صفحات سورية

آفاق الحلول للقضية السورية

رياض نعسان أغا

يقول الثوار في سوريا لا حل إلا برحيل الأسد والنظام معاً، ومحاسبة القتلة المجرمين الذين شاركوا بإبادة المدن والقرى، وقصفوا شعبهم بكل أنواع الأسلحة، من المدفعية والدبابات والطائرات الحربية إلى الصواريخ البالستية شديدة التدمير، فضلاً عن عشرات الآلاف من المعتقلين الذين يتعرضون لأنواع شبه خيالية من التعذيب. وفوق ذلك تشريد الملايين خارج سوريا وداخلها، وتعريض الشعب الثائر إلى مجاعات وعطش، من خلال الحصار القاتل الذي بدأ في درعا مع بداية الأحداث بحرمان الأطفال من الحليب، ما دعا بعض الناشطين والمثقفين الذين كانوا موالين للنظام إلى إصدار بيان اشتهر باسم “بيان الحليب” وتم اعتقالهم، وتوالت التصرفات الحمقاء التي جعلت نار الثورة تتقد، ولاسيما بعد أن تم تهجير أول دفعة نازحين إلى تركيا. وكنت شخصياً أحد المطالبين بتوفير الحليب للأطفال والأدوية للجرحى، واقترحت تشكيل وفد من شخصيات اعتبارية من النظام ومن المستقلين يذهب باسم الدولة إلى النازحين إلى تركيا، ويعيدهم إلى قراهم ضامناً لهم الأمان قبل أن يتسع الخرق على الراقع. وكتبت في هذه الصفحة من “وجهات نظر” مقالاً بعنوان “دعوة إلى حوار وطني” بتاريخ 22/4/2011، فانهالت عليَّ الشتائم النظامية المقذعة لكوني أتعاطف مع “قتلة” و”مجرمين”! وقال لي من يمثل عقلية الإبادة من الحمقى “عليك أن تطالب بإعدامهم فهم جراثيم ومجرمون”! وأيقنت إذاك أن سوريا ستمضي بقيادة هذه العقلية المستبدة إلى الجحيم.

وأعترف بأن مخيلتي لم ترسم قط صورة للجحيم تضاهي ما حدث حقيقة في سوريا، ربما لأن تصوري لجهنم كان على كل القسوة الرمزية مشفوعاً برحمة الله التي وسعت كل شيء. وأما جهنم التي يصطلى فيها شعبنا، فقد خلا قاموسها من كلمة الرحمة ومن معانيها، وهذا ما جعل الناس يجدون أنفسهم مضطرين لحمل السلاح لمقاومة هذا العنف المجنون الذي استدعى تصاعد العنف في الرد. وظهرت تنظيمات وصمت بأنها إسلامية إرهابية متطرفة، ولكن الشعب لم يهتم بهذا التوصيف، فقد التف حول من يدافع عنه ويحميه، وهو ينادي على مدى عامين كما لم ينادِ شعب قبله “يا الله ما لنا غيرك”.

كان الناس في سوريا يتوقعون حلاً سريعاً تضمنه نخوة دولية تتعاطف مع مطالبهم بالحرية وتعينهم على إقامة دولة مدنية، ولم يخطر على بال أحد -إلا من ندر- أن يقف المجتمع الدولي موقف العاجز المتفرج، مكتفياً بالتعابير الدبلوماسية التي لم تعد ذات مضمون في مزاد التصريحات اليومية التي تتداولها وسائل الإعلام. وإزاء تصاعد العنف لقمع الثورة طالب بعض المعارضين بحظر جوي أو تدخل خارجي يمنع تدمير المدن وإبادة الشعب، وطالبوا بتسليح الثوار، ثم اكتشفوا أن من يتفاءلون بدعمهم هم في الحقيقة يدعمون النظام علناً أو سراً خوفاً من انتصار الثورة وتبدل الموازين في المنطقة، ما قد يشكل تهديداً لمستقبل إسرائيل.

ومع أنني كنت وما زلت ضد أي تدخل عسكري خارجي، إلا أنني لم أصدق قط أن “الفيتو” الروسي والصيني كان معاكساً لإرادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وقد أدرك المعارضون أنها تمثيلية دولية، نتج عنها تدمير سوريا وإعادة كثير من مناطقها إلى العصر الحجري، والسماح بظهور “التطرف، والإرهاب، والسعي لتحويل الثورة إلى حرب أهلية طائفية، وتدويل القضية، وسحب القرار من يد الثوار والنظام معاً”.

وقد فوجئ السوريون بأن يصير المتحدث الرسمي باسم الحكومة السورية وزير خارجية روسيا، وأن يصير مفتاح الحل بيده مع نسخة منه بيد وزير الخارجية الإيراني، والأميركان والأوربيون يأسفون ويعبرون أن لديهم رؤية مختلفة، ولكن “كيري” قال مؤخراً إن إعلان جنيف هو الحل، وفيه حفاظ على النظام، وتبرئة للقتلة والمجرمين، ولأنه رأى صواريخ “سكود” تدمر المدن وتقتل الشعب بالآلاف وعد بالسماح للمعارضة بأسلحة غير مميتة، وخشي أن تصل إلى الأيدي الخطأ، وعبر عن رؤية حل إعلان جنيف بحكومة تضم النظام والمعارضة معاً، ولم يفسر الإعلان موقع الأسد من هذه الحكومة.

ومع أن الأميركان يعلنون أنهم مع وحدة التراب السوري، ويرفضون أية دعوة للتقسيم، إلا أن ما حدث في مناطق تلكلخ ويبرود والهجمة العنيفة الراهنة على حمص، واحتلال “حزب الله” لعدد من القرى السورية التي تشكل امتداداً جغرافياً لدويلة علوية شيعية ترسم طرقاً عبر البادية السورية إلى العراق يضمن استمرار النفوذ الإيراني، وطرقاً نحو جنوب لبنان الذي يسيطر عليه الإيرانيون أيضاً، وتفريغاً سكانياً لمناطق جبال التركمان، ربما تتبعه حملة تطهير عرقي لإجبار أهل السنة على الهجرة من الساحل والجبال المتاخمة للحدود مع تركيا، وكل ذلك يوحي باحتمال وجود خطة للتقسيم. ويقال إن مناطق العلويين صارت ثكنات عسكرية جهزها الروس والإيرانيون، ونقل النظام إليها أهم أسلحته التي انتشرت على الجبال المطلة على منطقة الغاب.

ومع قناعتي بأن عامة العلويين يرفضون أية فكرة للتقسيم، لأنهم سوريون قبل أن يكونوا علويين، ويرفضون أن يعيشوا في “كانتون” مغلق، وفي دويلة لن تعرف الاستقرار ليلة واحدة ولو بقيت قائمة مئة عام، وبالطبع يتم تصور هذا الحل الواهم مع تشجيع قيام دويلة سنية إسلامية متطرفة في الشمال، يعاديها العالم كله ويحاصرها ويحاربها، وسيكون مناسباً للأشقاء الأكراد أن يطالبوا بكردستان سورية! وما قاله المالكي في تخوفه من انتصار الثورة السورية هو تعزيز لجعل التقسيم حلاً ضامناً لرؤيته الطائفية، وحفاظاً على تقدم المشروع الإيراني الذي سيشغل المنطقة كلها بصراع سني شيعي، يصير الصراع العربي الإسرائيلي إزاءه هامشياً! وعلى رغم هشاشة هذه الرؤية في التقسيم والشك في كونها أضغاث أحلام، إلا الخطر من سايكس- بيكو القرن الحادي والعشرين، بحيث يعاد تشكيل المنطقة عرقياً وطائفياً حدس قائم ومريع.

ومع أن القضية السورية تزداد تعقيداً، إلا أنني أرى أن الحل لا يزال سهلاً وضامناً لسلام المنطقة كلها واستعادة الأمن والاستقرار فيها، وهو ببساطة أن يتنحى رجل واحد عن موقعه الرئاسي، وفي النظام رجال شرفاء كثر قادرون على إنقاذ مستقبل سوريا بحوار عقلاني يضمن كل الحقوق، وينقذ السفينة قبل الغرق الأخير.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى