صفحات الثقافة

«حرائر»… بلا حرير

 


عبده وازن

شاهدت في يوم «جمعة الحرائر» على إحدى الشاشات الفضائية مشهداً لنسوة سوريات انحنين على امرأة أصيبت بالرصاص ورحن يولولن ويبكين غير آبهات للرصاص الذي كان يئزّ في الهواء. كان المشهد أليماً جداً. فالمرأة التي سقطت أرضاً بدت كأنها تتخبط في دمها ولم يكن أمام النسوة اللواتي كنّ يرافقنها إلا أن يرثين لحالها، فهن كنّ عاجزات عن إسعافها في تلك اللحظات الرهيبة. أما الأشدّ إيلاماً ومأسوية في ذلك المشهد فهو سقوط «شدّتها» أو «طاقم أسنانها» على الأرض، بعيداً منها نحو مترين. وهذا يدل أن هذه السيدة ليست بصبية ولعلها عجوز أو في مطلع خريف العمر على الأقل.

سقط من فمها «طاقم» أسنانها الذي حرصت – ربما – دوماً على اخفائه خجلاً أو تحاشياً لتهمة الشيخوخة.

كان هذا المشهد من أقسى ما شاهدت خلال «جمعة الحرائر». سقطت نسوة أخريات في المدن السورية، جريحات أو قتيلات، لكن هذه السيدة كانت الأشدّ انكشافاً مأسويّاً. سقطت أسنانها المستعارة معها، وربما قبل أن تسقط مضرّجة بدمها. ركزت الكاميرا على «طاقم» الأسنان مثلما ركّزت على النسوة النائحات اللواتي انحنين على الضحية وكأنهن جميعاً الأم الحزينة المنحنية على ابنها المجروح.

لا أدري لماذا تألمت كثيراً أمام هذا المشهد التلفزيوني. تخيلت هذه المرأة أماً وجدّة، أبت إلا أن تخرج في يوم الجمعة ذاك الذي سمّي «جمعة الحرائر». شاءت أن تتظاهر وترفع صوتها ضد الظلم الذي شعرت انه حلّ بها أسوة بمواطنيها. كانت فكرة «جمعة الحرائر» بديعة جداً، وظنّ «مواطنو» الشاشات الفضائية أن البنادق والدبابات لن توجه على قامات النسوة اللواتي خرجن ينادين بالحريّة. لكن الخيبة كانت كبيرة، فالنسوة الحرائر هنّ في نظر السلطة مثل الرجال الأحرار…

بدت صفة «الحرائر» التي أطلقت على النسوة السوريات معبّرة جداً وموحية. فحرائر هي جمع حرّة مثلما أحرار هي جمع حرّ. انهنّ النسوة الحرائر في ما تعني الحريّة من نضال وجرأة واحتجاج. ليـسـت «الـحـرائر» هنا جمع «حرير» كما يفيد المعجم العربي، وإن كان الحرير يليق بالنسوة عادة. لكن حياة النسوة السوريات اللواتي شاركن في التظاهرات وواجهن البنادق والدبابات ليست بحياة حريرية.

لا أعلم إن كان أحد ما التقط طاقم أسنان تلك السيدة أو الشهيدة عن الأرض فلا تطأه أقدام العسكر أو جنازير الدبّابات. فهذا الطاقم الذي يعد من حـميـميـات الإنسان لا يـسـتحـق أن تـدوسـه الأقـدام وإن رحـلـت صاحـبته.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى