صفحات العالم

ما غاب في الإعلام والضجيج السياسي: جـذور اقتصاديـة للاحتجاجـات السـورية

 

 

غدي فرنسيس

تحت صخب اللحظة السياسية التي تعيشها سوريا، وضجيجها، طمس الاعلام والمحللون والخبراء الجذور الاقتصادية للـ«الثورة» الحقيقية في الريف. بعيداً عن «أسلمة» التحرّك و«أمركة» المحتجّين الذي هو احتمال وارد وموجود، ثمة غضب اكثر جوهرية من الهتاف السياسي، مرتبط بالحرمان، والبطالة والجوع بين الفئات الشعبية الريفية تحديداً. ثمة غضبة سورية حقيقية كانت شرارة الهتاف الاولى من درعا، ومن دوما، ومن المعضمية إلى داريا وسقبا، وهي كلها مناطق ريفية، في عاداتها وتكوينها واقتصادها. عمّال واصحاب أرض وأملاك، محرومون من استثمار أرضهم، ربما بسبب قوانين لم تنصفهم، او ربما بسبب مصالح فاسد مرتش، او حيتان مستثمرة.

درعا والري…

يقال الكثير عن درعا في الشارع السوري. الجزء الاكبر من الوجوه يلقي «خطأ درعا» كلّه على كاهل رئيس فرع الأمن السياسي السابق عاطف نجيب، نسيب الرئيس الأسد. ومنهم من لم يكتف بصدور قرار إقالته واستبداله، بل يطالب حتى بإعدامه. يقال انه تعامل مع طلاب المدرسة بالقمع والتعذيب، وحين قصده اهلهم، أذلّهم ولم يستجب لطلبهم الإفراج عن أولادهم المراهقين. فازدادت شرارة الغضب.

لكن على ارض درعا، مشهد الغضب المتراكم منذ سنوات لا تختصره حادثة «عاطف نجيب واولاد المدرسة». تتداول المصادر الرسمية والعامة معلومات عن مشكلة أكثر عمقاً، ولّدت الصرخة الشعبية في درعا. هي مشكلة اقتصادية بحتة. ففي درعا كما في معظم الأراضي الحدودية، يمنع القانون اصحاب الأراضي من بيعها أو استثمارها.

وكما معظم الاراضي الحدودية ايضاً، تنشط مهنة «التهريب» وتصنع رؤوس الأموال. وكما معظم ريف دمشق، تتمتع بعض رموز الدولة بقابلية على الفساد والرشوة، والتواطؤ مع المستثمر على المزارع والعامل والفلاح.

في درعا مثلا، يتحكّم قانون الري بنسبة الآبار، وعلى المزارع وصاحب الأرض أن ينال موافقة مسبقة من مكتب الأمن قبل ان يسمح له بحفر بئر يروي منها حقوله ليزرعها ويحصدها ويعيش.. وبفعل الفساد والمحسوبيّات، يحظى الراشي الاكبر بالامتياز الاكبر من آبار الري، بينما يحرم سواه من الأهالي، من معدومي الحال.

وبالاضافة الى ذلك، فان مشكلة المساكن والبناء واستصلاح الاراضي والري في ريف دمشق عموماً وفي درعا خصوصاً، ليست امرا جديدا. ويكفي فقط، البحث في شبكات الإنترنت للعثور على مد وجزر إعلامي سوري منذ العام 2007 وما قبله، حول هذا الموضوع بين الحكومات والجمعيات الأهلية وهيئات العشائر واصحاب الاراضي.

دوما و«ملوك»…

إن كنت آتياً من دمشق إلى دوما، سيكون تسلسل البيوت وشكل الطرقات والناس منطقيا كتسلسل الطبقات الإقتصادية السورية. دمشق بألوانها وثرائها وتجارها ووكلائها، ثم حرستا الأكثر فقراً وتديّناً بمحلاتها ولافتاتها وألوانها ومساكنها المتلاصقة، ثم دوما، الأكثر تطرفاً في فقرها وتديّنها وحرمانها. دوما هي تلك البيوت القروية المتناثرة كتراب الطريق، بطوابقها القليلة.

راجت نكتة في الشارع الموالي عن دوما وأهلها أنهم «طالبوا بقانون الطوابق عوضاً عن قانون الطوارئ». لكن هذه النكتة، رغم النبرة الفوقية النخبوية التي فيها، مستوحاة من أرض الواقع. فضمن مطالبهم التي رفعوها إلى الدولة، ضمّن أهل دوما بنودا حول اصلاحات قوانين وتدابير البناء التي يرافقها إجمالاً الامن والمخالفات والرشى والمشكلات.

لدوما داء مشابه لداء درعا، في ظرف اجتماعي مختلف. المجتمع يأخذ شكلاً متفقاً على «إسلاميته». فضمن ورقة المطالب أيضاً، رفعت اولاً صرخة لإعادة المنقّبات إلى سلك التعليم بعد منعهن من الاستمرار في وظيفتهن.

ذلك لم يكن كل شيء. في «ملحمة مرايا» في حرستا، تكلّم غضب ابن دوما مع «السفير» في إحدى الجولات. عبّر محمد سكرية العشريني عن غضبه من شركات النقل الخاصة، وبعباراته الشعبية اجاب: «أنا اتظاهر في الجامع ضد ملّوك». شركة ملوك هي إحدى الشركات التي احتكرت خط دمشق- دوما، فسببت، بتوقّف مئات سيارات النقل بالاجرة عن العمل، الحرمان لمئات العائلات والبيوت، بقطع مصدر الرزق عن الكثيرين.

وفضلاً عن صعوبة الحصول على تراخيص البناء، ومشكلات السكن. صرخاتهم التي أخذت طابعاً «خدماتياً وظيفياً» عكست فساد الدولة وقوة القبضة الامنية على حياة الناس في دوما خصوصاً، وفي ريف دمشق عموماً. فمنهم من يقول: «لم اعد اريد ان أسال مكتب الامن موافقته كي أقيم حفلة عرس». ومنهم من يتذمر: «لكي أحصل على رخصة بناء، عليّ ان ادفع ثلاثة اضعاف المبلغ، بين الرشوة والخوة والحصص».

داريا و«العرصات»…

كما أخواتها دوما ودرعا، تعاني داريا والمعضمية من عوارض داء الريف السوري. ورغم اختلاف السبب باختلاف المحافظة، فالوجع الشعبي نابع ايضاً من حرمان الناس من حق استثمار الأراضي. وهذا ما عبّر عنه ابنها مصطفى في حديث مع «السفير» على مدخل المعضمية. وهذا ما تروي عنه بيوت داريا والمعضمية العشوائية الفقيرة بين الحقول الكثيرة. ومن داريا إلى مطاعم حارات دمشق العتيقة، ينزح «ابراهيم» الجولاني يومياً ليعمل كنادل، لانعدام فرص العمل الأخرى. وأيضاً من بيته في داريا ينزح «باسم»، الحائز على شهادة مساعد مهندس، ليعمل في المطعم نفسه ويشرح من باب توما «لا فرص عمل سوى هنا، رغم أنني ضد المخربين، أملي أن تتحول هذه الصرخة إلى تحسين وفتح فرص امامنا، فلا يمكن نكران اننا نعاني من مشكلة وظائف».

رفعت داريا مطالبها إلى مكتب قيادات رفيعة في الجيش. وفي ورقة المطالب رؤوس أقلام عن الإصلاحات السياسية كقانون الطوارئ وغيرها، لكن المطالب الأساسية بغالبيتها تأخذ طابعاً وظائفياً خدماتياً. من تلك البنود مثلاً: «قانون استملاك جديد، رفع الحظر على الأراضي القريبة من المطار، اختيار الموظفين والمسؤولين من كافة شرائح المجتمع، تعديل قانون «العَرَصات» المرتبط بالاراضي المعدة للبناء وغير الخاضعة لهيمنة الدولة.

تغيير السياسة الاقتصادية

من ندواته إلى أبحاثه وتدقيقه الدائم لمشكلة سوريا الاقتصادية، اكتسب الدكتور منير الحمش قدرة على تفصيل المشكلة وطرح الحل. خلال حديثه مع «السفير» أوضح الحمش ان ما يجري في سوريا هو «معاناة حقيقية من النواحي المعيشية بسبب السياسات الاقتصادية المعتمدة» وعرض واقع ما تشهده بلدة «سقبا» التي تستمر يومياً في الاحتجاج.

برأيه، تحت عنوان «اقتصاد السوق الاجتماعي»، اتخذ النظام شكل «اقتصاد السوق الحر». بما معناه: محاباة الاغنياء ليزدادوا ثراء. فنجم عنها على الأرض مزيد من الفقر والبطالة وهناك البؤرة التي يعشش فيها الإحتجاج. يرى أن سياسات الدولة ادت إلى شرخ المجتمع. مفاضلة فئة معينة من رجال الاعمال، الفساد، ومظاهر عادات التبذير والترف، شكلت استفزازاً للفئات الشعبية. هذه النقمة خاضعة لمحاولات استغلالها سياسياً لأغراض مغايرة. والمواطن مظلوم، عمليات استملاك وهيمنة أشعلت وراكمت غضبه. والحل هناك، بمعالجة الغضب.

يقول الحمش ان إزالة كل السياسات الإقتصادية التي خلقتها المرحلة السابقة، سيزيل مفاعيلها. وان الحل يبدأ بكشفها والتراجع عنها. إصلاح سياسة توزيع الثروة، وإعادة توزيع السلطة بحيث يساهم الناس المتضررون وياخذون حقهم. الحد من الانفتاح الاقتصادي.

«سقبا» تريد إسقاط المفروشات التركية

يعرض الدكتور منير، قصة منطقة «سقبا» كنموذج إقتصادي للبحث. وتشهد سقبا ـ ريف دمشق، احتجاجات يومية لم تتوقف. وتعاني هذه المنطقة من فقر وبطالة وحرمان. كان يعمل اهلها بمعظمهم في صناعة المفروشات والاثاث. بفضل سياسة الإنفتاح الإقتصادي، دخلت الصناعات التركية، والصينية والماليزية. فقضت على سوق المفروشات السقباوية. وضربت القطاع الذي تقتات منه عشرات العائلات. أغلقت متاجر النجّارين، وتراجع عملهم ليقتصر على عمليات التصليح او الورشات الصغيرة، وبعضهم «غطس» في البطالة. دخل الفقر إلى بيوتهم.

ومن سقبا إلى السياسة الإقتصادية يستخلص الباحث الإقتصادي: «الحد من سياسات الإقتصاد الحر، وإنعاش الإنتاج السوري زراعة وصناعة. التراجع ولو قليلاً عن الإنفتاح الإقتصادي. إعادة الحق لصاحبه: الشعب.

أما سقبا على الإنترنت، فتحت عنوان «مطالب اهل سقبا»، يتحدث شاب عن مطالب من ناحية الرقابة على التموين وتحسين مستوى العيش وفرص العمل، كما يتذمر من غياب سيارات الإطفاء. ليتكلم بعده النجّار باسم النجارين متذمرا من البضاعة الصينية والتركية والماليزية. ثم يتحدث رجل آخر قائلاً: نحن مدينة صناعية على مستوى الشرق الاوسط، لكننا نعاني من قبضات الضرائب. لا نعرف روتين القانون ولكن طلبنا، ان نفتح شركة مساهمة معفية من الضرائب لمدة خمس سنوات، لنوظّف جميع الشباب. مشكلتنا البضاعة الصينية والتركية التي خربت حياة الشباب: البخاخ والمنجّد والنجار والمصلّح.

ثورة الداخل

بين قيادات الجيش الرفيعة، تلك التي لم تظهر في الضوء بعد بل تتمتم إسمها فئات الشعب على امتداد خط القلق السوري: رجل أربعيني تابع ملف درعا، ثم دوما وصولاًإلى ملفات داريا والمعضمية التي تنام على مكتبه في بيته. يتعصب للفقراء، يضع الإصبع على الجرح. يسمي الأشياء باسمائها ويتحسس من النبض الطائفي في الحديث الرائج. منذ اندلاع الصرخة الأولى، أصبح مكتبه مركز استقبال الأهالي المحتجين. تصادف على بابه ابن سوريا من القامشلي ومن حمص ومن المعضمية ، يأتي ليلتقي «بسيادته» حتى ساعات الليل الاولى يقصدونه بالجملة والمفرّق. وهو يسمعهم، يغضب معهم، ثم حين تسأله يقول: «نحن اخطأنا، نحن مخطئون هنا وهنا»، ولكنه منذ اللحظة الاولى يبعث الرسائل على اعلى المستويات «سنسحق رؤوس الأميركان بأقدامنا». يرفع نبرته غضباً، تشتدّ خطوط عينيه ويقول «لا لن يسكت المقهور إذا بدلنا له المحافظ، لانه يريد الوظيفة واللقمة والحق. أخطاء المعالجة الامنية أججت نار حرقة الناس من الفساد. ما يعانيه الشعب أن مفاصل الإرتباط بين الدولة والمجتمع فاسدة».

رغم انه يحاور، ويسمع، ويتسلم المطالب الشعبية، ويبحث فيها، ويتواصل يومياً مع الاهالي، إلا انه لا يتوقع الحل السريع. «العجلة تسير، ولكن ليس بين ليلة وضحاها يصنع التغيير، هناك شريحة كبيرة من الاهالي تتريث وتبحث معنا في الحل». رغم تيقّنه من المؤامرة والمحاولات الغربية، إلا أن علامات اطمئنان تلمع في حديثه عن المستقبل.. لكنه يصر «حلّنا من هذه الأرض، وليس من الخارج».

 

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى