حمّود حمّودصفحات الرأي

«الأردوغانيّة» و«الإخوان المسلمون» على مفترق طرق


حمّود حمّود()

كان من المتوقع أنْ يثيرَ رجب طيب أردوغان أثناء زيارته الأخيرة لمصر الإشكاليّة التي لم ينتهِ الجدل حولها وتحديداً عند الإخوان المسلمين بما يخص «النموذج التركي« لدول المنطقة. لم يكن ثمة جديد في تصريحات أردوغان حينها سوى أنّه دخل في صلب الجدل قليلاً حول حديثه عن «وقوف الدولة مسافةً واحدة من كل الأديان» وبأن الدّولة العلمانيّة لا تعني اللادينية..، مما أثار حفيظة بعض القادة الإخوانيين، معتبرين ذلك «تدخّلاً في الشّؤون الدّاخلية للبلاد»، وكأنّهم لأوّل مرّة يتعرّفون على طبيعة هذا النموذج، رغم أنّ الإخوان المسلمين كانوا، وما زالوا، هم الأنشط من بين الكلّ في الترويج للنموذج التركيّ (في الثامن من شباط (فبراير) 2011 صرح أشرف عبد الغفار، القيادي في جماعة الإخوان المسلمين، من اسطنبول، بأن حركته تنظر إلى حزب العدالة والتنمية ليكون «نموذجاً لمصر بعد مبارك»، وبعد يومين أشار إلى أن ليس ثمة اتصالات مع العدالة والتنمية، لكن«قد يكون هناك حوار» معهم؛ وقل الأمر نفسه بما يخص الإخوان السوريين، و«النهضة» التونسية بقيادة الغنوشي، والأخير يُعتبر من أكثر الإسلاميين ترويجاً للنموذج التركي).

لكن ماذا لو صرّح أردوغان ونادى بشعارات الإخوان وألحّ على إسلاميّة الدستور المصريّ، وقال إن «الإسلامَ هو الحل» بعد الإطاحة بمبارك… هل سوف يَعتبر الإخوان ذلك تدخلاً في شؤون مصر؟ هنا، ربما تقع إشكاليّة تجربة كل من «حزب العدالة والتنمية» (AKP) والإخوان المسلمين «المفترقتين» و«المتمايزتين»، وتحديداً بما يخص الشرعيّة الوطنية لكل منهما والنظر إلى الدولة ككيان محايد: التجربة السياسيّة التي ولد من رحمها أردوغان فرضت عليه أن يصرّح أنّ على المصريين: «كتابة الدّستور في مصر يوضح أن الدّولة تقف على مسافة واحدة من كلّ الأديان». لم يكن مفاجئاً أن يتحفّظ الإخوان على هذا، لأن رؤيتهم السياسيّة تقف على النّقيض من استحقاقات مثل هذه التّصريحات؛ وهو ما يطرح أيضاً تساؤلات مرةً أخرى حول معنى «مدنيّة» الدولة التي ينادون بها.

بالأصل، لم يستمد الإخوان مشروعيتهم من إطار شرعيّة الدولة، ومن أجل الدولة، بل من خارجها، أي: إيديولوجية على الدولة، ومن أجل إحياء مشروع قد قضى عليه كمال أتاتورك 1924، وذلك بخلاف حزب «العدالة والتنمية»، الذي ولدت مشروعيته من شرعيّة الدولة العلمانيّة التي بناها أتاتورك. وبخلاف العلاقة بين الإسلاميين الأتراك وبين سلطة الدولة قبل فوز «العدالة والتنمية» 2002، فإنّ هذه العلاقة بخصوص الإخوان العرب مع حكامهم لم تكن يوماً تكامليّة، وإنما تصادميّة، وفي بعض الأحيان تكفيريّة عنفيّة.

هكذا، ثمة شرعيتان، شرعيّة إحيائيّة ليوتوبيا تقع خارج الدولة (الإخوان)، وأخرى ولدت من رحم الدّولة العلمانيّة (العدالة والتنمية). وبالرغم من نيل الإخوان الشرعية بعد نجاح الانتفاضة المصرية، لكن البراديغم الإيديولوجي للإخوان ما زال قائماً إلى الآن، لذا كان من الطبيعي أن يتحفظوا على ما نطق به أردوغان. وهنا ثمة نقطة يمكن أن تضيء بعضاً من جوانب هذه المسألة:

في بدايات النّصف الثاني من القرن العشرين، في الوقت الذي خصّص فيه الإخوان المسلمون فصولاً في التّنديد بحكومات القرن العشرين العربية، ووضعها من ثمّ في «عوالم الجاهلية» (سيد قطب) بكونها حكومات «غير شرعية»، لأنّها لم تكن تستلهم شرائع السماء، كان الأتراك ذوي التّوجّهات الإسلاميّة والذين ولدوا من رحم السياسة العلمانية التي بناها أتاتورك، قد بدأوا بوضع أقدامهم في الحياة السياسية التركية (ببروز الوجه «الإحيائي»، نجم الدين أربكان، في ستينيات القرن الماضي)، لكنّهم لم يصلوا في أيّ وقت منذ أيام أتاتورك إلى أردوغان، لما وصل إليه الإخوان، بأنْ وصفوا حكّامهم بأنّهم «جاهلون»، وفاقدون للشرعيّة، بالمعنى الديني للكلمة. من هنا لم ينظر الإخوان إلى الدولة التي بناها عبد الناصر، سوى أنها خروج على المشروعيّة.

هذا أحد الفوارق الذي يُميّز آلية تفكير الإخوان العرب عن أشقائهم الإسلاميين الأتراك في النظر إلى خصومهم السياسيين. وقس على ذلك، النّظر إلى كيان الدّولة والمجتمع…الخ.

على العكس من ذلك، لقد اتّبع الإسلاميون الأتراك وبخاصة قادة العدالة والتنمية، متجاوزين أخطاء أسلافهم الإسلاميين، القاعدة التي تقضي بـ «استيعاب» حُرّاس علمانيّة الجمهوريّة التركيّة إلى أبعد حد، وبذكاء لم يحصل عليه الإخوان العرب إلى الآن: «كنْ لطيفاً مع المؤسسة العلمانيّة في حال عدم تعاونها، وتجنّب الاصطدام معها مهما أمكن». وهذا بخلاف الإخوان الذين كان لكل فرع منهم محطات صداميّة «داميّة» مع قادتهم، سواء بالقيام بعمليات اغتيال (اغتيل رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي في 28 ديسمبر (كانون الأول) 1948 في القاهرة على يد الإخوان) أو بالوصول بالعنف إلى ذروته كما حصل في سوريّة البعث حينما أُعلن «الجهاد» بواسطة تشكيل «الطليعة المقاتلة» (الجناح العسكري للإخوان السوريين) ضد قادة البعث «العلمانيين».

لكن لماذا الإخوان المسلمون أكثر من أيّ فصيل سياسي عربي آخر يتكلم وينادي بتطبيق النموذج التركيّ، وبخاصة الآن بعد نجاح بعض الانتفاضات العربية، حتى أنه أصبح حديث موسم الإخوان؟

حركات الإسلام السياسي عموماً ومنذ تبلورها في إطار إيديولوجيّة إحيائيّة خلاصيّة، لم تستطعْ أنْ تسيطرَ على المزاج الشعبيّ أو الجماهيريّ منذ أيام حسن البنا إلى الآن، فضلاً عن عدم تقديمهم أيَّ مشروع حقيقي يمكن أن يشكل بديلاً حقيقياً عن الديكتاتوريات العربيّة. ونتيجة هذا الإخفاق، يتم الالتجاء للحديث بقصص النماذج (مرة إيرانيّ، وأخرى ماليزيّ، والآن تركيّ)، ليتكثّف الحديث أكثر في الوقت الحالي، بُغيةَ وضع قدم قوي لهم (وهو ما يجري حاليّاً)، في ظل التغيرات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

ترتدّ إشكاليّة نظر الإخوان عموماً إلى حزب «العدالة والتنمية»، أنّهم لطالما قايسوه بأعينهم هم، ولم يُقرأ بسياقه التاريخي والسياسي والاجتماعي الذي نشأ فيه. مثل هذه المقايسة، غلب عليها الطابع الإيديولوجيّ المثاليّ، الذي اختلطت فيه أيضاً شهوة الوصول إلى السلطة…الخ.

هكذا، لم يقرأ «العدالة والتنمية» إلا بكونه كياناً إيديولوجيّاً إسلاميّاً، منفصلاً عن السياق السياسيّ التركيّ، قد وصل إلى السّلطة، واستمر في نجاحه إلى الآن بفوزه لثالث مرة في الانتخابات؛ وهذا ما مثّل حالة «إغراء» قويّة للإخوان المسلمين، أن يتمثّلوا ويطالبوا بتطبيق النموذج التركيّ «الإسلاميّ».

لكنَّ النظر إلى «العدالة والتنمية» بكونه «نموذج إسلاميّ»، لم يقتصرْ فقط على الإخوان المسلمين، بل شاركهم في ذلك أيضاً كثير من الأحزاب العربيّة، التي ينتهج بعضهم خطاً ليبرالياً وعلمانياً، وبخاصّة حينما تُثار مسألة أنّ هذا النّموذج استطاع المزاوجة بين الإسلام والديموقراطية…الخ. وهذا ما أعتقدُه قراءة تقفز على السياق السياسي التركي.

بالرّغم مما يقال عن استثنائية ما قدمه حزب العدالة والتّنمية كـ تجربة إسلام سياسي ناجحة، إلا أن الحزب عينه لا يُعرّف نفسه بأنه حزب «إسلامي» يعتمد في سياسته وخاصة الداخلية- على إيديولوجيّة الإسلام السياسيّ. فهو «حزب محافظ من الناحية الاجتماعية، ولكنه ليبرالي من الناحية الاقتصادية». هويّة الحزب هذه، هي ما يسمح له أن يصف نفسه بـ «الديمقراطية المحافظة».

إذا كان الثلاثي الكاريزميّ (أردوغان، أوغلوا، غُل) ذوي أصولٍ إسلاميّة وربما إخوانية يمسكون بالحزب، فإن حزبهم الذي استفاد من تجربة «حزب الرفاه»، ومن ثمّ «الفضيلة»، لا يمكن أن يُعزى بأيّ حال إلى أيّ تجربة إسلام سياسيّ، بالمعنى الذي تقدمه معظم أطياف الإسلام السياسي العربيّ وبعض الأحزاب العربية؛ وإلا لو اختطّ أردوغان مثلاً نفس خطى أربكان، فلن يُكتَب له النجاح في الدّولة «العلمانية» التركيّة.

أربكان نفسه، أبو الإسلام السياسي التركي، اتّهم مرّة أردوغان (في حوار مع الشرق الأوسط 22 /10/ 2007) بأنّه: «تلميذ فاشل هرب من الباب الخلفي للمدرسة (مدرسة الإسلام السياسي). هو أتى للمدرسة، لكنْ لم يستمعْ للدرس… حزب العدالة والتنمية لم يسر على نفس خطواتنا»، موجّهاً أي أربكان- له بطرف خفي تهماً بالصهيونية، وأنّ حزبه هو للقضاء على تجربة الإسلام السياسيّ التركيّ…الخ.

وبغض النّظر عن تلك التّجاذبات والاتّهامات بين هؤلاء القادة، لكنْ تبقى تجربة «العدالة والتنمية» تجربة فريدة، لا بدّ من درسها في سياقها التاريخيّ الذي صعدت من خلاله.

() كاتب سوري

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى