صفحات الثقافة

وصايا جيمس سكوت بِل/ محمد العباس

 

 

 

في مقدمة كتابه ( Plot & Structure ) يسرد الروائي ومدرب الكتابة الإبداعية جيمس سكوت بِل حكايته الملهمة مع ما سماه بالكذبة الكبرى كمدخل لورشة جدلية وثرية لصناعة الحبكة وبناء هيكل الرواية، إيماناً منه بأن الكتابة الإبداعية يمكن تعلُّم أبجدياتها وأسرارها إذا ما تخففت الذات المتطلعة للكتابة من وهم تلك الكذبة، وإذا ما أخلصت للفعل الكتابي وفق مخطط تدريبي جاد، ولذلك آثرت أن أنقل وجهة نظره بلسانه وبشيء من التصرف.

أضعت عشر سنوات في بداية عمري الكتابي بسبب ما أسميه بالكذبة الكبرى، ففي عشرينيات عمري تنازلت عن حلمي في أن أكون كاتباً، بدعوى أن الكتابة ممارسة غير قابلة للتعلُّم، فالكُتّاب يولدون ولا يُصنعون بالتدريب، كما يكرر الناس هذه المقولة، بمعنى أنها ملكة ذاتية إما أن توهبها وإلا فلا، وقد بدأت أصاب بتلك القناعة المتمثلة في عدم إمكانية تعلُّم الكتابة بعد عدة محاولات في بداياتي، لدرجة أنني تيقنت بأنني لن أكون كاتباً في يوم من الأيام، ولذلك اتجهت إلى دراسة القانون متخلياً عن حلمي، إلا أن هاجس الكتابة لم يغادرني.

وعندما بلغت الرابعة والثلاثين من عمري اطلعت على لقاء مع محام كان قد نشر رواية إثر تعرضه لحادث كاد يودي بحياته، ولذلك قرر الكتابة كفرصة لحياة ثانية، الأمر الذي أثارني فقد قرر أن يكون كاتباً، ولذلك صار يكتب ويكتب حتى إن لم ينشر ما يكتبه، وهذا ما قررته آنذاك أيضاً، إلا أن الكذبة الكبرى ما زالت تستحوذ على تفكيري، خصوصاً عندما بدأت دراسة حرفة الكتابة، حيث اشتريت أول كتاب عن الأدب الخيالي «كتابة الرواية» للورانس بلوك، بالإضافة إلى كتاب حول كتابة السيناريو، وحينها اكتشفت أن الكذبة الكبيرة مجرد كذبة، فكل إنسان بمقدوره أن يتعلم الكتابة لأنني كنت حينها أتعلم وأستوعب.

ولكن كيف أصبحت صانع حبكات؟ في خضم آلام تلك الكذبة الكبرى كان أكثر ما يحبطني هو غياب الحبكة، فكل ما كنت أكتبه يخلو منها، كنت أقرأ القصص القصيرة والروايات وأتساءل عن مصدر المادة الكتابية العظيمة لأولئك الكُتّاب، حيث كانت الكذبة الكبرى توسوس لي بأنها منزرعة في أدمغتهم بشكل طبيعي، وبمقدورهم إسالتها متى وكيف ما أرادوا، وقد حاولت أن أجعل الحبكة تنساب وتتدفق في كتاباتي ولكن لا فائدة، إذ ما كان يخرج مني على الصفحات إلا عبارات لا معنى لها، لا حبكة، ولا قصة، ولكن عندما بدأت أدرس حرفة الكتابة وجدت أن التحبيك له عناصر بإمكاني تعلُّمها، كما تعرفت على مفهوم التركيب البنائي للرواية، إذ كلما كانت عناصر الحبكة منتظمة بشكل متقن جاءت القصة بشكل أقوى.

ما زلت أتذكر اليوم الذي اقتربت من ذلك المفهوم، فقد كان أشبه ما يكون بالاكتشاف، حيث شعرت بإضاءة ذهنية باهرة، وبدأت القطع المبعثرة تنتظم في معنى، وبعدها بعام كتبت نصاً سينمائياً، ثم أصدرت رواية، وتعاقدت على إصدار خمسة كتب، وفجأة أخذت نفساً عميقاً، وتلفتت إلى الوراء لأكتشف أنني صرت كاتباً، وأن الكذبة الكبرى انفضحت، بعد أن كنت مأخوذاً ومغلولاً بها، ولذلك صرت أعلّم الآخرين حرفة الكتابة، وأطالب الكُتّاب الجدد بألاّ يستسلموا لتلك الكذبة، إذ بمقدورهم تعلُّم الحرفة كما فعلت.

لم ألجأ إلى تعليم نظرية متعالية، فقط بعض الصواميل والبراغي، أشياء يمكن أن تعمل بالنسبة لي، ويمكن للكُتّاب الجدد التعامل معها الآن، حيث نتج عن ذلك شيء من الطرافة المفرحة، فقد بدأ بعض تلامذتي ينتجون كتبهم أيضاً، وهذا ما أعتبره الفاصل هو الأكثر إرضاءً لي، وهذا ما أتوقع وأتمنى أيضاً أن نتعلمه، أي أن نستبدل الكذبة الكبيرة بالحقيقية، نعم الحقيقة التي تتمثل في حرفة يمكن تعلُّمها بشيء من المثابرة والتمرين والصبر، وذلك لتطوير الأسلوب الكتابي، وهذا واحد من الكتب التي أحاول أن أجعلها عملية.

أما ما تحتاجه لتصبح كاتباً محترفاً ومدرباً ذاتياً لصنع حبكاتك فيمكن اختصاره في قدرتك على خلق انضباطيتك الذاتية، حيث ينبغي عليك في المقام الأول أن تكون متحفزاً، فأنا أتذكر اليوم الذي قررت فيه أن أكون كاتباً، حيث كتبت في دفتر يومياتي «اليوم قررت أن آخذ الكتابة على محمل الجد، وأن أستمر بدون توقف، وأن أتعلم كل ما يمكن تعلمه لأصبح كاتباً». أتذكر هذا بعد أن كنت مستنقعاً في الكذبة الكبرى، فما قررته حينها كان بمثابة إعلان للتحرُّر، فلماذا لا تفعل ذات الشيء بإعلان مماثل وتبدأ بكتابة عبارة بذات المعنى، فهذا هو ما يجعلك متحفزاً، خصوصاً عندما تطبعها وتثبتها قبالتك لتتأملها كل يوم.

الخطوة التالية التي أقدمت عليها تمثلت في شراء كوب قهوة مدموغاً بكلمة (كاتب) بخط ذهبي لأتأمله دائماً، ولأستذكر العهد الذي أبرمته مع نفسي، ولأستلهم منه العزيمة أيضاً، إذ بمقدورك كتابة عبارة تحفيزية لأحد الكُتّاب الكبار على كمبيوترك الشخصي مثلاً، وهذا ما كنت أفعله، حيث كنت أذهب إلى المكتبة في طور التحفيز لأتأمل الكتب الأكثر مبيعاً، أطالع صور المؤلفين وسيرهم الذاتية، أقرأ آراءهم وأحدث نفسي أن بإمكاني إنجاز كتابة تشبه ما كتبوه، وأتخيل وجهي على غلاف كتاب من تلك الكتب، ثم أعود إلى مكتبي وأبدأ الكتابة وهذا هو الأهم، حيث أترك عصارة الأفكار تتدفق على الورق ككتابة، ولا أهدرها في الأحلام.

إن قراءة كتاب عن الحبكة لا يكفي لتطوير أسلوبك وإرادتك الكتابية، إذ لا بد من اختبار ما قرأته وتجريب ما استوعبته، ولا بد من تقليب المبادئ التي تعلمتها على النار وتجسيدها على بياض الورق، فعندما تقرأ هذا الكتاب حول الحبكة وهيكلة العمل الأدبي حاول أن تهضم وتجرب ما تلقيته. أحب الكتب المتعلقة بالكتابة ولدي رفوف تزدحم بها، وعندما أطالعها بقراءة أولى أُغرقها بعلامات وخطوط بقلم أصفر، ثم أعيد قراءتها كلها تقريباً مع إضافة إشارات بقلم أحمر لما فاتني في القراءة الأولى، ثم أخضعها لقراءة ثالثة وأحاول إضافة تعليقات وهوامش أخرى، ثم أطبع ملاحظاتي لأستوعب ما قرأته بعمق، لتكون جزءاً مني، ولأوظف كل ذلك الوعي في روايتي المقبلة.

الكتابة لا تكون جيدة أو مقنعة عندما تكون في قبضة القلق، فالدماغ المتشنج يكلّس الحالة الإبداعية، فإذا أردت أن تجعل من الكتابة ضرباً من التمارين العسكرية، وإذا أردت الذهاب لها بوجه منقبض وحاجبين متوترين، فستكون بمثابة من يعمل ضد نفسه، فهذا الكتاب سيهبك تقنية الكتابة بمرونة، بحرية ومرح، ولذلك عليك ألاّ تقلق بشأن مسودة كتابتك الأولى، وهنا لن تتعلم مخطط الحبكة فقط، بل تقنيات المراجعة، لأن الكتابة الأولى هي مجرد انسكاب حر على الورق. ومن المهم أن تحدد لنفسك حصة للكتابة اليومية بانضباطية عالية، وهذه أفضل طريقة للتعلُّم، والكتاب الكبار هم الذين يخصصون لأنفسهم حصة معلومة ويلتزمون بها، إذ بمقدورك عمل جدول أسبوعي إحصائي لعدد الكلمات أو الصفحات اليومية التي حددتها لنفسك، ولتسامح نفسك أن لم تتمكن من الالتزام التام بالمقدار المطلوب ليوم واحد مثلاً، لأن الكتابة اليومية تتحول إلى عادة حياتية على درجة من الأهمية، وستفاجأ بمستوى إنتاجك بعد مدة، كما ستتفاجأ بمستوى الحرفية في أسلوب كتابتك.

الفرق بين الكاتب الناجح والكاتب غير الناجح يكمن في الاستمرار والإصرار على الكتابة، فهناك فيلق من كُتاب الرواية الذين ظلوا لسنوات لا يلاقون أي قبول، ولكنهم واصلوا الكتابة واستمروا لأنهم يحتضنون في داخلهم كُتّاباً، وهذا هو ما أنت عليه الآن، وذلك هو ما أنت بصدده إزاء هذا الكتاب، فعندما أصادف أيا من تلاميذي الكُتاب أكرر كلمتين (واصل الكتابة)، وهذه هي أفضل نصيحة، فهل أنت مقتنع بهذه الحقيقة؟ وهل أنت مستعد لتأليف حبكة تجعل القراء يسهرون الليالي؟ تعال معي لأريك كيف تفعل ذلك.

 

كاتب سعودي

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى