صفحات العالم

نحو شرق أوسط غير مهم/ جميل مطر

 

 

ماذا يساوي الشرق الأوسط؟ سؤال يردده مختصون في الغرب وخارجه. وأظن أنه يستحق أن يناقشه الأكاديميون والسياسيون العرب بموضوعية وهدوء. يقف وراء السؤال، كما هو معلن وغير خاف، الاقتناع المتزايد بأن الشرق الأوسط يفقد أهميته بسرعة ملحوظة وفي مجالات معروفة. لن أقفز إلى نتيجة تنبأ بها غيري، ولن أقول مع القائلين إن الاضطرابات الجارية في شتى أنحاء المنطقة، مؤشر إلى قرب النهاية لمكانة الإقليم. هذا الشرق الأوسط الذي احتل في التاريخ شهرته كمساحة نموذجية للتنافس والصراع بين القوى الدولية لقرون عدة. ولكني أرى بوضوح، ما يراه آخرون يزداد عددهم كل يوم، وهو أن مؤشرات عدة تشير إلى أن الشرق الأوسط كمنطقة حيوية لأمن العالم وسلامه ورخائه دخل بالفعل نفقاً لا أحد يستطيع التنبؤ بدقة معقولة بالشكل الذي سيخرج عليه منه، أو حتى بشكل الساحة الدولية التي سيجدها في انتظاره.

من المؤشرات الأولية التي لفتت الأنظار وخضعت لتحليلات أكاديمية وأمنية، قرار الولايات المتحدة قبل سنوات قليلة، تحويل بؤرة تركيز اهتماماتها الدولية نحو شرق آسيا، والتخفف تدريجاً من أعباء ومسؤوليات القيادة والتوجيه والتدخل في أوروبا والشرق الأوسط. أذكر كيف أن المختصين وصناع السياسة في الشرق الأوسط لم يعيروا الأمر وقتذاك الاهتمام الذي يستحقه لاعتقادهم الموروث آباء عن جدود أن القوى الدولية العظمى لا يمكن أن تتخلى عن الشرق الأوسط ولا تقوى على الابتعاد عنه، ولثقتهم اللانهائية في أن أميركا إن كانت تحاول أحياناً الابتعاد عنه، فلأنها مطمئنة إلى أن قواعدها العسكرية في المنطقة قادرة على صد أي تهديد جدي لمصالحها في المنطقة. النظام العربي الرسمي، كما يعتقد هؤلاء، خرج في الحقيقة من رحم القرن الأميركي، القرن العشرين، ولا يمكن تصور استمرار أحدهما من دون الآخر.

ليس المهم في تحليلنا الراهن لتطور الأوضاع في الشرق الأوسط أن أميركا لم تنفذ قرارها التحول بالتركيز نحو شرق آسيا، ولكن المهم هو أنه على رغم أنها لم تنفذ قرارها فهي أيضاً لم تعد إلى موقعها في الشرق الأوسط، كما لم تعد إلى موقعها في أوروبا. أميركا خرجت، كثيراً أو قليلاً، ولم تعد إلا نادراً وبخطوات حذرة ومترددة.

لم يهتم قادة المال والسياسة والتجارة في الدول العربية بالأسباب التي جعلت أميركا تفكر في التحول بسياستها إلى شرق آسيا، بمقدار اهتمامهم باحتمال أن يكون هذا التحول نقطة تحول تاريخية تؤذن بأن الشرق الأوسط لم يعد ساحة مهمة لأميركا، وهو ما يمكن أن يعني أيضاً أنه لن يكون ساحة مهمة للغرب كله. وإذا كان الغرب وجد مصلحة أكبر في التحول نحو آسيا، فإن حاجة العرب ومصالحهم تدعوهم إلى أن يفعلوا الشيء ذاته، أي أن يتحولوا أيضاً في اتجاه الشرق.

في الوقت نفسه، وكمؤشر له دلالته، تشهد منطقة المحيط الهندي سباقاً يشهد أيضاً على زيادة في مكانتها الاستراتيجية، فنفط الشرق الأوسط الذي لن تحتاج إليه أميركا بعد الآن سيذهب إلى شرق آسيا. ومع النفط تذهب عادة في الاتجاه نفسه التدفقات المالية والاستثمارية. قد نرى قريباً الخليج وقد استعاد عاطفته التقليدية تجاه شبه جزيرة الهند. ونرى فعلاً وواقعاً الصين وقد نشطت في اتجاه إقامة قواعد بحرية للتجارة والتخزين على طول الطريق من بحار الصين الجنوبية والشرقية إلى البحر الأحمر، وفي المقابل نشطت أجهزة حكومية وشركات عربية لتخصيص جانب من خططها التنموية لمستثمرين جدد من شرق آسيا.

وسط هذا الجو المثير استراتيجياً، لاحظنا مؤشراً آخر. لاحظنا أن الغرب، أميركياً كان أم أوروبياً، غير مهتم كثيراً بحرب الإرهاب في الشرق الأوسط. الغريب في الأمر أننا لاحظنا أيضاً أن العرب أنفسهم غير مهتمين بهذه الحرب بالمقدار الذي توقعه في بداية الأمر كل محلل عاقل بريء النية وطيب القلب. دلالة هذه الملاحظات خطيرة، فهي بينما تؤكد احتمال أن يكون الغرب قد قرر أن الشرق الأوسط لم يعد يساوي الانشغال به وبمشاكله، فهي تشير أيضاً إلى أن العرب أنفسهم اكتشفوا أن الشرق الأوسط كساحة وإقليم ومؤسسات إقليمية، لم يعد يستحق ما كان يحظى به، ولو رمزياً، من اهتمام أهله وأقطاره وحكامه.

حقيقة الأمر، فيما يبدو لنا، هي أن القادة العرب، وكذلك الجانب الأعظم من النخبة السياسية والثقافية والتجارية، مهمومون بأمور ثقيلة. هؤلاء المهمومون ثلاثة أصناف، عرب خائفون خوفاً شديداً من أن تصل الفوضى إلى عقر دارهم، وعرب احتلت الفوضى بلادهم، ولا أمل لديهم في إجلائها عنها في أي وقت منظور، وعرب لم يغرقوا كلياً في الفوضى ويحاولون بناء ما تهدم وتحريك ما توقف. يحاولون ويبذلون الجهد مضاعفاً في ظل أوضاع ثورية كامنة تشد أزر أكثر الناس وترفع توقعاتهم وتجدد ثقتهم في أنفسهم وتحفزهم، وفي الوقت نفسه تمسك بخناق بعض آخر.

ما زلنا، في الشرق الأوسط، حائرين أمام ظواهر غير مفهومة تماماً. لم نفهم بعد على رغم المحاولة والجهد، كيف ظهرت تنظيمات إسلامية متطرفة، وبعضها متوحش، بسرعة هائلة وضخامة كبيرة. ظهر تنظيم «القاعدة» وانتشر من أفغانستان إلى كل مكان. وظهرت «الشباب» في الصومال وأقامت، بل وطالت إقامتها على غير المتوقع كلية. وظهر تنظيم «داعش» وتوسع في ظل حالة من الانبهار الإعلامي الدولي والعربي. ونزل الحوثيون من الجبال ليسيطروا على عاصمة اليم،ن وبدأوا يفرضون الهيمنة على أمة سيئة الحظ، وظهرت عصابات في سيناء تتحدى أسئلة عويصة عن حجمها الحقيقي وإمكاناتها ومصادر تمويلها ودعمها وعن توقيتاتها ومستقبل سيناء في ظل استمرارها. المثير في هذه الظاهرة، ظاهرة التنظيمات الإسلامية المتشددة والمسلحة، أنها تجتمع على بدايات متشابهة، حيث النواة صغيرة جداً. فجأة وبين ليلة وضحاها تصبح النواة وحشاً هائلاً برؤوس متعددة وذيول كثيرة ورايات سود وسيوف باترة. تتحول النواة البسيطة إلى قوة كبيرة ومصدر قلق خطير وبتأثير لا يتناسب بكل المعايير مع حجمها ومقدارها. لم يقتصر الأمر على جماعات إرهابية أو تجمعات طائفية ومذهبية وعرقية معظمها صغير جداً وأكثره بالغ النفوذ والتأثير، فقد كنا شهوداً على مرحلة في تطور النظام الإقليمي العربي تولت خلالها واحدة من أصغر الدول فيه مسؤولية القيادة وكانت المحرك لأحداث كبار لمدة عامين على الأقل، وما زال نفوذها بارزاً.

كان الخروج المفاجئ لهذه القوى بقوة كبيرة وتأثير مهم علامة تحول مهمة في الشرق الأوسط، وفي النظام العربي تحديداً، لأنها جاءت في وقت صادف انعزال أو تجميد دور الدول العربية الكبيرة. هكذا استطاعت هذه القوى أن تلعب دوراً نافذاً في صنع توازن قوى جديد في الإقليم، توازن كاف لإبقاء وحدات الإقليم منشغلة دائماً بها وبأنشطتها وطموحاتها على المستويين المحلي والإقليمي. وفي الوقت نفسه نجح هذا التوازن الجديد في استبعاد تجدد التهديد المنبعث من داخل الشرق الأوسط والذي سبق أن مس بالضرر مصالح الولايات المتحدة والغرب عموماً. كان لافتاً للنظر، أو لعله صار الآن فقط لافتاً للنظر، أن الاهتمام في دول الإقليم اتجه نحو الأمور الصغيرة، تكوينات سياسية صغيرة ودول صغيرة وميليشيات صغيرة والأهم في النهاية الاهتمام أو الانشغال بـ «أفكار وسياسات صغيرة».

لا خوف بعد الآن من الشرق الأوسط على سلامة أميركا ومصالحها. أميركا، فيما يبدو، مطمئنة كل الاطمئنان إلى نظام توازن القوى الجديد في المنطقة، توازن قوى الفوضى والإرهاب والثورة وصحوة الطوائف والميليشيات. هذا التوازن الذي يضمن لأميركا انشغال أهل المنطقة بأنفسهم.

أميركا مطمئنة إلى حال مثالية من توازن قوة الصغار وحال مثالية من توازن ضعف الكبار. وبطبيعة الحال هي مطمئنة إلى حال مثالية لتوازن إقليمي بين مجموعة الكبار الذين صاروا أضعف ومجموعة الصغار الذين صاروا أقوى.

* كاتب مصري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى