سحر العبداللهمراجعات كتب

مفارقات الوطن والمنفى وأوهام الحرية: رواية طالب إبراهيم «لاجئ: من أربيل إلى أمستردام»/ سحر عبد الله

 

 

حديث حاجي، المهاجر الكردي العائد من أوروبا إلى بلدته أربيل، في حضرة أصدقاء ومعارف، يشعل ذهن صباح خليل، الكردي الأصيل وريث الحضارة الميدية، بأفكار وردية عن الحلم الأبيض الشهي الطري الحار الكريم، أي أوروبا متجسدة في فتاة غربية، هولندية أو ألمانية أو سويدية أو نرويجية، سوف تشبعه حباً وحناناً في سريرها وبيتها، وتمنحه كل ما يريده وكل ما افتقده في حياته.

ستبدأ رحلة المرارة والخسارة كسيرة متكاملة، عبر سلسلة من الإخفاقات القاسية واحدة تلو الأخرى، لتشكل رحلة الكردي وريث الريح والأسطورة والجبال.

من أربيل إلى تركيا وألمانيا عبر حدود البلقان القاسية، في سيارة مغلقة وعدة سفر متقشفة، بضع قطع بسكويت وأكياس للتبول والتبرز. صباح، النظيف، يقرر الصيام ليمنع نفسه عن قضاء الحاجة، لكن ذلك لن يحميه من محنة تنشق فضلات المسافرين معه من جنسيات مختلفة. لم يكن للاقياء أكياس حيث ملأت رائحته المكان، وامتدت حدوده نحو جدران العربة المصمتة إلا من ضياع أولئك البائسين.

بعد هذه الرجرجة عبر الدروب الأوروبية الموحشة، يفتح سائق الشاحنة أبوابها ويلفظ أجنته المنهكين من وعثاء السفر القاسي، يتكومون بكل شحوبهم وضعفهم وإنهاكهم، ثم يفرغون ما تبقى من عصارات أمعائهم على الطريق، تودعهم عبارة المهرب، بعد أن قبض ما قبض منهم آلافا من الدولارات: «هذه ألمانيا تفتح أبوابها لكم، أترون ذلك العلم، إنه أقرب مركز شرطة، اذهبوا وسلموا أنفسكم».

رواية «لاجئ: من أربيل إلى مستردام»، للقاص والشاعر السوري طالب إبراهيم، تتقدم منذ بدايتها إلى نهايتها بسلاسة زمنية ومكانية ورمزية، كما يمكن أن يحصل مع أي لاجئ غير شرعي، راصدة تفاصيل السيرة منذ الوصول إلى المخيم الألماني الأول والتحقيق الأول الذي أثر سلباً في بطل الرواية، حيث نال اللكمة الأولى التي أصابته بالصدمة. كيف يمكن أن يضربه الشرطي وهو لم يرتكب جرماً، هو صباح خليل القادم من أربيل إلى أوروبا ليحقق أحلامه؟

هي رحلة كلفت صباح عشرة آلاف دولار، والكثير من الكرامة المسفوحة والقهر والخيبة.

سيكره صباح ألمانيا متأثراً بردة الفعل الأولى السلبية، ويقرر الذهاب إلى هولندا، الجميلة الصغيرة، حيث مزارع التوليب والقمح والطواحين. هولندا لك يا صباح، الأراضي المنخفضة تناديك لتطأها وتفرغ أحلامك!

على مسار السرد المتضمن مونولوغات صباح الداخلية وأحاديثه مع زملائه المهاجرين في صفحات الرواية، ظل صباح يخاطب نفسه في لحظات القوة وكانت قليلة، ويناجي أمه وأباه في لحظات الضعف وكانت غالبة.

في سيرة اللجوء في هولندا سنمر على محطات القطار الكثيرة، وأسماء المدن عبر جهات الأرض المنخفضة الأربعة، من أمستردام إلى آسن وتير آبل شمالا، إلى زفولا وآرنيم وآيندهوفن جنوباً ووسطاً، في مخيمات اللجوء. سنتعرف على كاندي الأفريقية، حبّ صباح الأول في هولندا، حيث ستسبب صدفة معرفتها بخلق إحساس مشوب بالغبن بأن أول أنثى يراها في هولندا كانت من ساحل العاج، لاجئة مثله وليست شقراء. لكن صباح يؤنب نفسه، إذ كيف يتقزز من لونها، وهو الذي تقزز البوليس الألماني من جنسه ولونه بل لكمه؟

عبر سيرة احتمالات أنثوية تفيض بها مخيمات الأسى من كاندي الأفريقية إلى تن تن من ماينمار ونور العراقية وياسمين الإيرانية، تتشكل قصة أسى داخلية عميقة في روح صباح. حلمه الأنثوي المبني على التصورات الزاهية والدافئة ينتهي بابتسارات جسدية تثير الشفقة، كما في استمنائه مع تن تن في غابة اصطناعية قرب المخيم. ستصاب تن تن بالأسى البالغ لارتكابها المتعة الخاطفة مع زميلها اللاجئ، وستتهرب منه وتحذف اسمه من هاتفها الجوال.

آنكا وفيمي عاملتان هولنديتان في مطعم المخيم، متناقضتان في الشخصية. هل حقاً فيمي امرأة؟ يتساءل صباح، بصدد هذه العجوز القاسية الباردة والتي ترمي الصحون البلاستيكية بغضب على الطاولات، وتوزع عبوسها على الجميع. كانت فيمي الوجه النقيض للشابة آنكا، التي تبتسم للجميع ويظن الكل أنها مستعدة لتكون صديقة لأحدهم. إلا أنها تمتلك حياتها ولديها صديقها وتكتفي بالابتسامة الدافئة المجانية للجميع وبالتساوي.

تتكشف داخل المخيمات عوالم اللاجئين وتعقيدات خلفياتهم الجغرافية والدينية من أحمد الجزائري الذي سيكتشف صباح بعد زمن طويل أنه مغربي لكنه بعد ترحيله من ألمانيا لهولندا أصبح جزائرياً، وأبو جورج المصري القبطي، وحسين الذي يصر على أنه مريض نفسي وسيقنع المحكمة بأنه يستحق الأمان والإقامة في ربوع البلاد المتفهمة لحالته. «لا تخاف صباح آني أعجبك» يؤكد حسين مراراً ليقنع صباح بمهاراته الكبيرة والتي تتكشف جيداً في فشله بأن يؤمن لصديقه ولو راقصة عادية من الديسكو.

وفي يوم ما من أيام المخيم المكرورة نشهد معركة بين مجموعة من العراقيين والشباب الأفارقة، حيث رفض أحد اللاعبين الأفارقة احتساب هدف سجله الفريق الأبيض، فبصق الشاب العراقي في وجه الشاب الأفريقي، فنشب العراك الذي لم ينته إلا بحضور الشرطة. ستؤرخ هذه الحادثة لحالة لغوية ذهنية متعلقة بالبصقة: «راح البصقة، وجاء البصقة»، «أين البصقة لم نره اليوم في قاعة الطعام؟»، و»هرب البصقة إلى بلد أوروبي آخر، ليلعب كرة القدم ويبصق في وجه أحدهم».

في إحدى المخيمات المؤقتة يستنتج صباح بأن وساخة اللاجئين مقصودة، فكيف إذن يرتدون الثياب النظيفة ويتعطرون ويتركون كل تلك القذارة خلفهم في الحمامات والممرات؟

سيمر اللاجئون على شوارع الجنس المتوفرة في كل المدن الهولندية ليحققوا فروسيتهم الشرقية وذكورتهم المسفوحة عند عتبات التقاليد والمحرمات التي لا تنتهي، إلا أن المتعة التي توهموا أنها وفيرة لم تكن مجانية بل مسعرة بخمسين يورو، وهي أكثر مما يتقاضاه اللاجئ في آخر الشهر.

«لم يحمل أي منا ثمن اغتصابه المأجور لأحد الفتيات. اقترح شاب عراقي أن نجمع ما بحوزتنا من نقود، يستخدمها الفائز بالقرعة التي نجريها، والباقي ينتظرونه في الخارج ليروي لهم تفاصيل الجنس المؤقت بقنبلة النصف ساعة»، يروي صباح.

وبين مخيم وآخر وخيبة هنا ونكبة هناك يتصل صباح بأهله في أربيل، وعليه الحرص في كل اتصال يكون التأكيد لوالده الذي يردد على مسامع الحضور مدى الرخاء الذي ينعم به صباح في هولندا. ابني صباح هل وصلت سيارتك آخر موديل لهولندا؟ لقد أوصيت عليها وستصلني عما قريب؟  لكن صباح يبكي في مناماته التي تصبح كوابيس ليلية ونهارية، وحين يستيقظ غارقاً في الحزن يقرر في لحظات كثيرة بأن عليه مصارحة أهله والعودة إلى أربيل.

يأتي قرار المحكمة بترحيل صباح، وهنا يتجسد عبث الانتظار لسنتين، وكل هذا الذل في المخيمات ومحاولة الالتزام بقوانين مملكة التوليب والجبنة والشكولاتة لم يقنعهم بك يا صباح. ما العمل؟ عليك تجريب السويد، يقولون إنها غنية وقليلة السكان. مغامرة أخرى، سيرة مشابهة لما عاشه صباح في مخيمات هولندا، تتوج بشكل سوداوي بتعرفه على سيدة عجوز تدعوه إلى بيتها المجاور للمخيم الذي تم فرزه إليه.

أنت تقترب من تحقيق الحلم يا صباح، ستتزوج ساسكيا وتأخذ الإقامة، حلمك الأنثوي يا صباح متجسداً في جسد العجوز المترهل، وكرسيها الكهربائي. ذكورتك وعنفوانك يتحطمان يا صباح، وهذه العجوز تريد اغتصابك، وكأنّ هذا المشهد شبه النهائي في الرواية هو مقتل صباح رمزياً. يتبدد حلمه في الإقامة وفي الأنثى والحب والأمان وكرامته الشخصية. استفاق في لحظة على ما ألحق بنفسه من إهانات، فغادر بيت العجوز بعد أن كاد أن يضربها. بعد انتظار أشهر في مخيم مالمو في السويد يأتيه طلب الترحيل والإعادة إلى هولندا حيث بصمته الأساسية، بعد أن تمكن من تزويرها في مرة سابقة.

سيرة اللاجئ في الرواية هي سيرة المواطن القادم من بلاد الشرق المعتمة إنسانياً ومعيشياً، وهي سيرورة اللجوء إلى أوهام المواطنة والحرية المطلقة وخاصة الجنسية. سيرة وهم الوطن البديل، وإن تعددت الحكايات، تكاد تتقاطع في تمثيلات عديدة أهمها الفشل واللجوء إلى الكذب في ملف أسباب اللجوء ذاته.

هل البلاد الجائرة أبداً ستبقى عزيزة، أم البلاد التي تحفظ الكرامة هي الأعز؟ لكن أية كرامة وكم تكلف؟ ماذا عن هذه المقايضة القاسية، بين جغرافيتنا الأساسية والجغرافية البديلة، الوطن الأوربي؟ أسئلة كثيرة طرحتها الرواية بتكثيف موحٍ ومعبر عن غربة الإنسان اللاجئ، التي تبدأ كي لا تنتهي بمحنة الاندماج وتربية الأولاد في مناخات شبه فصامية بين ما يجب أن نكون عليه وما نحن عليه، أي هويتنا المعقدة والتي نحملها معنا كالبصمة حتى الموت.

سيرة صباح هي سيرة ملايين جاؤوا من الشرق بأوهام كبيرة، وقلة قليلة فقط تنجح وترسخ لهويتها مكاناً يستحق العيش من أجله والمغامرة بأوطان الذاكرة الأولى.

أسئلة الهوية ومآلات رحلة اللجوء شائكة ومفتوحة كما أراد لها الكاتب في نهاية الرواية، إذا يصعب التخمين حول مصير صباح: هل سيعود إلى أربيل ويحتمل كل ما خسره في زمن الانتظار الفائت، أم يبقى؟

طالب إبراهيم:

«لاجئ: من أربيل إلى أمستردام».

دار الفارابي، بيروت 2017.

304 صفحات

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى