صفحات الناسعلي جازو

“آرتا”: صوت الداخل الكردي/ علي جازو

أخيراً وجد سكان عامودا ما يمثل موقف مدينتهم الحقيقي والشجاع، ويوسع من انتشار صوتها الوطني الكردي السوري، في الداخل والخارج. لعلّ العمق الأساسيّ والتحول الكبير لما قدمته الثورة السورية من ديناميكة اجتماعية أنّها أعادت للشباب حسّهم الوطني ورغبتهم في المشاركة الفاعلة بالشأن العام. لا تختصر المشاركة في جانبها السياسي أو العسكري، رغم طغيان أخبارهما على بقية الأخبار، يضاف إلى ذلك أن الفئة الأكبر من الجيل الشاب لم يسبق لها الانتماء لأحزاب سياسية في ظل عدم وجود حياة سياسية في سوريا “الأسد”. ثمة كثير من النماذج التي قطعت شوطاً بعيداً في تحول اجتماعي غير مسبوق، وتجاوزت عمل المعارضين السياسيين أنفسهم.

 من بلدة عامودا، الكردية السورية، أقصى شمال شرقي سوريا، تلك البلدة التي أسقطت نصب حافظ الأسد مرتين (2004 و2012)، وتعرض شبابها الثائر لمذبحة 27 – 28 حزيران الفائت على أيدي عناصر “قوات الحماية الشعبية” التابعة لحزب الاتحاد الديموقراطي (P.Y.D)، بدأت “آرتا أف أم” (ARTA FM) بثّها قبل نحو شهرين. وفي حين نشبت معارك الجهاديين ومتطرفين إسلاميين، وبين قوات كردية سورية في ريف الرقة والحسكة والقامشلي، ما أدى إلى فرار عشرات الآلاف إلى كردستان العراق، استمر شبان وشابات في العمل تأسيساً لأول إذاعة محلية كردية سورية.

ليس هذا وحسب، فبرامج الإذاعة وأخبارها تغطي المعارك، ومستجدات الأوضاع المعيشية والخدمية، إضافة إلى مقابلات مع الأهالي، واستعادة لأغان قديمة وأغان رافقت الثورة، كما تغطي تراث الجزيرة السورية الخصب والمتنوع. كل ذلك يبث بلغات ثلاث هي الكردية والعربية والسريانية. لعله درس بطولي ونادر في قوة جيل، مدني النزعة. جيل سلمي وطموح ومتجدد وجد في تبنيه خيار العمل الثقافي المدني المجتمعي، غير المنحاز إلى طرف سياسي محدد، الخيار الأفضل والأقرب إلى روح ومبادئ الثورة السورية المدنية السلمية. إنها لمفارقة بالفعل، أن يبادر الأضعف والمهمش إلى ابتكار وصنع عمل من لا شيء تقريباً، وبأبسط الإمكانات. فلا صحافة في المنطقة، ولا دوريات منشورة ولا معاهد إعلامية، لكن هؤلاء الشباب تلقوا دورات إعلامية مكثفة ونزلوا إلى الشارع وبدأوا العمل. شيئاً فشيئاً، تطور عمل الإذاعة، واستطاعت وصل الداخل الكردي السوري المحاصر بالخارج، وعقدت حواراً منفتحاً بين مختلف مكونات المنطقة، من دون أن توحي بتفضيل أحد على آخر.

ليس هذا فقط، بل تقوم الإذاعة بعمل ثقافي وسياسي مركب، إذ تركز بداية على المشاكل الاجتماعية، على الأحداث الراهنة والقديمة لتاريخ المنطقة المشوه والمنسي وغير المدوّن. تستضيف شخصيات ثقافية، عربية وكردية ومسيحية، وسياسيين وطلاباً وأساتذة مدارس وربات منازل. لكن الخشية ألا يسمح للإذاعة بتمديد رقعتها الإعلامية، مع وجود قضية أساس تخص أهالي البلدة، والدور الذي يفترض أن تؤديه لجنة التحقيق الكردية المرسلة من كردستان العراق للتحقق من حقيقة ما جرى يوم 27/ 28 حزيران، والمسؤولية المباشرة لقوات الحماية الشعبية عن مقتل الشهداء وحصار البلدة ومنع التشييع، وما تلا ذلك كله من اعتقالات تعسفية وتعذيب.. فلا يُتوقع أن تسمح القوات التابعة للاتحاد الديموقراطي، بسبب سلوكها الاحتكاري والاستبدادي، للإذاعة بالعمل وفق صيغتها المنفتحة والجريئة والبعيدة من التكتلات الحزبية وخلافاتها السقيمة، لا سيما أن “آرتا أف أم” تطرح نموذجاً إعلامياً وثقافياً شديد الاختلاف عن نموذج الإعلام المركزي المتخشب، الشبيه بإعلام النظام، وإن كان بلسان كردي فصيح، والذي تعتمده الآلة الإعلامية الحزبية وتلفزيون (RONAHI) التابع لـ(P.Y.D ).

عسى أن يأتي يوم تنزل فيه المواجهات من أفواه البنادق إلى أقلام الصحافيين، المذيعين الشباب والمذيعات الشابات. تخطّى هؤلاء عالم الأحزاب الشمولية، ودرب الآلام السورية القاسية أنضج تجربتهم في زمن قياسي. هي فرصة نادرة، لعمل جديد وغير نموذجي. هنا تولد تجارب، لا نعرف إن كانت ستسمر أم لا، غير أن ما يقوم به هؤلاء في ظروف قاسية تكاد لا تتوافر فيها الشروط الخدمية الأدنى لحياة عادية، هو مبعث احترام وتقدير. الجدير بالذكر أن راديو “آرتا”، والكلمة تعني “الحقيقة” باللغة الكردية، هو واحد من مشاريع المركز السوري للاتصال والتعاون في المناطق الكردية ( SCCCK).

 تُبثّ برامج راديو آرتا إف إم على الموجة 99.5 ، أو عبر الانترنت: www.arta.fm

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى