إيّاد العبداللهصفحات الرأي

«أساطير الآخِرين» والنقد المركب


إياد العبدالله *

عرفت ثقافتنا المعاصرة، النقد ونقده. ثمة أدبيات خاضت في هذا المجال. غالباً ما كشفت هذه العملية عن طرفين، أصحاب «النقد الأول» و «ناقدي نقدهم». وغالباً أيضاً ما ينتصر هؤلاء الأخيرون لأغلب العناوين التي كانت محط اهتمام «النقد الأول». يصح هذا على إسلاميين ينتصرون لمجمل ما يتناوله علمانيون من قضايا إسلامية بالنقد، والعكس هنا صحيح بخصوص نقد الإسلاميين للحداثة. لا يتحرر أغلب «نقد النقد/ النقد الثاني» الذي شهدته حياتنا الثقافية المعاصرة من ربقة «النقد الأول»، يسير وراءه «حذو النعل بالنعل»، فثمة قضايا وخلاصات تم الإعلان عنها، وهو ما ينبغي تفنيده، وربما «تدميره».

يتحرر ياسين الحاج صالح في كتابه «أساطير الآخِرين/ نقد الإسلام المعاصر ونقد نقده» (بيروت، 2011) من الترتيب النقدي السابق، ربما نكون أمام «نقد ثالث» هو تركيب سيظهر كمُّ تعقيده أثناء التعاطي مع مواضيع الكتاب. يتناول الحاج صالح بالنقد كلاً من الإسلام المعاصر والنقد الشائع الموجه له من قبل علمانيين من أهل الحداثة أين ما كانوا، أساطير كل منهما حول ذاته وحول الآخر، ويحاول في الوقت ذاته أن يأخذ المسافة ذاتها بينه وبين كِلا منقوديه المتخاصمين، لكن من دون أن يدعي الانفصال عن أي منهما، فهو ينتمي إلى الإسلام كميراث حضاري كما إلى المشكلات التي أوجبت نقده.

يتناول الكتاب الإسلام المعاصر كبنية استطاعت عبر تاريخها أن تتميز بقضاياها ومفرداتها وأهوائها، وأيضاً كفاعلية نقدية واحتجاجية على هذا العالم، ومن هنا يمكن القول، إن النقد الموجه للإسلام المعاصر هنا، هو في أحد تجلياته، نقد «النقد» الإسلامي لما هو خارجه، للعالم. فهذا «الإسلام» يقول «لا» لهذا العالم، لكل ما هو خارج دائرته. ولطالما ترجمت هذه الـ «لا» نفسها في شكل عنفي مليء بالقسوة، كان من نتائجه انعزال الإسلام وأهله. أصول هذه الـ «لا» تعود إلى تصور إسلامي عن الذات يراها البديل الوحيد والجدير عما هو قائم، فالإسلام، وفق أيديولوجييه المعاصرين، يتضمن علوم الأولين والآخِرين، إنه ترتيب شامل للحياة لا تفوته حتى التفاصيل، هو الدولة والأمة والقانون والعلم والثقافة والأخلاق والحرب. من هنا تأتي صفة «اللاشكل» التي يعطيها ياسين لمثل هكذا «إسلام»، فما هو الترتيب الذي يدّعي أنه كل ما سبق، ويمكن في الوقت ذاته أن يكون مضبوطاً ومفهوماً؟ إنه اللاشكل، لأن ليس كمثله شيء، الفريد، وبالتالي هو عصي على أن يعقل ويفهم، ولا يمكنه أن يكرس ذاته على العقول والأفهام إلا من خلال العنف والتقديس، وهذان سمتان تميزان الإسلامية المعاصرة. العالم القائم فاسد؟ نعم إنه كذلك، إنه يعج بالنقائص في ما يخص العدالة والمساواة والاحترام، هذا أساسي عند الوقوف على أسباب العنف الإسلامي القائم، ومع هذا فإن إصلاح العالم يكون بالانخراط فيه لا الانعزال عنه وتوهم الانفصال الذي تكذبه وقائع التبادل معه على صعد مختلفة. في جانب منه، يعتبر الإصلاح الإسلامي مرتبطاً بمشروع إصلاح هذا العالم.

ثمة «لا» نقيضة، هي «لا» للإسلام. أحد نتائج هذه الـ «لا» الكارهة للإسلام، أنها تمد أيديولوجيي هذا الأخير بحوافز ومبررات تجعله أكثر تمسكاً بـ «لائه» الكارهة للعالم أيضاً. يحاول ياسين الذهاب نحو مقاربات خارج هذين «الفسطاطين»، يستعين ببعض المفاهيم التي أنجزت في هذا الحقل، لكن ليضفي على بعضها أبعاداً أخرى تغاير أو تغني دلالاتها الأصلية، كما أنه يجترح مفاهيم ومقاربات تحلق خارج ما هو شائع في هذا المجال. «فتح الإسلام» على آفاق جديدة وأكثر رحابة، وبما يعيد ترتيب أولوياته وعلاقاته التي سادت عبر تاريخه، إحدى الغايات التي يصرح بها ياسين في كتابه، إنه «استقلال ثالث» من حيث الترتيب الزمني بعد الاستقلال الحاصل عن الاستعمار والاستقلال المرجو عن الاستبداد الذي بدأت تلوح أفقه عربياً. ولكنه استقلال «أساسي» إذا لم ننله كانت الخسائر فادحة.

في الكتاب أطروحات «جريئة»، منها ذلك «التمرين الذهني» الذي يدعونا إلى التفكير فيه، حيث يطرح فيه معادلة مغايرة لما هو رائج في هذا السياق عند غيره ممن ينطلقون من أرضية الحداثة: أن شرط إصلاح الإسلام يكون بمركزة ومأسسة السلطات الدنية المبعثرة التي هي واقع حاله هذه الأيام. بل يمكن أن يكون شرط العلمنة بحد ذاته هو توحيد وتقوية السلطة الإسلامية لا إضعافها، فمن شأن مؤسسة مستقلة وقوية وذات شخصية أن تسعى إلى استقلالها عن الدولة التي خسر «الإسلام» كثيراً من شخصيته تاريخياً وهو «يحرسها». الإسلام السُنِّي هو المقصود هنا، إذ إن الشيعي ونتيجة إقصائه عن السلطة تاريخياً، استطاع أن يبني فاتيكانه/ مؤسسته. ولكن، هل حققت المأسسة الشيعية ما يفترض ياسين تحقيقه في حال المأسسة السُنِّية؟ على امتداد صفحات طويلة يخوض ياسين في أفكار عدة لتوضيح احتمالات تمرينه ومآلاته، مستعيناً بما يوفره التاريخ الإسلامي والغربي من أمثلة وحالات، وناقداً دعاة الفصل الذين يمدون بساط العلمانية على «قَدِّ» بساط التجربة الغربية. ولكن في الوقت ذاته إلى أي حد نجح ياسين في التحرر من أسر القياس على الغربيين الذين حضرت تجربتهم في محاكمات ياسين ونتائجه؟ هذا رأي أوَّلي حول هذا التمرين الجدير بالتأمل، وهو يحتاج إلى تناول وتفكير عميقين، وربما ستكون لنا عودة قريبة لتناوله في شكل مستقل.

الكتاب جدير بالقراءة والتأمل، والنقد.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى