه كمثال للطهورية الوطنية، والإحساس بالمسؤولية الاجتماعية، والأدائية السياسية الرفيعة، وخلف الكواليس هو أنموذج للبراغماتية السياسية القذرة، فهو لا يتوانى عن التبوّل على قبر أبيه، والبصق على تمثال السيد المسيح، وإبداء حالة من التسامح واللامبالاة حول علاقة زوجته بمنظومة من الرجال ضمن علاقة زوجية منفتحة، وذلك تسهيلاً له للوصول إلى سدة الرئاسة، إيماناً منه بأن( كل شيء له علاقة بالجنس، ماعدا الجنس فهو مرتبط بالسلطة)، ولذلك أراد توظيفها أو التواطؤ معها على حياكة المؤامرات الدنيئة للإيقاع بين أفراد طاقمه السياسي، الذين يفترض أن يكونوا من أصدقائه، بموجب مقولته/نظريته التي يكشف بموجبها بأن (الأصدقاء هم أسوأ الأعداء).

هذه النظرية ليست الوحيدة الصادمة في متوالية مقولاته ذات النزعة التسلطية، فالمسلسل لا يقدمه كسياسي متعطش للسلطة وحسب، بل كشخص مريض بها، لدرجة أنه مُنح في سياق المسلسل حق الكلام المباشر مع الجمهور، أو ما يسمى في المسرح بكسر الجدار الرابع أو جدار الوهم، بحيث ينعزل عن بقية الممثلين ليتواصل بلغة سافرة وخطاب مكشوف مع المشاهدين، وذلك عند الحاجة إلى الإفصاح عن نواياه الخبيثة، وعند رغبته في الفتك بأحد خصومه، وعند وصول الحدث إلى نقطة متأزمة، حيث يرى أن (السلطة كالعقارات، فهي على صلة بالموقع، الموقع، الموقع، وكلما اقتربت من المصدر، كانت مكانتك أعلى وقيمتك أهم)، وعلى هذا الأساس تعامل مع الديمقراطية، أي كمنصة أو وسيلة لضرب معارضيه، لأن الديمقراطية وفق منطوقه (مبالغ في أهميتها)، وإن كان يرجح خلود السلطة وفاعليتها عبر القرون على سلطة المال.

من المنظور ذاته يرى أن للضمير (رائحة الفم النتن)، وأن (التردّد يصيبه بالملل)، حتى العواطف لا يتعامل معها إلا بلغة أو تعبيرات متوحشة (أحب هذه المرأة، أحبها أكثر مما يعشق سمك القرش الدماء)، فهو أستاذ البراغماتية بكل معانيها (لا توجد طريقة لقهر الشك إلا بفيضان من الحقائق العارية)، كما يتعامل بتعالٍ ماكر لتطويع مرافقيه وإذلال موظفيه، حيث أوصى حارسه الشخصي الذي قُتل دفاعاً عنه (ابتداءً من الآن أنت صخرة، أنت لا تمتص أي شيء، ولا تتفوه بأي شيء، ولا شيء يكسرك)، وهو لا يعترف بالألم العرضي الطارئ (لا أمتلك الصبر لأتعامل مع ألم غير نافع)، لدرجة يبدو فيها وكأنه لا يريد أن يغفو للحظة لئلا يتعطل لهاثه نحو السلطة (طالما احتقرت الحاجة إلى النوم، فهو كالموت، يطرح أعتى الرجال على ظهره)، حيث يعبر عن ذلك التوق بعبارة دالّة (المنصة واسعة والأضواء باهرة وأنا متعطش لسماع التصفيق).

لسنا أقل أو أكثر مما نقرر أن نكشف من دواخلنا، هذه هي فلسفته التي يكاشف بها الجميع، فالطريق إلى السلطة باعتقاده (معبّدة بالنفاق والضحايا)، وبالنسبة له (لا يتطلب الأمر أكثر من عشر ثوان لتهشيم طموح رجل)، وهنا يكمن سر طرقه الدائم على مفهوم السلطة ومعانيها وسبل احتيازها (الاقتراب من السلطة يخدع الإنسان بأنها مدبرة)، إذ لا تقاس الثروة بامتلاك طائرة خاصة، في تصوره، بل بالقدرة على شراء الأرواح وترويض النفوس، وأكبر الخطايا بالنسبة له أن يختار الإنسان المال عوضاً عن السلطة (لا أستطيع أن أحترم رجلاً لا يرى الفرق هنا)، وهذا هو ما يفسر دوافعه لتعطيل كل قوانين التعامل الإنساني (بالنسبة لنا نحن الذين نتربع على قمة الهرم الغذائي، ليس هناك رحمة، إنما نتعامل بقانون واحد فقط: إما أن تصطاد أو تُصطاد)، إلى الحد الذي يتجرأ فيه دودج ستامبر ( مايكل كلي ) على قتل رجل للاستحواذ على كبده من أجل الرئيس عندما تعرض لمحاولة اغتيال، فهو وحش سياسي يتغذى على كل شيء.

هكذا يقدم المسلسل المقتبس في الأصل عن رواية لمايكل دوبس شخصية السياسي الشرير، الذي يخلّق عصابة من الأشرار حوله، ويستفز خصومه لاستظهار خباياهم، فكل من في البيت الأبيض، وكل الشريحة السياسية الحاضرة في المشهد فاسدة ومرتشية ووضيعة وتمتلك من الاستعداد للسقوط الأخلاقي ما يعجز الخيال عن القبض عليه، إلا أنه يمركز الشر بشكله الأشرس في شخصية فرانك أندروود، ويبئر كل قيم الفساد في شخصيته، بمعنى أن المسلسل بقدر ما يطرح لعبة السلطة من خلال ما يمتلكه كل فرد في البيت السياسي الأمريكي، يسائل المؤسسة في شخص هو بمثابة رأس الهرم الفكري والأخلاقي، وهو رمز الاحساس السياسي للأمة، حيث يقدمه كقاتل لمراسلة «واشنطن هيرالد»، زوي بارنز (كات مارا) ولعضو مجلس النواب بيتر روسو (كوري ستول) وهكذا.

ليس في المسلسل ما يوحي بحبكة عميقة، بل مجرد حبكات صغيرة تتشابك لتفصح عن نص سردي أفقي، بلا مفاجآت فنية، فهو نص بصري مرآوي لما يحدث في الانتخابات الأمريكية من كرنفالات، وما يُعرض على الشاشات من أخبار تعكس هواجس الشعب الأمريكي فيما يتعلق بقضايا التعليم والإجهاض والتأمين الصحي والتورط في الحروب وإشكالات الإرهاب، وهي قضايا تُطرح بخفة وبدون عمق، على الرغم من تقاطعها التفصيلي الواضح مع أحداث وشخصيات أمريكية معروفة، اقتضى العمل الفني مراوغتها والانزياح عن حسّها التوثيقي، حيث اندفع المسلسل باتجاه تكريس شخصية السياسي القاهر للجميع بمكره ودهائه وكأنه الأمثولة التي تترسب فيها المدرسة السياسية الأمريكية، كما اختصرها بقوله (نحن لا نهاب الرعب بل نصنعه)،

السلطة قرينة العنف، وشخصية المتسلط على درجة من التلازم البنيوي مع متوالية الفساد والإفساد، وهذه هي الصورة التي أراد المسلسل تأطير شخصية فرانك أندروود فيها، فهو يستمتع بإذلال الآخرين وإخضاعهم لإرادته، سواء بالعنف اللفظي أو الجسدي، وهذا هو ما يفسر احتشاد حمولة الخطاب السياسي في لغته، ودفع كل مفردات وشخصيات (المسلسل/الواقع) إلى خلفية المشهد، على الرغم مما يؤدونه من فروض التواطؤ وصياغة التحالفات الوقتية النفيعة والانقلاب على المبادئ، إلا أنهم جميعاً ينصاعون في نهاية المطاف لما يدبّره، وكل ذلك يتشكل في سلطة اللغة، حيث يزدحم المسلسل بعبارات وبيانات وحوارات تعكس بنية الخطاب اللغوي الذي انبنى المسلسل بموجبه، لأن الحيوان السياسي فرانك أندروود كائن لغوي في المقام الأول، ولغته هي جلده، التي قال بها رولان بارت.

٭ كاتب سعودي

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى