صفحات الرأي

من أجل أسلمة الإسلام/ منصف الوهايبي

 

 

 

أعدت هذه الأيّام قراءة كتاب مرثيديس غارثيا أرينال «الموريسكيّون الأندلسيّون» (ترجمة جمال عبد الرحمن). كنت محتاجا إليه في عمل أدبيّ شرعت فيه منذ أشهر. على أنّ الكتاب، ولعلّه أحد أهمّ الكتب التي تدرس تاريخ الأندلس بعد سقوط غرناطة، نقلني إلى الحاضر، وتحديدا إلى هذا الموضوع الذي ما انفكّ المصلحون والكتّاب عندنا يخوضون فيه منذ أكثر من قرن، ونعني مصالحة الدين (الإسلام) مع العصر، في ظلّ علاقات ملتبسة بين الغرب والعالم الإسلامي، وشكّ مستفحل في الآخر «دينيّا». ومن اللافت أنّ اتفاقيّة تسليم غرناطة التي لم تحترم إلاّ لمدّة وجيزة، تنصّ على منح المسلمين حريّة ممارسة شعائرهم ولغتهم وعاداتهم. ثمّ كان بعدها ما كان من تنصير المسلمين وإحراق الكتب العربيّة في غرناطة، والتعميد والطرد…

ولعلّ الأمر اليوم أشدّ ضراوة، حتى أنّ الإسلام نفسه هو الذي يوضع في قفص اتّهام. وأقدّر أنّ المسؤوليّة هي مسؤوليّتنا جميعا. وحتى لا يُقال إنّنا كمن يخلط بين السجلاّت، أو لا يتميّز ما بينها من ظلال وفروق؛ نشير إلى أنّ الإسلام المسيّس وتحديدا «الجهادي» المخترق من أكثر من جهة؛ بما فيها الأنظمة الحاكمة، هو المشكل الذي ينبغي أن نوفّق إلى حلّه، خاصّة أنّه لا يفعل أكثر من تحويل الدين إلى مرجعيّة خلافيّة؛ فيما هو مرجعيّة توافقيّة بين أبناء الشعب الواحد. وهو يتّخذ عندنا أكثر من هيئة، فبعضه جهادي تكفيريّ، ولعلّه الأشدّ خطرا لا على السلم الأهلي فحسب وإنّما على كلّ أمل في التحرّر من جور الأنظمة. بل  إنّ هذه الجهاديّة الأصوليّة هي التي  تذهب أو تكاد بثورات الشعوب العربيّة، كما هو الشأن في سوريا خاصّة. وشعارهم أنّ «الجهاد ضرورة للدعوة سواء أكان الوطن الإسلامي آمنا أم مهدّدا… والسبب أنّ المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة، وليست شيئا آخر على الإطلاق». أمّا بعضه الآخر فهو تقليديّ (الإخوان) ولكنّه لم يتحرّر تماما من لَبُوس سيّد قطب الأشدّ تأثيرا، وإن بدأ هذا التأثير يتقلّص في تونس؛ وربّما في مصر، بعد تجربة الحكم القصيرة التي خاضها الإسلاميّون، بقلّة خبرة ومِراس.

المشكل الذي لم نوفّق إلى حلّه حتى نتصالح مع ديننا وعصرنا، أنّ الخطاب الديني عند الأصوليّين والإصلاحيّين أو التنويريّين على حدّ سواء، يبدأ كلّه وينتهي بالقياس على الماضي. وهو خطاب نقليّ عقليّ في آن، وإن على تفاوت بين باحث وآخر. ذلك أنّ قياس الغائب على الشّاهد يعتمد على العلّة عند بعضهم مثلما يعتمد على الأمارة؛ ولعلّ هذا ما يجعل صفة «النّقليّ» أمسّ به، فالأمارة يثبت عندها الحكم ولا يثبت بها. وبالتّالي ينتفي مبدأ السّببيّة، ومعها ينتفي العلم الموضوعيّ. ونقدّر أن أنصار الإصلاح أو التحديث لا يصدرون عن نسق معرفيّ مضادّ للنّسق الذي يصدر عنه الأصوليّون؛ حتّى يجوز لنا أن نسم  خطابهم ب «العقليّ» وقرينه أو «خصيمه» بـ»النقليّ»؛ ونستنتج من مجرّد الوصف والتّسمية أنّ النقلي الأصولي يضفي القيمة على المتشابه مع الماضي، ويجرّدها من المخالف له.

ذلك أنّهم جميعا  يحتكمون إلى ذات المعايير، ويستأنسون بالشّواهد ذاتها. بل أنّ الأدوات المعرفيّة والمفاهيم النظريّة التي يتذرّعون بها هي نفسها أو تكاد، لسبب لا نخاله يخفي هو أنّ الماضي الذي يقايسون به؛ لم يكن زمنا ولّى أو اندثر؛ وإنّما هو ماض معاصر يحفّهم في كثير من مسالك العيش ومظاهر الحياة، سواء كان يغنيها ويؤصّلها أو يعاسرها ويقيّدها. ولا ينبغي أن ننسى أنّ هذا الماضي هو الذي استلهمه الأسلاف في وضع علوم اللّغة والنّحو والبلاغة والعروض وفي تفسير القرآن نفسه. على أنّ الماضي في نظرنا هو غيره في نظر أسلافنا، ولم يكن هؤلاء الأسلاف نتاج أنفسهم على قدر ما كانوا نتاج الماضي. وليس أدلّ على ذلك من شبكة الآثار التي نسجها عصر التّدوين خلال القرون الثّلاثة الأولى للهجرة بخيوط الماضي نسج اللّحمة والسّدي، وبخاصة في علوم مثل علوم اللّغة التي لم يعمل القدامى على تحيين شواهدها باعتبارها القلائد المحفوظة التي لا تنسى لنفاستها، فتحوّلت إلى أبدال وموضوعات يقاس عليها وموازين تردّ لديهم من شطط المختلف، وتحدّ من «خلطه» و»خبطه».

إنّ تشبيه الحاضر بالماضي أو رؤية هذا في ذاك أو من خلاله، ليس ظاهرة تنتظم هذه القراءات جميعها فحسب، على اختلاف موقفها؛ وإنّما هو صورة كبرى لعلاقة المشابهة من حيث هي عندهم، ركن لا غنى عنه في بناء المعنى. ومن هذا الجانب فإنّ القضيّة المطروحة لا يمكن فهمها إلاّ إذا نحن جرّدناها من مشكلاتهم الخاصّة، وأحكمنا الفصل بين شكل القضيّة ومحتواها، على نحو ما نفصل في الرّياضيّات بين قالب المعادلة ومكوّناتها. وهذا منحى تقوم في وجهه عوائق، من أظهرها أنّ هذه القراءات التي نحن بها، ما كانت لتنهض إلاّ على أساس من السّجال بين النّموذجين: القديم والحديث ومواجهة هذا بذاك، أو البحث عن تماثل بينهما، وما أفضى إليه ذلك عند بعضهم، من تصوّر  الدين بعقل أعدّ للماضي، والعودة به إلى «نقائه الأوّل» وإلى مرحلة ما قبل «ظهور الخلاف» أو «الفتنة»، وجعله بسبب من ذلك، «يتحرّك» في ثوابت ودوائر هي بمثابة قواعد وأحكام وسمات مستديمة. لعلّ المشكل عند كلّ هؤلاء هو في اعتبار الإسلام  واحدا جاء على بناء الجمع، أو سمتا تنتهي إليه كلّ المذاهب أو ينبغي أن تنتهي إليه، وليس جمعا لا واحد له، على ما يؤكّده تاريخ  الأديان التي يتولّد بعضها من بعض، وتؤدّي إلى تركيب جديد قد يكون أشدّ تعقيدا أو تجريدا على نحو ما نجد في الإسلام.

ومن هنا مأتى ما يسمّى بـ»البطانة الوجدانيّة» التي تلفّ الخطاب الديني، وتجعل منه خطابا «نقليا» «عقليا» في آن، تقوده ثقافة السّلطة والنّقل والحفظ والذاّكرة، مثلما تقوده ثقافة العين والنّظر والعقل والكتابة، وما يمكن أن يعتوره، بسب ذلك، من توتّر أومن حذف وتجزيء حينا وإظهار وتضخيم حينا. أمّا وقد  نهضت قراءتهم على  قياس الحاضر على الماضي، وما ذاك إلاّ لأنّ طريق القياس والتّشبيه هو من أسهل الطّرق وأيسرها، فقد حجب مسلكهم هذا على ما يسمّيه المعاصرون تأثير «الرّقابة اللاّشعوريةّ « وفسح المجال وسِيعا لـ»عودة المكبوت»، الأمر الذي وسم هذه القراءات، وجعلها تفصح في جوانب منها غير يسيرة، عن رؤية ذاتيّة أكثر منها عن «حقيقة» الدين الموضوعيّة أو الوظيفة الأخلاقيّة التي يفترض أن ينهض بها.

و»الحقيقة» عند كلّ هؤلاء عقليّة تتفرّع إلى أربعة فروع: ما يطابق الاعتقاد وما لا يطابقه، وما يطابق الواقع دون الاعتقاد وما لا يطابق شيئا منهما. وفي ضوء هذا الفرع أو ذاك، يتخذ الباحث موقفه من الدين وقيم العصر مستأنسا بمقولتي القرب والبعد. وهاتان  محفوفتان بجملة من المعاني، فلا الأولى مقصورة على مجرّد العلاقة القريبة بين طرفين، ولا الثّانية على مجرّد العلاقة البعيدة بينهما. إنّما يفيد جذر (ق.ر.ب) وسائر مشتقّاته، أكثر ما يفيد معاني الدّنوّ وترك الغلوّ وقصد السّداد والصّدق وصلة الرّحم. فيما يقترن جذر (ب.ع.د) وسائر مشتقّاته بمعاني الموت والهلاك والبين والفراق وما إليها. ولا نخال هذه المعاني الحافّة إلاّ ذات أثر في الخطاب الديني. ومن ثمّ  لا نستغرب أن كان هذا الخطاب شأنه شأن خطابات أخرى مثل الخطاب الأدبي، قياسا وموازنة ومقابلة ومحاذاة وما إليها مماّ هو أعلق بوظائف التّشبيه وأمسّ.

إنّ أسلمة الإسلام تبدأ بالمصالحة مع القيم الكونيّة. وهذا لا يتسنّى بلوغه إلاّ في ضوء مقاصد الشريعة لا الشريعة. ومن واجبنا جميعا أن نعلن بأعلى صوت أنّ إقامة الحدود من جلد ورجم وقطع أعضاء، عقوبات منافية لأبسط  القيم والحقوق في الأزمنة الحديثة. و»الكونيّة» كما ذكرنا في مقال سابق، تقف على طرف النقيض، من مقولة «العولمة»؛ فهي  قيمة إنسانيّة تتناسب وثراء الوجود الإنساني أو غناه؛ لأنّها لا تلغي الاختلاف والتعدّد، بل تسعى إلى إدماجهما في سياق من التناغم والتناسب؛ فيما العولمة، على نحو ما يصرّفها أهل السياسة وتقنيو الاقتصاد العالمي تقوم على المجانسة والتنميط.

إنّ الكونيّة أفق وجود فيما العالميّة استيطان مقنّع في أرض الآخر. ونقدّر ونحن نرى بأمّ أعيننا إلى ثوراتنا في تونس ومصر وسوريا، وهي تتعثّر أو تُسرق وتُهدر، بذرائع دينيّة واهية أو «قومجيّة» أنّ عمق الإسلام الأخلاقي يكمن في مقاصده، وفي الأخلاق باعتبارها قيما إنسانية أو كونيّة تدور مدار الحرّية والمراهنة على السعادة؛ وليس من جهة كونها آداب سلوك. فلا يسع الدين، كلّما وعى أصحابه ذلك، إلاّ أن يكون صديقا لمقولة الكونيّة.

كاتب تونسي

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى